الساعات الثلاث التي حملتنا خلالها مروحية "تشينوك" الضخمة من معسكر "عريفجان" في جنوبالكويت إلى مطار النجف في العراق، أعطتنا صورة كافية عن الطريقة التي سقط بها العراق أمام القوات الأميركية - البريطانية. فعلى مدى 500 كيلومتر قطعناها على ارتفاع 50 قدماً 15 متراً فوق صحارى شمال الكويت، ثم السباخ جنوب نهر الفرات لم يظهر أثر للحرب سوى الذي تركته آلاف الدبابات والعربات العسكرية بأنواعها، وهي تندفع نحو العمق العراقي. فلا خطوط دفاعية عراقية ولا استحكامات، بل مجرد دبابة مضروبة أو شاحنة محترقة كل بضعة كيلومترات لا أكثر، وبعضها كان من مخلفات حرب 1991. كان على مروحيتنا أن تتزود الوقود في منتصف الطريق. وتوقعت مهبطاً صحراوياً نائياً لهذا الغرض، غير اننا فوجئنا أنها تهبط في قاعدة جوية عراقية قرب الناصرية، اسمها قاعدة "الطليل". لم يكتف الأميركيون بالاستيلاء على هذه القاعدة، خلال زحفهم، بل نفضوا عضلاتهم اللوجستية وحولوها بالكامل، وفي غضون أيام، إلى قاعدة أميركية خالصة. إذ رابضت فيها عشرات من مروحيات "بلاك هوك" و"اباتشي". وأقام المهندسون الملاجئ المحصنة التي كانت تؤوي مقاتلات "سوخوي" العراقية التي خرقتها القنابل، ملاجئ لقاذفات سلاح الجو الأميركي "ايه - 10" صائدة الدبابات. وهبطت منها أربع في القاعدة بعد وصولنا إلى هناك بدقائق. وعلى الأرجح جاءت بعد قصف أهداف في تكريت أو الموصل. وحول القاعدة نصبت بطارية "باتريوت". وغادرت بنا المروحيات "الطليل" نحو طريق يحاذي وادي الفرات في اتجاه الشمال الغربي. وبدأ بعض المظاهر الزراعية بالظهور، ثم غابات متفرقة من النخيل، ثم بدا أن طيارنا سيهبط بنا في حقل برسيم أو الجت كما يسمى محلياً، لكنه هبط على مدرج طائرات ضيق تحيط به بساتين مزروعة بالبرسيم وينتشر فيها مزارعون فقراء. كان هذا مطار النجف، أو قاعدة "رام" بحسب التسمية الأميركية الجديدة له. واستقبلنا هناك الميجر باتريك من الفرقة ال101 المجوقلة التي تقع النجف وكربلاء ضمن مسؤولياتها. قال لنا أعددنا لكم سيارة "لوموزين" وهي عبارة عن شاحنة عسكرية غليظة جرى حشرنا، نحن 18 صحافياً مع 3 جنود فيها. وسرنا نحو النجف وسط قافلة حراسة من الأمام والخلف. وعند نقطة في أول البلدة القديمة توقفت الشاحنة. وقال الميجر: "هذه منطقة الصحن الشريف ونحن لا ندخلها احتراماً للمسلمين الشيعة. وعلى من يرغب من الصحافيين في الذهاب فليفعل وحده". لكن ما أن نزلنا من الشاحنة حتى تجمهر مئات من المارة وطوقوا الشاحنة، ثم خرجت سيارة اسعاف من جهة الصحن تحمل مصابين ملطخين بالدم. وصرخ بعض المارة: "قتلوا السيد عبدالمجيد الخوئي ودنسوا مرقد الإمام". كان الحادث حصل قبل وصولنا بدقائق. وكانت "دراما" مفاجئة ليست ضمن "برنامج الزيارة". وهتف بنا الميجر باتريك لنغادر الموقع بسرعة، فالوضع ليس آمناً، وهو ما حدث وتوجهنا إلى موقع في جنوب النجف فيه مبانٍ نصف محطمة ومحاطة بسياج. كانت هذه هي "المدرسة العسكرية في النجف" سابقاً، والآن هي المقر الموقت للكتيبة الثالثة للفرقة المظلية ال101. وعلى سور المدرسة بقيت لافتة تقول: "لا حياة بلا شمس ولا كرامة بلا صدام حسين". وفي المدرسة عرض الجنود علينا أكداساً من السلاح الخفيف والمتوسط جمعت من مدارس النجف، حيث كان "فدائيو صدام" يخططون لحرب عصابات طويلة. وما حدث هو أن الأميركيين اجتاحوا المدينة وقضوا على المقاومة فيها في 18 ساعة، كما وصف لنا المعركة قائد الهجوم الكابتن بيت ليند. ويعتبر ليند الوضع في النجف "تقليدياً مع ما يجري في المدن الأخرى في العراق". فبعد دخول الأميركيين سرت حمى السلب والنهب بين الأهالي لمدة يومين. وقال لي شيخ معمم التقيته لاحقاً أن "النهب انتهى والسادة العلماء أصدروا فتوى والجميع ملتزم بها". غير ان شاباً همس في اذني قائلاً: "النهب توقف لأنه لم يعد يوجد في البلد شيء يمكن نهبه". غير انني شاهدت شباناً محليين يحملون بنادق "كلاشنيكوف" ويحرسون ما تبقى من مرافق عامة. وقال لي الكابتن ليند: "لدينا اتفاق غير مكتوب مع هؤلاء، وعددهم نحو 250 مسلحاً، أن يقوموا بهذا الجانب الأمني، لكنهم لا يتبعون لنا وليس لهم قائد نعرفه". ولم يوضح الهوية السياسية أو الفكرية لهؤلاء. ثم قررنا الذهاب إلى "الصحن الشريف" لاستطلاع موضوع الخوئي. وبعد تردد واتصالات أنزلنا الميجر باتريك عند نقطة في جنوبالمدينة. وقال: "الصحن الشريف على بعد كيلومتر من هنا، وسنعود إليكم بعد 90 دقيقة ولن ننتظر أحداً بعد ذلك ومن تقع له مشكلة فلن نتمكن من مساعدته لأن لدينا اتفاق من الملالي فقهاء الشيعة ألا يدخل الجنود منطقة المزار". وقررنا المجازفة، واتضح أن المسافة ليست كيلومتراً بل ثلاثة كيلومترات، وطرقنا سككاً ضيقة وحارات فقيرة جداً. وكانت العبارة ذاتها على لسان الرجال والنساء والصبية أمام أبواب بيوتهم: "ماكو ماي، ماكو كهرباء، ماكو أمن". وأبرزت صورة امرأة مسنة صورة لولدها قائلة: "يا صحافة أرجوكم ابني مجند مع الجيش العراقي في كركوك ولا أعلم شيئاً عنه". وقال رجل خمسيني: "أنتم مجانين؟ الصحن الشريف فيه اطلاق نار وقنابل، قبل قليل قتلوا السيد الخوئي". غير أن الصورة عند "الصحن" كانت أكثر استقراراً مما توقعنا. وسمعنا عشرات الروايات عما حدث في الصباح، وكيف قتل الخوئي الذي قدم حديثاً من لندن بسبب خلاف على شؤون إدارة مشهد الإمام علي، وتطور إلى اشتباك مسلح وحمام دم. وسألت أحد رجال الدين عند "باب الصحن"، واسمه علي الموسوي، عمن يحفظ الأمن في منطقة المزار وأنتم ترفضون دخول الأميركيين هنا؟ فأجاب: "العلماء الأفاضل أصدروا فتاوى وهي أقوى في قلوب الناس من القانون والشرطة". شخص وسط الزحام اعترض على غلبة اهتمامنا بموضوع الخوئي، وقال: "أين الماء والكهرباء؟ وأين الوظائف؟ كانت البطالة أيام صدام حسين ثمانين في المئة والآن هي مئة في المئة! هل العالم يعلم عن حالنا؟".