لو افترضنا جدلاً ان السيد محمود عباس نجح في تشكيل حكومة تحظى بثقة المجلس الوطني الفلسطيني، يبقى السؤال: هل تنجح هذه الحكومة في تنفيذ المطلوب منها؟ اجد أن امكانات نجاح هذه الحكومة في عملها تكاد تكون معدومة، ونجاحها إذا حدث سيكون من حجم معجزة توراتية، في وقت مضى زمن المعجزات. ابو عمار يعمل جهده لإحباط جهد ابو مازن، ويساعده لأسبابه الخاصة آرييل شارون الذي يقتل ويدمّر كل يوم. والضغط الأوروبي والعربي والأميركي على الرئيس الفلسطيني مفيد من ناحية، فمن دونه لن توجد حكومة، ومضرّ من ناحية اخرى لأنه يربط حكومة ابو مازن بأطراف غير فلسطينية. الأميركيون والإسرائيليون يريدون حكومة يترأسها ابو مازن، وتضم محمد دحلان مسؤولاً عن الأمن، وسلام فياض مسؤولاً عن المال والاقتصاد، مع وزراء بعيدين من الفساد. ما يريدون في الواقع هو حكومة توقف المقاومة والانتفاضة، وهذه رغبة يعارضها نصف الفلسطينيين والمقاومة الإسلامية بشدة. وقد صرحت حكومة شارون بأنها تريد محمد دحلان مسؤولاً عن الأمن، ما يعني انها تريد ان تحرقه، فمثل هذا الكلام يجب ان يفهم على حقيقته، وهو انه محاولة للتخريب لا اكثر ولا أقل. محمد دحلان كان اعلن بعد اعتراض ابو عمار عليه أنه اذا كان المشكلة فهو لا يريد منصباً وزارياً، إلا ان الرئيس الفلسطيني رفض بعد ذلك اسماء مقترحة للمنصب الأمني، وبدا مصراً على واحد من رجاله، مثل وزير الداخلية الحالي هاني الحسن، ما يعني إفشال عمل الحكومة الجديدة قبل ان تبدأ. ثمة اسماء كثيرة مطروحة، وأبو العلاء وسلام فياض، رفضا رئاسة الوزارة، في حال اعتذار ابو مازن نهائياً، اما نبيل شعث او هاني الحسن او صائب عريقات فأسماء غير مقبولة في الخارج لرئاسة الوزارة، والولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي يصران على محمود عباس ولا احد غيره. وأبو عمار على ما يبدو لا يزال يرفض التصديق انه خارج الصورة نهائياً، فالولاياتالمتحدة وإسرائيل لن تتعاملا معه، والدول العربية لا تصر عليه. وهو ربما كان يواجه خطر ان تفتح الولاياتالمتحدة او اسرائيل ملفه من جديد للضغط عليه حتى يذعن. في غضون ذلك ترفض المقاومة الإسلامية الحكومة الجديدة، وتعتبر ان هدفها ضرب الفلسطينيين بعضهم ببعض وإجهاض الانتفاضة من دون ثمن. وكان ابو مازن اجتمع مع اركان حماس والجهاد الإسلامي في غزة للتشاور، وساد الاجتماعات جو ودي، إلا انه كان واضحاً في النهاية ان الاتفاق مستحيل. سألت قادة "حماس" و"الجهاد" عن موقفهم من حكومة يشكلها ابو مازن أو غيره للأهداف التي يريدها الأميركيون والإسرائيليون، وسجلت افكاراً كثيرة احتفظ بنصها، وأختار للنشر الآتي: - هذه الحكومة لم تأتِ ضمن وضع طبيعي لمواجهة استحقاقات فلسطينية ومعالجة الاقتصاد ومقاومة الفساد وبناء الوحدة الوطنية، وإنما جاءت لتنفيذ برنامج امني وتطبيق "خريطة الطريق". - نحن ضد الفكرة كلها، والاستحقاق الأمني يعني ان يقتتل الفلسطينيون وأن تثبت الحكومة الجديدة حسن نيتها بضرب الشعب، ثم تجلس لتنتظر حسن نيات اميركا وإسرائيل. - هناك احتلال يجب ان ينتهي، ثم نتحدث عن وقف المقاومة واستحداث منصب رئيس الوزراء ومطالب اميركا وإسرائيل معروفة، ونحن لن نقبل بعد كل ما قدمنا من تضحيات ان نقف جانباً لاختبار نيات الاحتلال. - شعبنا واع ولن يتخلى عن المقاومة، وواجب ابو مازن ان ينحاز الى مصلحة شعبه، لا ان يحرق نفسه. - هذه حكومة حرب على الانتفاضة والمقاومة، وقد جاءت من طريق اميركا وإسرائيل لإعادة المفاوضات، ونحن لا يمكن ان نصبح جزءاً من مشروع الحرب على المقاومة... نحن جزء من المقاومة ولن نعلن الحرب على انفسنا. - أبو عمار سيظل "يلعب" حتى آخر لحظة، هو يدافع عن بقائه، وأبو مازن ليس له خيارات. ولكن ابو عمار سيذعن إذا شعر بأن الأميركيين سيعطونه رَقَمَ "مطلوب" في ورق الشدّة. هو يقاوم الآن من منطلق غريزة البقاء ولأنه يدرك انه اذا سلم المفاتيح لمحمود عباس انتهى. - هاني الحسن ليس على ذلك الولاء لعرفات... يبيع مئة عرفات اذا كان ذلك يفيده. - ابو مازن مرحلي، ويأتي بعده محمد دحلان، فهو يعتبر اميركياً وإسرائيلياً القبضة الحديد التي ستوقف الانتفاضة وتعيد المفاوضات. أعتقد ان ما سبق يكفي، فأعود الى وضع ابو عمار يعرقل تشكيل الوزارة، وأبو مازن يحرد، كعادته، ويغلق باب بيته على نفسه، وشارون يحرق الجسور امام ابو مازن ووراءه، ثم يحرق محمد دحلان بادعاء الإصرار عليه، والأميركيون يحرقون ابو مازن نفسه باحتضانه، والمقاومة الإسلامية ترفض فكرة الوزارة اصلاً وتصر على مقاومتها، ومع هذا كله هناك شعور فلسطيني بأن الأميركيين الذين طلعوا بمؤتمر مدريد بعد تحرير الكويت سنة 1991، يشعرون بأنهم انتصروا على العراق وهُزم العرب كلهم، وبات واجباً ان يدفعوا ثمن الهزيمة في مفاوضات جديدة مع اسرائيل. في مثل هذا الوضع تشكيل حكومة فلسطينية معجزة، ونجاحها في مهمتها معجزة اكبر.