عين بعين وسن بسن... وطفل بطفل، والبادئ أظلم. لا احتاج مع القارئ العربي، وهو يتابع على التلفزيون أو في جريدته أخبار الفاجعة الفلسطينية المستمرة ان اسجل أي خبر بعينه، ولكن أنقل الى هذا القارئ قليلاً من اجتهادي الشخصي وكثيراً مما سمعت في محادثات هاتفية مع السيد محمود عباس أبو مازن والسيدين جبريل رجوب ومحمد دحلان، رئيسي الأمن الوقائي في الضفة الغربية وقطاع غزة، وايضاً مع الصديق العزيز ماهر المصري، وزير الاقتصاد الفلسطيني. مجرم الحرب القذر اريل شارون هدد السيد دحلان بالقتل، بل جعل اغتياله شرطاً للانضمام الى حكومة ائتلافية مع ايهود باراك. ولم يخف أبو فادي. شارون يرأس ليكود وينافسه عنصري بغيض آخر هو بنيامين نتانياهو الذي يحمل النتن في اسمه، ومنذ الحرب العالمية الثانية ونحن نسمع عن أحزاب نازية جديدة في المانيا أو النمسا أو بريطانيا، وغيرها، إلا أن الحزب النازي الجديد الوحيد الذي حكم في بلد منذ الحرب العالمية هو ليكود. وحزب العمل، أو اسرائيل الواحدة، ليس أفضل منه، فالتفكير الاسرائيلي هو انه مقابل كل قتيل منهم يجب أن يقتل عشرة فلسطينيين أو مئة، وهو تفكير نازي خالص، فعندما كانت تقتل المقاومة المحلية في "غيتو" في وارسو، أو في فرنسا، جندياً نازياً، كان النازيون يصرون على قتل عشرات من المواطنين المحليين في المقابل لأن النازي أعلى "سعراً" من هؤلاء، وهذا هو الفكر الذي يحرك الحكومة الاسرائيلية والمعارضة من ليكود وغيرها اليوم. شارون يقول ان حكومة باراك لا تعمل ما يكفي، فهي تقتل عشرة فلسطينيين أو عشرين، مقابل كل قتيل يهودي، وشارون يفضل أن يُقتل مئة أو مئتان. ثم يريد اغتيال محمد دحلان. لو كان هناك درهم من عدل في هذا العالم لكان شارون حوكم كمجرم حرب في لاهاي، قبل أي مجرم حرب صربي. غير أنني بانتظار محاكمة لا أتوقعها أقول ان محمد دحلان صديقي، وانه من أكثر الناس في قطاع غزة اعتدالاً وشعوراً بالمسؤولية، وإذا كان امثال شارون لا يستطيعون التعامل معه، فانهم لن يستطيعوا التعامل مع أي فلسطيني آخر. أبو فادي قال لي ان الانتفاضة ستستمر حتى ينتزع الفلسطينيون حقوقهم وهي عنده "دولة نظيفة ضمن حدود الرابع من حزيران يونيو 1967، عاصمتها القدس العربية". ومع ان السيد دحلان يكتفي بكلمة "نظيفة"، ولا يلزم نفسه بشرح، فانني أفهم من الكلمة انها تعني دولة خالية من المستوطنات. أبو فادي قال أيضاً ان الاسرائيليين يعتقدون ان لديه 2500 شاب، من المناضلين المتمرسين، خريجي السجون الاسرائيلية مثله، وانهم يقومون بكل النشاط المعادي لاسرائيل في القطاع. غير انه يصر على أن في القطاع مئة ألف شاب سيتظاهرون كل يوم، وسيرفضون التوقف حتى يتوقف العدوان الاسرائيلي وتقوم الدولة المستقلة. ولاحظ أبو فادي ان الجيش الاسرائيلي يعمل وحده، ويترك المؤسسة السياسية تتبعه، ثم يجد نفسه عاجزاً عن حماية نفسه أمام أولاد سلاحهم الحجارة. الأخ جبريل رجوب يقول ايضاً ان لا وقف للانتفاضة حتى تقوم الدولة المستقلة، ويزيد ان الناس "تتغدى على كبدها"، وقد نقص الطعام والعلاج والوقود، أو انقطع، ومع ذلك لا يوجد مواطن فلسطيني في الضفة يريد وقف الانتفاضة قبل تحقيق الأهداف الوطنية. وقال رئيس الأمن الوقائي في الضفة ان الفلسطينيين وقعوا خمسة اتفاقات انتقالية، كان كل اتفاق لاحق منها لتنفيذ اتفاق انتقالي سابق لم ينفذه الاسرائيليون، حتى ان باراك لم ينفذ اتفاقاً وقعه نتانياهو. وهو يزيد ان الفلسطينيين يخوضون اليوم معركة الدولة، وهم لن يتوقفوا حتى يصلوا الى حدود هذه الدولة. أتوقف أنا هنا لأقول ان محمد دحلان وجبريل رجوب والقادة الفلسطينيين كلهم لا يقصدون بالقول ان الانتفاضة ستستمر حتى تقوم الدولة انهم يعتقدون ان الدولة هذه ستقوم بالقوة العسكرية. فالواقع انهم جميعاً واقعيون، ويعرفون انه لن يفرض طرف رأيه على الطرف الآخر بالقوة، ولكنهم يقصدون ان تستمر الانتفاضة حتى يقتنع الطرف الآخر بالتفاوض على تسوية سياسية تلبي المطالب الوطنية للفلسطينيين. السيد محمود عباس هو صوت العقل الفلسطيني وهو يصر على أن التصعيد من الاسرائيليين، لا الفلسطينيين، ويزيد أن القيادة لا تستطيع ان ترد الناس وهؤلاء يرون ابناءهم يقتلون أو يجرحون كل يوم. أبو مازن يقول ان الاسرائيليين يمارسون عملية "كسر عظم" ويحاولون ان يفرضوا على الفلسطينيين بالقوة ما عجزوا عن فرضه على طاولة المفاوضات، ويؤكد ان هذا "من سابع المستحيلات". مع ذلك، ورغم كآبة الوضع فأبو مازن يعتقد أن الصورة ستصبح أكثر وضوحاً خلال يومين أو ثلاثة، وهناك اتصالات في عواصم عدة، ونشاط أميركي ومصري مكثف لاخراج المنطقة من دوامة عنف قد لا تتوقف عند الفلسطينيين والاسرائيليين. واكمل كما فعلت امس بشيء عن الاقتصاد الفلسطيني المدمر، فقد كنت ارجو وأنا في عمان ان يأتي الصديق ماهر المصري من رام الله ونجتمع لأنني لم أره منذ سنتين. إلا أن الاسرائيليين يمنعون القادة الفلسطينيين من العبور، وأبو حامد فضل البقاء في موقعه. وزير الاقتصاد الفلسطيني ارسل اليّ بالفاكس بعد محادثاتنا الهاتفية، أوراقاً تسجل فداحة الكارثة الاقتصادية، والمعلومات فيها زيادة على ما سجلت أمس، وأكثر تحديداً. والحصار معروف، وفي التفاصيل ان اسرائيل منعت عبور البضائع بين الضفة وغزة وحجزت البضائع الواردة الى فلسطين في موانئها، وطالبت المستوردين الفلسطينيين في الوقت نفسه بدفع غرامات عن تأخير تخليص البضائع من الموانئ، وبدأت تفتيشاً أمنياً لكل بضاعة واردة الى فلسطين، ورفعت اجر التفتيش من 125 دولاراً للحاوية الى 325 دولاراً، أي انها ترغم الفلسطينيين على دفع اجر التفتيش، ورفعت التأمين على الحاوية من 500 دولار الى الفي دولار، وزادت اجر الشحن البري بأكثر من 70 في المئة، واوقفت تحويل عائدات السلطة الفلسطينية من الجمارك والضريبة المضافة وضريبة الشراء. والنتيجة تدمير 80 في المئة من الاقتصاد الفلسطيني ما أرغم أبو عمار ان يطلب من أثرياء الفلسطينيين الاجتماع به في القاهرة الاربعاء، وجمع 8.5 مليون دولار، فيما فلسطين تنتظر من القمة العربية في آذار مارس القادم ان توافق على آلية صرف الدعم العربي الذي قد لا يصل حتى يكون المدافعون عن الأقصى ماتوا قتلاً أو جوعاً.