في العراق اشباح لا يراها أحد. تسكن ذاكرة كل فرد في هذا البلد. الأشباح تحيطها إشاعات. يكفي ان يقول أحد انه سمع أنّات تتصاعد من تحت الارض حتى يسارع الجميع. يهرولون. الكل يريد ان يحفر وفي ظنه انه سيلقى قريباً او حبيباً غاب وجهه عن ناظريه. في العراق مئات آلاف المفقودين. أعدادهم تراكمت على طول عمر هذا النظام الذي حكم بقبضة من حديد طوال 35 عاماً. مراحل صعود السلطة وضعفها وحروبها كانت مواعيد للسجن والخطف والاعتقال والقتل والاخفاء. في الشمال والجنوب والشرق الغرب تتكرر الحكايا. منها تمتد خيوط اللوعة الى قلوب الأحياء. اللوعة تتحول هلعاً وتدافعاً حينما تعلو الإشاعة: "سمعنا أنّات صادرة من تحت الارض". "كلها سجون" يصرخ سامي زهير محمد. "هذا الذي تشوفه هذا كله سراديب، ولكن من أين ننفذ اليها؟". يضيف وصوته يرتفع بحدّة: "والدي مسجون منذ 13 عاماً ولا أعرف كيف الوصول اليه". في النفق الممتد تحت ساحة في النفق الممتد تحت ساحة التحرير في بغداد تجمهر السكان بالآلاف بعدما سمعوا ان هناك أنّات لمساجين تحت الارض. بغداد كلها اليوم مسرح لإشاعات لا يستطيع أحد تبيّن صحتها. ما يضاعف قلق السكان فيها فكرة مجنونة تلاحقهم: ماذا لو ان السجناء تُركوا في زنزانات أغلقها السجانون وفرّوا كما فرّ أركان النظام وجنوده؟ الفكرة وحدها تبث الرعب في أوصال كل من يقبع أحد أفراد أسرته في سجون النظام، والامنية منها خصوصاً، لأنهم يعلمون أن الموت جوعاً وعطشاً في الظلام الدامس هو الذي ينتظرهم من دون أدنى ريب. قوات الشرطة ودورياتها تسارع الى المكان في كل مرة تصدر الإشاعة. الملازم اول نبراس محمد قال ل"الحياة" شاكياً: "من الصعب علينا القيام بعملنا. أي نفق تهجم عليه الحشود يجعل قدرتنا على التحقق من صدور أنّات من تحت الارض أمراً صعباً. نحن لا نستطيع سماع اي شيء. الأمر عبثي". الآراء تتضارب، تتناقض، وليس من يقدر على تسليم اي دليل. ولكن هذا لا يمسح الشكوك ولا يهدّأ العواطف. والمتبرعون بالروايات لا يُحصَوْن. ولا يعرف الصحافيون الذين يتحلق حولهم المواطنون من يصدقون. أحدهم شاب ملتحٍِ اقترب يريد الكلام. قال ل"الحياة": "عثرنا على مقابر جماعية في منطقة المنصور. فيها جثث فتيات من بنات العوائل مارس معهن قصي صدام حسين الأعمال الجنسية الدنيئة ثم قتلهن". أضاف: "عثرنا على جثث فتيات في مقر اللجنة الاولمبية أيضاً. وأيضاً على جثث في سجن على طريق التاجي حيث كانت هناك فتيات مقتولات وأخريات لا يزلن على قيد الحياة. وهن أخبرنا ان قصي صدام حسين اختطفهن واغتصبهن ثم قتلهن. وأنا شاهدتهن بعينيّ". المتبرع بالمعلومات لا يشرح كيف انه وحده، من بين كل سكان بغدد، وجد كل هذه الجثث، وهي جثث فتيات، كرر مرات ومرات، وكأنه يتلذّذ بسماع العبار: "قصي مارس معهن الأعمال الجنسية الدنيئة". وهي عبارة كانت تلقى استحسان المتجمهرين حولنا. رجل ستيني قال متبرعاً بمعلومة اخرى: "كنت أخدم في الجيش واستطيع ان اقول لك انه في تلال الحمرين، على بعد اربعة كيلومترات على يمين الشارع في منطقة سليمان باك التي تبعد نحو ثلاثين كيلومتراً من كركوك هناك مقابر جماعية لسبعين ألف كردي اعتقلوا في معارك القادسية عام 1988، وفي اعقاب عملية الانفال التي جرت لتطهير شمال العراق من المتمردين". مسؤول القتل الجماعي كان على حد قوله "العقيد محسن في طوارئ اجهزة الامن العامة". آخر، قال ان اسمه مازن، أكد انه يملك صوراً لعدي صدام حسين مع نساء كثيرات وفي أوضاع مشينة مختلفة وهو من دون ثياب. وعد بإحضارها ل"الحياة" بعد الظهر. الموعد أتى وهو لم يأتِ. كثيرة هي روايات الأسرى والإشاعات. وحدهم اهالي المفقودين يعيشون جحيماً لا شيء يظهره الا تردد قصص الاشباح والسراديب العميقة التي تتصاعد منها أنّات مسجونين يطلبون النجدة ولم يراهم أحد بعد.