"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". و"المعركة" تخاض من المحيط الى الخليج بالحناجر العالية، وبإطلاق النفير وبالمطالبة برص الصفوف لمواجهة، يعتقد الداعون اليها أنها ستحدد مصير الأمة وأجيالها، في وقت يقبع صدام حسين حصيناً تحت الأرض في بغداد جثة سياسية، غير أنها قادرة على زرع الشقاق بين الدول وتعميم الالتباس بين مصير الوطن ومصير النظام. منذ بدأت الحرب الأميركية - البريطانية على العراق ارتفعت البيارق. وصار التصفيق مع المزغردين شهادة لوطنية لا ترى حرب العراق إلا بالأسود والأبيض. فالمهاجمون "غزاة أجانب"، والمعارضون "خونة مارقون" بل "كلاب ضالة" بحسب الاقتباس العراقي لتعبير القذافي، أما نظام العراق فغدا قطة مسالمة أو ضحية تتعرض لعدوان وجب التصدي له ب"المقاومة والاستشهاد". هكذا يصير أي كلام مختلف ضرباً من الخيانة وتفريطاً بالكرامة والعزة الوطنية والقومية. ويُضرب طوق إعلامي شديد على ملايين الوطنيين العراقيين المعارضين من إسلاميين وشيعة وشيوعيين وليبراليين ومستقلين، وتُمحى ذاكرة حلبجة والأنفال والأهوار، ويُسدل الستار الكثيف على قائمة طويلة من المتضررين من النظام، ومن المعارضين لمبدأ الحرب الوقائية. وبالمنطق نفسه يجري رمي الكويت التي تعرضت للاجتياح بأنواع شتى من النعوت، ويُغمز من قناة دول أخرى لم ترقص في مواكب التنديد، ويتحول شعبان عبدالرحيم فنان الأمة ورمزها الذي لا يشق له غبار. بديهي أن تستثير الحرب الأميركية - البريطانية على العراق المشاعر الوطنية والقومية، بل ان تلهبها. وليس مستغرباً أن يرى كثير من العراقيين والعرب وجوب وضع الخلافات جانباً لمواجهة الغزاة ودحرهم. ولكن أن يفقد الجميع، مراهقين وبالغين، شباباً وشيباً، سياسيين ومثقفين ومواطنين عاديين، القدرة على التمييز بين حرب غير مبررة تخاض لتحقيق مصالح الامبراطورية الأميركية بعد 11 أيلول سبتمبر، وبين الحاجة الماسة الى تغيير النظام العراقي لتجنب تدمير العراق بعدما تحقق فشله في تجنب الحرب، أمر يدعو الى السؤال المؤلم عن فشل العالم العربي بمختلف شرائحه في النظر بعين النقد والشك الى أحداث خطيرة يستثيرها خطاب تعبوي بائد يحاول ضرب صفح عن كوارث متراكمة على مدى 35 عاماً من حكم العراق. ويبعث هذا الواقع على الأسى من عجز العالم العربي بسياسييه وجماهيره ونخبه المثقفة عن اكتساب ثقافة احترام الفروق، إن لم يكن من أجل ضرورات الديموقراطية وحق الاختلاف، فليكن تحسباً لمفاجآت يفترض أن تدرج في الحسبان. لا يبعث على الفرح أبداً تقدم الجحافل الأميركية والبريطانية جنوباً وشمالاً في العراق، مثلما لا يدعو الى الفخر أيضاً صمود صدام حسين في بغداد وقدرته على نشر فدائييه في المدن بين الأهالي لاستخدامهم دروعاً بشرية أو للحؤول دون انتفاضة على النظام. لكنّ ما يثير الحزن أن يدفع المدنيون من دمائهم ثمناً لهذه الحرب وأن يغرق العراقيون في حمّى مشاعر وطنية تدفعهم الى التضحية والاستشهاد في معركة فرضها النظام، حين رفض استجابة دعوات التنحي وصمم على تعريض العراق لغزو أجنبي ولمطامع لم يكن ممكناً أن تجد التبريرات لو قدَّم مصلحة البلاد. أما منتهى السخرية فهو ان يجد بعض معارضي النظام والحرب أنفسهم في خندق واحد مع علي حسن المجيد علي الكيماوي تحت شعار الدفاع عن الوطن والمقدسات ووحدة الموقف. صدام صامد أم العراق صامد؟ مسألة هي موضع خلاف. لكنّ الأكيد أن القوى المهاجمة سيطرت على نفط الجنوب بكامله وتخوض معارك للسيطرة على مدنه. وهي قادرة بحسب الخبراء على السيطرة على الشمال ونفطه. فلا يبقى من حال الصمود إلا امساك النظام ببغداد، وانتظار شوارعها معركة دامية، ومؤتمرات الصحّاف الصحافية وشتمه ل"العلوج". وحتى يحين موعد الحسم لن تغير من موازين القوى العسكرية عملية يقوم بها "استشهاديو صدام" من هنا أو جيوب مقاومة وإسقاط مروحية من هناك، مثلما من غير الممكن تصور أي حل سياسي يوقف الحرب، في حال استجاب الأميركيون نداءات العالم، من دون أن يتضمن شرط رحيل رأس النظام وأبنائه عن السلطة. وفي الانتظار، تعمل آلة الحرب الجهنمية في أجساد الأبرياء ويبقى صدام صامداً كجثة سياسية تتغذى من استمرار القتال، والآمال بالمستنقع، والنجاح في تحقيق الالتباس، وارتفاع الصراخ... وتكاثر الجثث.