قال نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني ان هدف الولاياتالمتحدة لمرحلة ما بعد صدام حسين يتمثل في اقامة "عراق موحد السيادة، وذي حكومة ديموقراطية تعددية، في دولة تعترف بحقوق الإنسان وتحترم حقوق كل مجموعة أثنية ودينية". لكن، ما مدى واقعية منظورات كهذه في عراق لا يعرف، إذا ما عرف، سوى القليل من التقاليد الديموقراطية؟ وكيف يمكن تطبيق هذه السابقة في دولة تعرض فيها المواطن الى غسل دماغ لأكثر من أربعة وثلاثين عاماً وفق ايديولوجية العنف والممارسة العنصرية وتدعو الى الطاعة العمياء ل"القائد"؟ ثم كيف يمكن للمعارضة العراقية المشتتة - والتي هي نفسها وليدة عنف وصراعات داخلية ضارية - ان تكون ضمانة البديل الديموقراطي لنظام صدام حسين؟ وفوق كل هذا، هل ستلتزم الولاياتالمتحدة على المدى الطويل بترصين الديموقراطية واعادة بناء البلاد؟ من الواضح، ان عملية ارساء الديموقراطية في العراق لن تتم بيسر. وفي كل الاحتمالات ستكون مسيرة طويلة وسيرورة شاقة لكل أطرافها. وفي المطاف الأخير، فإن النجاح في هذه العملية سيعتمد على النصر في معركتين، معركتي واشنطنوبغداد. رسمت الخطوط العريضة ل"معركة واشنطن". ففي اطاري السياسة الخارجية ومؤسسات صنع القرار، يبدو الاستقطاب واضحاً بعد الآن بين قوتين كلاهما مدجج. وهذا الانشقاق يشمل الجميع ويتجاوز تفرعات اليمين واليسار. ويمكن قول الشيء نفسه بالنسبة الى حلفاء الولاياتالمتحدة في أوروبا وأنحاء العالم. فمن ناحية، هناك قوى ادامة الأمر الواقع، أو من يسمون ب"الواقعيين". وهؤلاء يركزون على ابراز المخاطر المحتمية التي ستؤدي الى تغيير الوضع الحالي في المنطقة. ولا غرابة في ان مفرداتهم المفضلة هي "زعزعة الاستقرار" و"الفوضى". وهم يجادلون بأن سياسات "الاحتواء" والعقوبات نجحت في ابقاء صدام حسين "في القفص" منذ طرده من الكويت، حتى إذا كان يمتلك أسلحة الدمار الشامل. وغالباً ما نجد أن هؤلاء أنفسهم من يردد بأن الحرب ضد صدام ستكون مكلفة جداً حيث يرى بعضهم انها ستكلف دافعي الضرائب في أميركا نحو 60 بليون دولار. ومن اللازم القول هنا ان معاناة الشعب العراقي أو مستقبل بلاده في نظام صدام حسين لا تمتلك أدنى اعتبار في حساب أولئك "الواقعيين". ومعروف جيداً لدى العراقيين، والأكراد خاصة، "أبو الواقعيين" هنري كيسنجر. وهو نفسه الذي استعمل الأكراد في السبعينات قبل أن يضحي بهم على مذبح السياسة الواقعية. لكن "واقعية" كيسنجر لم تقتصر على الأكراد وحدهم. فطوال تاريخه كمسؤول حكومي كبير ثم في ما بعد ك"حكيم" السياسة الخارجية الأميركية، لعب كيسنجر دوراً محورياً في التخطيط للانقلابات العسكرية في أندونيسيا وأميركا اللاتينية، وأفلح في اقناع الرئيس فورد بعدم مقابلة المعارض السوفياتي الحائز على جائزة نوبل الكسندر سولجنتسن وفي تبرير مجزرة السلطات الصينية ضد الطلاب في ساحة تيانامين في بكين عام 1989، وفي تحذير الحكومة الأميركية مراراً وتكراراً من مهاجمة سلوبودان ميلوسيفيتش. أما شريك كيسنجر في "الواقعية"، الجنرال برنت سكوكروفت المستشار الأمني السابق للرئيسين فورد وجورج بوش الأب، فقد تجاوز ذلك في مقال في صحيفة وول ستريت جورنال في 15 آب أغسطس هذا العام. فبعد ديباجة التحذيرات اللازمة من "زعزعة الاستقرار" في المنطقة، يزعم سكوكروفت "ان هجوماً على العراق في هذا الوقت كفيل بتعريض الحملة الدولية التي نتبناها ضد الارهاب الى خطر جدي ان لم يكن الى التدمير". لكن من يعرف آراء سكوكروفت لا يرى جديداً في ما كتبه. ففي كانون الثاني يناير من العام الجاري، قال لصحيفة "الديلي تلغراف" البريطانية ان نظام صدام حسين "ليس بدولة ارهابية، وان القاسم المشترك الوحيد بين صدام حسين وأسامة بن لادن هو كرههما للولايات المتحدة". ومن الغريب ان سكوكروفت لم يعتبر محاولة صدام حسين اغتيال الرئيس جورج بوش الأب في الكويت عام 1993، ضرباً من اعمال الدولة الارهابية. وفي الجهة المقابلة لمعادلة واشنطن، نجد الملقبين تصغيراً ب"عصبة وولفوويتز". وهي تسمية غير دقيقة - ك"الحمائم" و"الصقور" - لأن جمهرة المؤيدين لتغيير النظام في العراق تضم أغلبية مناصري الحزبين في الكونغرس ومجلس الشيوخ. والأهم من ذلك ان الحرب على صدام حسين تحظى بتأييد الشعب الأميركي، فاستطلاعات الرأي التي أجريت في الولاياتالمتحدة منذ عام 1991، أظهرت وجود أغلبية مهمة تؤيد التدخل العسكري في العراق لإنهاء نظام صدام. ومهما كانت مواطن ضعف "عصبة وولفوويتز"، فإنها تبدو أكثر توافقاً مع الرأي العام الأميركي من "واقعيي" واشنطن. وببساطة فإن المبرر الرئيسي الذي يقدمه دعاة الحرب ضد صدام هو أن أسلحة الدمار الشامل التي لديه تمثل تهديداً أساسياً للأمن القومي الأميركي وبالتالي فعلى أميركا التحرك قبله. وقد عبر الرئيس بوش عن هذا الرأي في كلمة ألقاها في الأكاديمية العسكرية في ويست بوينت، في حزيران يونيو الماضي، عندما أكد: "إذ انتظرنا حتى تصبح تلك الأخطار حقيقة، فإن الاوان يكون قد فاتنا". وقد أوضحت مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس هذا الرأي بالقول "انه بمثابة احباط اعمال تخريبية موجهة ضدك من قبل عدو". هذا المبدأ أصبح معروفاً ب"مبدأ الضربة الاستباقية"، الذي بدأ سلفاً في اعادة صقل الفكر الاستراتيجي العسكري الأميركي. وعلى رغم استمرار النقاش في هذا الموضوع في واشنطن، فإن مبدأ الضربة الاستباقية هذا حصل على تأييد متزايد منذ أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر. وقد عكس تود بردوم هذا الشعور في صحيفة "نيويورك تايمز" عندما كتب في 15 أيلول الماضي قائلاً: "في التعامل مع الدول الخبيثة، فإن غرامات من الوقاية الاستباقية تعادل أطناناً من سياسة الردع". وليس من شك في ان سياسة الضربة الاستباقية، ستفضي الى اعادة تنظيم العلاقات الدولية بالمفهوم الذي نعرفه اليوم. كما يمكن أن تؤدي الى ارساء أنظمة جديدة وتحولات في موازين القوى السائدة حالياً. وتهتم الحكومات الأوروبية وتلك الموجودة في الشرق الأوسط خاصة، بمسألة اعادة تنظيم موازين القوى الاقليمية والدولية. كما تبدي دول أخرى مثل روسيا والصين وفرنسا، التي استفادت علاقاتها التجارية مع صدام كثيراً على مدى العقد الماضي، قلقاً مضاعفاً من أن هذه التغييرات قد تلغي مواقع قوتها في السوق العراقية المربحة، وفي المقابل قد تؤدي الى تزايد بالغ في النفوذ الأميركي في المنطقة وما وراءها. ومن بين حكومات الشرق الأوسط فإن ايران قلقة بشكل خاص من نتائج كونها ستطوق بدول مساندة للولايات المتحدة، فيما تخشى الحكومات الأخرى من الامتدادات السياسية لقيام نظام ديموقراطي في العراق على المنطقة والعالم الإسلامي عامة. أما بالنسبة الى "معركة بغداد" فهي مختلفة تماماً. وهنا لا نتحدث عن عمليات عسكرية بهدف الاطاحة بحكم صدام حسين. لأن ذلك أمر من السهل التكهن بنتائجه. إذ ان الجمع بين القدرة العسكرية الأميركية ورغبة الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي، بما في ذلك القوات العسكرية، في الإطاحة به، سيجعل اقصاء صدام حسين قضية أسابيع وليس أشهراً. ان ما هو غير مؤكد وعرضة للتساؤل هو الاستقطاب السياسي والاجتماعي الذي سيحدث في العراق بعد رحيل صدام. ومن أجل فهم ما يمكن أن يحدث هناك قضيتان جديرتان بالاهتمام. الأولى: قضية اجتماعية - تاريخية مرتبطة بموضوعات طرحها عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي وأستاذ جامعة برينستون الراحل حنا بطاطو اللذان جادلا بأن تاريخ العراق مشروط، ان لم يكن محدداً، بالصراع بين المدينة والريف. وهذا الصراع يمتد الى قرون ولا يسمح المجال هنا للتفصيل في تعقيداته وتحولاته. ويكفينا القول انه عندما أنهى البريطانيون الحكم العثماني واحتلوا بغداد عام 1917 واجهوا خيار اشراك ممثلي الطبقات المدينية الصاعدين، المتعلمين، ولكن غير الموحدين والذين لا يمكن التحكم بهم بسهولة، أو نفخ حياة جديدة في نظام قبائل وجماعات أوليغاركية صغيرة سائر الى التلاشي. ولمقتضيات النفعية السياسية الآنية، أو ربما بسبب ما وصفه روبرت كابلان في كتابه المستعربون، "افتتان بريطاني شديد بالثقافة القبائلية التي لم توجد لها سابقة "اختاروا الأخيرة، وبالتالي زرعوا بذور الكثير من العنف والاضطراب اللاحق في التاريخ العراقي. وعلى رغم ان التوازن العددي قد تغير على نحو دراماتيكي لمصلحة المدن منذ أزمنة الهيمنة البريطانية، فإن نظام صدام الحالي هو استمرار لتقليد مديد من سيطرة الريف على المدينة. وبكلمات أخرى تقليد اخضاع المجتمع المدني وتبعيته. ان للولايات المتحدة خيارات مماثلة في التعامل مع عراق ما بعد صدام: فأما تفكيك النظام الحالي الفاسد ومساعدة المجتمع المدني للبلاد على اعادة بناء نظام جديد، أو فرض نموذج أفغاني يمكن ان يستمر فيه فاشيو العراق الجدد الذين يسميهم بعض الناس، بتعبير مهذب، "البعثيون السابقون" على لعب دور بارز. وإذا كان لهذا ان يتحقق فإن طريق العراق نحو الديموقراطية سيواجه عوائق جدية وستحرم الولاياتالمتحدة من الفرصة الاستراتيجية لتقديم النموذج الديموقراطي الذي تحتاجه بصورة ماسة في العالم الإسلامي. أما القضية الثانية فمترتبة عن الأولى. وانها لاهانة للمنطق ان يرى المرء كلاً من الجماعات الاثنية والدينية في العراق كيانات متماسكة ومتراصة داخلياً. ففي الوقت الحالي يشعر معظم السكان من السنّة العرب في العراق بالاشمئزاز من الاشارة الى ان نظام صدام ممثل لهم. وعلى نحو مماثل فإن أبناء الطبقات الوسطى من الشيعة العرب في المدن العراقية أقرب الى نظرائهم من الأكراد والتركمان والعرب السنّة، مما الى زعماء عينوا أنفسهم ممثلين لهم في المنافي. غير ان هذا لا ينبغي تفسيره بأن ليس هناك من سيقاتلون بضراوة لتحويل المعركة في عراق ما بعد صدام الى معركة تخاض وفق معايير أثنية ودينية. فتلك هي مصلحتهم الراسخة، وأملهم الوحيد للبقاء سياسياً. ان التحدي الذي يواجه الديموقراطيين العراقيين - وهو تحد هائل - هو بلورة رؤية شاملة عن مستقبل يخص كل العراقيين والافلاح في ايصالها لمواطنيهم كافة وبأوضح تعبير. وتتمثل الخطوة الأولى في هذا الاتجاه في محاولة اقامة منتديات ومعاهد ومنظمات سياسية تتجاوز عضويتها وبرنامجها المصالح الاثنية والدينية الضيقة. وبإيجاز فإن ما تمس الحاجة اليه هو رسالة ديموقراطية، عراقية الطابع والجوهر. وهناك مبررات للاعتقاد بأن مثل هذه الرسالة ستجد ترحيباً كبيراً من العراقيين. فالايديولوجية القومية العربية التي هيمنت على السياسة العراقية منذ عام 1963 فقدت جاذبيتها بالنسبة الى الغالبية العظمى من العراقيين. وهكذا الحال بالنسبة الى النموذج الايراني الذي كان ينظر اليه ذات يوم باعتباره بديلاً للنظام البعثي. فحتى أنصاره السابقون ينفون أنهم يسعون، في الوقت الحالي، الى اقامة دولة اسلامية في العراق. وفضلاً عن ذلك فإن هناك ادراكاً متزايداً وواضحاً في أوساط الأكراد بأن ازدهار مستقبلهم مرتبط بحصولهم على حصة كبيرة في بغداد. فهل يعني كل هذا ان المعركة من أجل الديموقراطية في العراق يمكن تحقيق الانتصار فيها؟ الجواب يمكن ان يكون ايجابياً شريطة وجود التزام أميركي بعيد الأمد بمثل هذه الحصيلة. ولن يكون مفاجئاً لأحد ان العراقيين، على مختلف مشاربهم، يشعرون بالشك والقلق على هذا الصعيد. فلم يمض وقت طويل على أية حال عندما كانت سياسة الحكومة الأميركية تقضي بإبقاء العراقيين أسرى "في قفص" مع معذبهم، أي صدام. وما يزال هناك، في الواقع، كما أشرنا سابقاً، من يدافع عن استمرار هذه السياسة. توصل العراقيون خلال العقد الماضي الى ادراك انه لا يمكن تحقيق الانتصار في "معركة بغداد" من دون تحقيق الانتصار في "معركة واشنطن". وفي الحال الأخيرة يشعر العراقيون بحاجة ملحة الى مساعدة كل الأميركيين الذين يعتقدون ان المصالح القومية للولايات المتحدة تكمن في الدفاع عن حقوق الإنسان والقيم الديموقراطية خارج حدودها. وإذا كانت مثل هذه المساعدة وشيكة، فإن الديموقراطيين العراقيين يشعرون بأن في مقدورهم التكفل بالقضايا الأخرى. * كاتب عراقي مستقل ونائب رئيس يونايتدبرس انترناشنال سابقاً.