لم يحدث في تاريخ المنطقة العربية أن انقسم العالم حول مسألة الحرب المتعلقة بمصير احدى دوله، كالانقسام الذي شهده المجتمع الدولي خلال الشهور الثلاثة الماضية. ولا يكون من المبالغة القول بأن موضوع اسقاط النظام العراقي تحول الى عامل خلاف عميق بين القيادات السياسية والدينية من المرجح أن يأخذ شكل المنافسة والصراع بين كتلتين منقسمتين حول أساليب المعالجة لمشكلات القرن الجديد. ومع أن فرنساوروسياوالمانيا قد تذرعت بشرعية مجلس الأمن وضرورات تمديد فترة التفتيش لكي تعارض تنفيذ الحرب الوقائية ضد العراق... إلا أن المخاوف من تفرد الولاياتالمتحدة بالسيطرة على ثروات الشرق الأوسط كانت الدافع الأساسي لاتخاذ موقف مضاد. وعليه قررت الدول الثلاث التصدي لما وصفته الصحف الفرنسية بالحملة الاستعمارية الثانية التي أعيد انتاجها على صورة احتلال مغلف بشعار الديموقراطية والتنمية. وهي بالتأكيد تذّكر بالحملة العسكرية التي قادها الجنرال البريطاني ستانلي مود للاستيلاء على بغداد في 11 آذار مارس 1917. ويبدو أنه بعد مرور 86 سنة يسعى رئيس هيئة الأركان الموحدة الجنرال الأميركي تومي فرانكس الى تكرار حملة انتداب مماثلة في الشهر ذاته لتدشين مرحلة هيمنة واسعة باسم التصدي للارهاب ولدول تملك أسلحة الدمار الشامل. في حديث نشرته صحيفة "صنداي تايمز" مع الضابط البريطاني الذي قضى على ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، حذر الملازم المتقاعد آرثر ويلزلي من حدوث اضطرابات وأعمال شغب وانتقام في حال سقط نظام صدام حسين ولم تتمكن القوات المهاجمة من السيطرة على الوضع الداخلي. وكان بهذا التحذير يشير الى ما يسمى باللغة العراقية العامية "الفرهود". وهو وصف يطلق على حالات الشغب والفوضى والاضطراب وكل ما ينتج عن استخدام أساليب التدمير والنهب في ظل الفراغ السياسي. ويدعي يهود العراق ان "فرهود" 1941 مارس عليهم الاضطهاد والانتقام لكونهم تعاونوا مع البريطانيين الذين اجهضوا ثورة رشيد عالي الكيلاني، ومنعوه من قطع امدادات النفط عن قواتهم في مصر، وذلك بواسطة حامية قادها الضابط ويلزلي من القدس. والثابت ان لندن خشيت في حينه من طموحات القيادة الألمانية التي تعاونت مع حركة التحرير العربية كحليف ومساند. ولكي تدلل يومها على جدية تدخلها ارسلت برلين 24 طائرة حطت في مطار الموصل بهدف منع تقدم الجيش البريطاني باتجاه بغداد. وتؤكد وثائق الجيش النازي ان فكرة الاستيلاء على نفط العراق وايران كانت السبب غير المعلن لدعم ثورة رشيد عالي الكيلاني. ولم تنس صحف لندنوواشنطن التذكير بهذه الوقائع أثناء حملتها على المستشار غيرهارد شرودر، متهمة اياه بمحاولة احياء طموحات هتلر لأن تعاطيه مع الأزمة العراقية لا يختلف عن تعاطي الفوهرر مع أزمة رشيد عالي الكيلاني! يعترف وزراء حزب العمال البريطاني ان توني بلير يواجه مشكلة حقيقية مع الرئيس جورج بوش بسبب اصرار الادارة الأميركية على استخدام القوة ضد العراق، ولو أدى ذلك الى انتهاك الأعراف الدولية وتجاوز مجلس الأمن. ولقد حاول بلير إقناع صديقه بوش بأن التحالف الذي بناه والده عام 1991 من 34 دولة، كان يمثل قمة الدعم الدولي والاقليمي الذي تحتاجه قواتهما المنتشرة حول العراق. وحذره من مخاطر التفرد بالقرار السياسي، خصوصاً الاعلان عن اختيار جنرال أميركي سيتولى حكم العراق لفترة انتقالية تمتد الى ثلاث سنوات، يصار خلالها الى وضع دستور جديد واجراء انتخابات نيابية. اضافة الى أحاديث الوزيرين دونالد رامسفيلد وكولن باول المتعلقة بمشروع مارشال عراقي يمول بأموال النفط، وتقدر تكاليفه بثلاثين الى خمسين بليون دولار. وتمنى بلير على بوش العمل على تخفيف مخزون الغضب والمرارة ضد بلديهما لأن التظاهرات الشعبية الضخمة افقدته تأييد غالبية أعضاء حزبه، تماماً كما أفقدت تظاهرات أنقرة واسطنبول "حزب العدالة والتنمية" تأييد نوابه لقرار المشاركة في الحرب. ونصحه بألا يكرر الأخطاء التي ارتكبها الاستعمار البريطاني في الشرق الأوسط، لأن ذلك يؤسس لعداء تاريخي ضد الولاياتالمتحدة. وحذره من مزالق التدخل المباشر في بناء مجتمع عربي جديد خال من الأصولية ومن العداء للغرب واسرائيل. ويبدو أن نصائح بلير لاقت بعض التجاوب بدليل أن واشنطن بدأت تتحدث عن دور اجتماعي - اداري - اقتصادي يُعطى للأمم المتحدة شبيه بالدور الذي كلف به الأخضر الابراهيمي في افغانستان. يقول النائب البريطاني العمالي السابق طوني بن ان بلاده فقدت غطاء الشرعية الدولية لأن صدام حسين أخبره عن رغبته في التعاون الكامل مع فريق نزع التسلح. ولم تغب هذه المسألة عن البيان المشترك الذي أذاعه الشهر الماضي رئيسا الكنيستين الانجيلية والكاثوليكية اللذان رفضا خيار الحرب، وطالبا الحكومة البريطانية بضرورة التزام خط الوسائل الديبلوماسية السلمية. واكتشف توني بلير عمق الأذى الذي عكسه هذا البيان على شخصيته المعنوية، الأمر الذي اضطره الى زيارة حاضرة الفاتيكان لعل البابا يوحنا بولس الثاني يسلحه بالعون المناقبي المطلوب لاراحة ضميره. وهذا ما فعله رئيسا حكومتي ايطاليا واسبانيا اللذان سمعا من البابا رفضاً تاماً لأساليب الحملات الصليبية التي زرعت الأحقاد بين المسيحية الغربية والاسلام. وربما ساعد موقف الكنيسة - وموقف الفاتيكان بالذات - على اجتناب الانزلاق نحو هوة "صراع الحضارات" بحيث منع بوش وبلير وبرلوسكوني من تطوير موقف معاد للاسلام. خصوصاً بعدما ربطت الادارة الاميركية الحديث عن الارهاب بالحديث عن الاسلام. ومع ان الرئيس بوش لا ينتمي فكرياً الى أي من هذه الكنائس، إلا أنه اضطر الى استقبال مبعوث الفاتيكان الكاردينال بيو لاجي، الذي حمله البابا رسالة يتحدث فيها عن "حوار الحضارات" بدل "صراع الحضارات"... وعن أهمية السلام في الحياة المشتركة لشعوب الأرض. وكان من المنطقي ان يلاقي هذا الموقف المتميز الصدى المستحب لدى رجال الدين، بحيث وصفه السيد محمد حسين فضل الله، ب"الرائع جداً"، لأنه في نظره هدم مواقع التعصب والعنف وبنى قاعدة لحوار الديانات فوق مصالح السياسات. يجمع المعلقون الفرنسيون على القول ان الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس جاك شيراك للجزائر، كان لها اكبر التأثير على موقفه المعارض لطرح مشروع قرار في مجلس الأمن يسمح باستخدام القوة ضد العراق. والملاحظ ان الجماهير الضخمة التي استقبلته بعفوية كانت تهتف بحياته كنصير للشعوب العربية. وأخبره الرئيس بوتفليقة ان الحشود المتدافقة لرؤيته والسلام عليه، انما جاءت لتعبر عن مشاعرها الوطنية تجاه فرنسا الديغولية. وهكذا رأى المراقبون في الاستقبال الرائع مكافأة سياسية لموقف فرنسي متوازن ومحايد. في حين رأت فيه واشنطن خروجاً على خط التحالف الغربي، وخرقاً للعلاقات بين اسرة الحلف الأطلسي. لذلك شنت الصحافة الأميركية حملة إعلامية شرسة ضد حكومة شيراك استخدمت فيها الأدوات الإسرائيلية المتوافرة بكثرة. لهذا السبب ازدادت الاتهامات القائلة بأن فرنسا أصبحت وكراً لخمسة ملايين مسلم يطاردون ويهاجمون 650 ألف يهودي. واشتركت في حملة التشويش والتهويش صحف إسرائيلية ادعت ان الجالية اليهودية تعرضت ل455 حادث اعتداء خلال العام السابق، الأمر الذي شجع 2556 يهودياً فرنسياً على الهجرة إلى إسرائيل. ونسبت هذه الصحف عمليات الهجرة إلى سياسة معاداة السامية التي تنتهجها حكومة شيراك. واضطرت وزارة الداخلية الفرنسية لأن ترد على هذه الاتهامات بنشر محاضر تحقيقات سابقة تؤكد ضلوع الجالية اليهودية في نبش المقابر والاعتداء على المعابد ورسم شارة الصليب المعكوف على جدران المؤسسات والمدارس العبرية. والثابت أن "الموساد" قام بنشاط محموم في فرنسا والأرجنتين والبرازيل بهدف تهجير مليون يهودي قرر شارون توطينهم في المستوطنات الجديدة. ويعترف وزير خارجية فرنسا دومينيك دوفيلبان أن بلاده اتخذت هذا الخط لاقتناعها بأن الحرب يجب أن تكون الخيار الأخير في حال فشلت كل الوسائل الديبلوماسية. وأكثر من هذا، فإن الدافع الآخر يتعلق بأهمية اجتراح موقف سياسي موازٍ للموقف الديني الذي اتخذه الفاتيكان. أي عدم اظهار الدول الغربية وكأنها تقف كتلة متراصة موحدة في مواجهة الدول العربية والإسلامية. ولقد عزز قرار البرلمان التركي برفض طلب نشر 62 ألف جندي أميركي فوق الأراضي التركية، الحاجة إلى عدم الظهور بمظهر تحالف الدول المسيحية في مواجهة تحالف الدول العربية والإسلامية. ومع أن القيادة الأميركية في المانيا قللت من تأثير هذا القرار على الخطة العسكرية الشاملة، إلا أن الخمسمئة خبير عسكري أميركي في قاعدة "ديار بكر" اعترفوا بضرورة تغيير التنظيم الأساسي لخطة تعتمد على القواعد التركية لمواقع الانطلاق. وأهم هذه المواقع الاستراتيجية قاعدتا انجرليك وملاطية اللتان اعتمدتا لحماية مواقع اطلاق الصواريخ الموجهة والطائرات العملاقة. وواضح من تحذير قائد الجيش حلمي اوزكوك أن القوات المسلحة التركية فوجئت بموقف مجلس النواب وبامتناع غالبية "حزب العدالة والتنمية" عن التصويت لمصلحة الحرب، علماً بأن زعيم الحزب رجب طيب اردوغان كان عقد صفقة مع الجيش يتعهد فيها بممارسة خط سياسي متجانس مع طموحات الجيش المحافظ على الاتاتوركية. كذلك عقد وزير الدفاع وجدي غونول اتفاقاً عسكرياً مع الأميركيين انتهى بوعد لزيادة الهبات المالية، إضافة إلى تخصيص بليوني دولار سنوياً من العائدات النفطية العراقية. وتطرق الاتفاق إلى الشق المتعلق بدور تركيا لحفظ الأمن في الشمال على أن يتم نزع أسلحة كل الفصائل الكردية ما عدا الأسلحة الخفيفة الخاصة بحزبي جلال طالباني ومسعود بارزاني. وشدد وزير الدفاع غونول على ضرورة ارسال أعداد ضخمة من الجيش لضبظ تدفق اللاجئين ومنع انفصال الأكراد. وكان من نتيجة ذلك ان تظاهر الأكراد في أربيل مهددين بمقاومة الجيش التركي إذا سمحت له واشنطن باجتياح أراضيهم ونزع أسلحتهم. وأحدثت هذه التطورات ارباكاً للمؤسسة العسكرية التركية التي اعترفت بأن الأصولية الإسلامية تعشش في مراكز "حزب العدالة والتنمية" بأعداد لا تقل أهمية عن الحزب الذي تزعّمه معلم اردوغان، أي نجم الدين أربكان. وتخشى القيادة من افتعال انقلاب عسكري ضد السياسيين كما كان يحدث سابقاً، مخافة أن ينفرط عقد الجيش الذي اجتاحته الاصولية وتسللت إلى صفوفه بكثرة خلال السنوات الخمس الماضية. يبقى السؤال المهم المتعلق بتوقيت الهجوم، وما إذا كانت الجبهة التركية قد أثرت على توقيت الضربة بحيث اضطرت القيادة الأميركية إلى ارجاء الموعد إلى آخر الشهر. ينقل القادمون من بغداد كلاماً على لسان صدام حسين يشير الى استبعاد الضربة في ظل المعارضة الفرنسية - الروسية - الألمانية - الصينية. ويبدو أنه يريد أن يصدق الاشاعات التي ينقلها اليه وزراؤه من أن التهديدات الأميركية ليست أكثر من حملة تهويل وترهيب يراد من ورائها اجباره على مغادرة العراق. وهو يعتقد بأن تنازله عن الحكم يساوي أكثر من استنفار 280 ألف جندي، وأن الدول الكبرى والأمم المتحدة لن تسمح بتجاوزها ولو كان الفاعل هو "قيصر" الامبراطورية العظمى. علماً أن توني بلير قفز في تصريحه الأخير فوق هذه العقدة، وأعلن انه على استعداد لخوض الحرب "حتى لو استخدمت فرنسا أو روسيا حق الفيتو، أو حتى لو لم يفوضنا مجلس الأمن بذلك!". والمؤكد ان بلير يريد استعجال الضربة العسكرية لأسباب تتعلق بمستقبله السياسي ومستقبل حليفه جورج بوش. ومعنى ذلك ان بقاءهما في سدة الحكم مرتبط بمدى قدرتهما على الصمود في مواجهة الأسرة الدولية من دون ان يفقدهما قرار التأجيل ثقة الجماهير التي تعتقد بأن القرار العسكري تقدم على القرار السياسي. وفي حال مشابهة اعترف الرئيس جون كينيدي بأن القرار العسكري يشبه الصعود على سلم كهربائي. أي ان الصعود سهل ولكن النزول مستحيل. لذلك ينتظر بوش وبلير من صدام حسين ان يعينهما على النزول بواسطة التنازل. ولكن مثل هذا الخيار لن يتم ولو تحول العراق كله الى ساحة مشرعة "لفرهود" جديد! * كاتب وصحافي لبناني.