لم يترك جورج بوش الباب وراءه مفتوحاً ولو قليلاً ليحتفظ بقدرة على التراجع اذا ما اضطرته المعطيات الميدانية أو الاقليمية والدولية الى ذلك. أوصد الباب تماماً وأطلق تعهدات قاطعة. طالب مجلس الأمن بالتوقيع على القرار الاميركي وحين بخل عليه بالتفويض توكأ على القرار 1441 و"العواقب الوخيمة" واندفع في مغامرته. ولم يترك لصدام حسين فرصة التراجع. طالبه بالرحيل في غضون 48 ساعة أو مواجهة عمل عسكري لاقتلاع نظامه. لم يأخذ في الاعتبار ان صدام حسين مسكون بالتاريخ وصورته فيه. وان الرئيس العراقي يعتبر بغداد، على خطورتها احياناً، الملاذ الآمن الوحيد له. وان معارضي صدام قد لا يحتملون ان يكون ثمن اطاحته اجتياحاً عسكرياً غريباً. وان الحرب قد تجرح وطنية العراقيين قبل ان تدمي النظام. بعد عشرة أيام على انطلاق الحرب يمكن القول ان بوش أقدم على مغامرة كبيرة إن لم نقل مغامرة كبرى. تجاهل معاني الانقسام في نادي الدول الخمس الدائمة العضوية، ورأى في النصائح الفرنسية مجرد محاولة لعرقلة اضطلاع الولاياتالمتحدة بدورها كقوة عظمى وحيدة. وتجاهل نصائح الدول العربية الصديقة لبلاده، مراهناً على ان جراحة سريعة لاقتلاع النظام العراقي كافية لإخافة المعادين وإسكات المعترضين وخلق حقائق جديدة في المنطقة. هكذا يمكن القول ان بوش أساء تقدير حجم المعارضة الدولية لحرب تفتقر الى تفويض من الشرعية الدولية وتفتقر ايضاً الى القدرة على الاقناع. كما يمكن القول ان قراءة بوش لمواقف الدول المتاخمة للعراق افتقرت الى الدقة لأنها لم تأخذ في الاعتبار تماماً وطأة المشاعر وحجم المخاوف وحسابات السلامة والمصالح. والنموذج التركي صارخ في هذا المجال على رغم الضغوطات الشديدة التي مارستها الادارة الاميركية على هذه الدول الاطلسية. وترافق ذلك مع قراءة غير دقيقة لمدى تقبل الرأي العام العربي والاسلامي فكرة اجتياح دولة عربية - اسلامية لاقتلاع نظامها، مما يجعل الجراحة الاميركية باهظة للولايات المتحدة والمنطقة. قراءة غير دقيقة للمدة التي ستستغرقها الحرب وتكاليفها ورهان مفرط في التفاؤل على اندلاع انتفاضة داخلية ضد النظام العراقي بمجرد تقلص سلطته عن اجزاء من البلاد. وقراءة غير دقيقة للأساليب التي يمكن ان يلجأ اليها الرئيس صدام حسين في مقاومة الاجتياح. فصدام حسين "جنرال" من خارج الاكاديميات العسكرية وكتبها ومجلداتها يصعب على الجنرالات الاميركيين التكهن بمخططاته واساليبه. هذا من دون ان ننسى ان النعوش العائدة وعناوين الصحف قادرة على إحراج بوش في حين ان صدام يعمل في عالم مختلف تماماً. من المبكر الخروج باستنتاجات، لكن ما أظهرته الأيام العشرة الأولى هو ان عملية التغيير تنذر بالتحول عملية تفجير، وان الجراحة السريعة مهددة بالتحول حريقاً كبيراً. واننا في خضم حرب مريرة تفوق قدرة المنطقة على الاحتمال.