جعل الرئيس الأميركي جورج بوش من الرئيس العراقي صدام حسين النموذج المؤهل لابراز "صواب" مبدأ الضربات الوقائية كما وضع في ما يسمى "عقيدة" بوش. خاطب بوش الشعب الأميركي رابطاً بين الخطر الآتي من العراق وبين الارهاب ضد أميركا. تحدث عن "أسطول متنام" من الطائرات المؤهلة وغير المؤهلة لدى العراق يمكن استخدامها لنشر الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وقال ان القلق نابع من "استطلاع" العراق استخدامها في "مهمات تستهدف الولاياتالمتحدة". عرض مختلف الدوافع والذرائع، من سجل صدام حسين الذي وضع العراق في موقع "فريد"، وتوّعد بمحاكمة من ينفذ أوامره باستخدام الأسلحة المحظورة ك"مجرمي حرب"، واعداً بإعادة بناء العراق في حال اجتياحه. لكن الرسالة الرئيسية كانت: "نرفض أن نعيش في خوف" من الارهاب الذي اطلقته أحداث 11 أيلول سبتمبر و"مواجهة التهديد الذي يمثّله العراق حاسمة في تحقيق انتصارنا في الحرب على الارهاب". خطاب الرئيس الأميركي لم يجب عن السؤال المطروح في معظم أذهان العالم، وهو: ما هي حقيقة دوافع اجتياح العراق؟ في جواب بوش محاولة استعارة المقولة الاميركية التي برزت في حملة انتخاب الرئيس السابق بيل كلينتون "انه الاقتصاد يا غبي"، ليطبقها على العراق "انه الارهاب يا غبي". فحشد أعضاء الكونغرس وراء الادارة الاميركية في شن حرب على العراق يمثل جزءاً من استراتيجية دعاة الاجتياح. الجزء الآخر يستهدف الشعب الأميركي المنقسم جذرياً الى موالٍ ومعارض ومتردد في دعم حرب لا يفهم مبرراتها. لذلك، قنّن بوش مسألة العراق في قناة الارهاب وارتباطه بأسلحة الدمار الشامل كي يبسّط الرسالة للفرد الأميركي، ولا سيما المتردد، ليزيد من خوفه تمهيداً لتجنيده في المعركة على الخوف. ومن أجل استدراج الدعم والتعاطف مع مواقف الإدارة الأميركية، فتح بوش نافذة ضيقة على إمكان عدم اللجوء الى استخدام القوة العسكرية، فقال ان تفويضه بهذه الصلاحية "لا يعني أن العمل العسكري وشيك أو أن لا مجال لتجنبه". وأضاف ان نزع سلاح العراق "قد لا يستدعي عملاً عسكرياً" لكنه زاد "إلا أن ذلك قد يحصل". عكس أجواء الكونغرس الذي يتهافت اعضاؤه على تجنب أي طعن "بالوطنية الصارمة" بقدر تهافتهم على مقاعد في الانتخابات الشهر المقبل، ان أجواء الرأي العام الأميركي أكثر تساؤلاً وتدقيقاً وحكمة ومساءلة. حتى الإعلام، بكثير من صفوفه، ولا سيما الصحافيون المعتمدون لدى البيت الأبيض، يلهث وراء الرأي العام في مساءلته ورفضه المصادقة التلقائية على حرب بوش ضد العراق. معظم المساءلة والمواجهة إعلامية يحدث في برامج التلفزيون وفي مقالات الصحف. اما الصحافيون المعتمدون، فإنهم لا يقومون باستجواب الرئيس وأركانه كما سبق وفعلوا في الماضي، بمواجهة واصرار واستجواب. ثم ان إدارة بوش بارعة في فن حمايته من الصحافة وبرمجة ظهوره اعلامياً بصورة ولقطة مهندسة فنياً وكأنه على المسرح. كل شيء مرسوم بتخطيط يأخذ في حسابه الصورة ومكانها. والصحافيون الذين يُختارون لمرافقة الرئيس قلّ ما يحدث ان يتلاقوا مباشرة معه، ونادراً ما طرحوا اسئلة عليه سوى في مناسبات يسمح بها البيت الأبيض. وعندئذ يكون قد تم إعداده وتهيئته مسبقاً للاجابة. فلقد ولى زمن "صراخ" سؤال على الرئيس بما يجبره على الاجابة. هذا زمن عدسة الكاميرا والخطب المعلبّة. انه زمن حماية الرئيس من المساءلة. وأميركا منقسمة إزاء ذلك. منقسمة من حيث الجوهر، ومنقسمة في رأيها بجورج بوش "المقلب" وجورج بوش "الطبيعي". لكن هيبة الرئاسة تبقى دائماً رائدة في التصرف الأميركي. كذلك، جدية الحرب. الرأي العام الأميركي ليس مقتنعاً تماماً بضرورة الحرب على العراق. أسباب تردده ليست حباً بصدام حسين أو ثقة به أو دعماً له، بل ان هناك إجماعاً على الرغبة بالتخلص منه. انما السؤال كيف وبأي ثمن. كثير من الأميركيين يرى ان رئيسه يمضي فائضاً من الوقت تسويقاً للحرب على حساب الاقتصاد الاميركي وتدهوره. يرى ان كلفة الحرب البشرية، لا سيما للجنود الأميركيين، تثير القلق ولربما تؤدي الى احياء التجنيد الاجباري الذي تمقته اميركا ويذكرها بحرب فييتنام. وهناك أكثرية تخفي خوفها الأكبر، وهو أن تؤدي الحرب على العراق الى مزيد من الارهاب في عقر دار اميركا انتقاماً منها. الأميركيون غير متحمسين لحرب هدفها ازالة نظام، ليس رغبة في بقاء ذلك النظام، وانما لأن الأرواح الأميركية "أثمن" من هدرها من أجل آخرين. لذلك، وفيما الأكثرية الاميركية لا تنطلق من مبدأ عدم جواز تغيير أنظمة في دول أخرى، فإنها لا توافق على اطاحة نظام بحرب مكلفة لأميركا، بشرياً أو مادياً. لذلك، لم تتمكن ادارة بوش من تسويق الحرب على أساس تغيير النظام في العراق. كان لا بد لها من اقتران بين أسلحة الدمار الشامل التي تقول ان العراق يمتلكها أو على وشك امتلاكها وبين حرب أميركا على الارهاب. فلو قيل للأميركيين ان الدافع هو النفط، لكانت اجابة الاكثرية ان النفط بخير الآن ولا داعي للحرب من أجله. ولو قيل للأميركيين ان الدافع هو اسرائيل، لعارضت الأكثرية الاميركية هدر أرواح ابنائها من أجل مصلحة اسرائيل وأمنها. ولأن طرح بوش بأن القصة الحقيقية هي الحرب على الارهاب ليس مقنعاً كلياً، لا تزال اميركا تتحاور وتتناقش وتعبر على آراء مختلفة. وعلى رغم استراتيجية ادارة بوش القائمة على التأثير في الرأي العام عبر استقطاب الكونغرس، فإن أكثرية الاميركيين لا تزال تصرّ على عدم التفرد والانفراد في حرب على العراق، وضرورة العمل الجماعي في اطار مجلس الأمن لاستنفاد الخيار الديبلوماسي لتجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل. هذا الرأي يشاطره الرأي العام الأوروبي، والعربي أيضاً، باختلاف النسب وحجم المشاركة في صنع القرار. وفيما تتنامى أهمية الساحة الدولية، في العواصم الأوروبية وفي مجلس الأمن، تنحسر الساحة العربية، رأياً عاماً وقيادات، في عملية صنع القرار. هناك نوع من الاستسلام لحتمية حرب على العراق في الساحات العربية انطلاقاً من قراءة مواقف الادارة الاميركية بأنها قررت الحرب بغض النظرعن تجاوب العراق. شق من هذا الاستسلام عائد الى عقلية قدرية في الساحة العربية، وشق عائد الى تهميش تقليدي للعربي لنفسه عندما يقرر أن قرارات الدول الكبرى تم اتخاذها. هناك ايضاً من يرى ان الوضع السائد في العراق، باستمرار نظام صدام حسين واستمرار العقوبات، هو الأسوأ لشعب العراق. وبالتالي، لا مانع من تغيير الوضع الراهن حتى بحرب على العراق تأتي اليه بالديموقراطية وتؤثر في جيرته لتتبنى اجراءات الاصلاح الضرورية لنقل شعوبها الى الديموقراطية واحترام الحقوق. وهذا الرأي ينطلق من الرغبة في الخلاص من نظام صدام حسين ومن العقوبات المفروضة على العراق كما بالرغبة في تغيير جذري في الأنظمة العربية الأخرى، أو أقله في فكرها ونمطها. كثير من الأنظمة العربية، من جهته، يفكر ببقائه في السلطة، ويرى أن الاستسلام للقرار الاميركي هو صمام الأمان لبقائه، فيما تحدي القرار الأميركي بحرب على العراق يجعله مستهدفاً. البعض الآخر يلقي اللوم على القيادة العراقية لما فعلت في الماضي وما ستفعل مستقبلاً إذا رفضت الاذعان التام للمطالب الدولية. بالأمس، كان الموقف العربي الرسمي معارضاً لحرب على العراق. واليوم يعرب هذا الموقف عن الاستعداد للالتحاق بقرار الحرب إذا صدر عن مجلس الأمن، لأن الفصل السابع من الميثاق ملزم لجميع الدول. بالأمس، كان هناك اندفاع في تحرك عربي رسمي لابعاد شبح الحرب عن العراق. واليوم، هناك ابتعاد مدروس عن القيادة العراقية مع ايصال رسالة واضحة لها ان أمامها إما الاذعان أو الاجتياح. خطورة هذا الموقف هي في شعور القيادة العراقية بأن كل استباقاتها للتعاون مع المفتشين مضت من دون تقدير أو مقابل، وان القيادات العربية تخلت عنها في لحظة الحاجة اليها. الخطورة تكمن في تبني القيادة العراقية منطق "عليّ وعلى أعدائي"، اذا تبيّن لها أن الكل عازم على التخلص منها. مشكلة الجيرة للعراق أنها مقتنعة بأن الادارة الأميركية ستجتاح العراق مهما فعلت قيادته، وأنها استسلمت لهذه القراءة لذلك القرار. فالمنطقة العربية لا تشارك في صنع مصيرها، وعلى هذا راهن دعاة اجتياح العراق. فالمقاومة التي تواجهها الادارة الأميركية تأتي من صفوف الرأي العام الأميركي أولاً، ثم بدرجة أقل عبر مفاوضات شاقة من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، خصوصاً فرنساوروسيا. الصين، كعادتها، تتقوقع في سريتها وفي مصلحتها الوطنية قبل أي شيء. وروسيا تدرس مصالحها وتتأنى في الاختيار بين الرهان على شراكة مع اميركا في عراق ما بعد صدام حسين وبين الاحتفاظ بالعراق ركيزة جغرافية - سياسية لها، اذا تمكنت من الاحتفاظ به قد تستعيد عظمتها من خلال سلاح النفط المشترك. هذه المعادلة مغرية جداً لموسكو، لو كان لها سبيل اليها، لكن السبيل يبدو مسدوداً لأن اميركا قررت قطع الطريق اليه. لذلك، فإن المطروح هو اقتسام المصالح والفوائد في عراق ما بعد صدام حسين. وروسيا خائفة من استبعادها عن هذه المصالح اذا جازفت بمعارضة قوية تؤدي الى سير اميركا الى العراق من دونها. على رغم ذلك، تقاوم روسيا جدياً صدور قرار عن مجلس الأمن يعطي واشنطن صلاحية تلقائية لشن حرب على العراق أو يوفر لها ذريعة "معلبّة" للاجتياح. كذلك فرنسا تنشط بكل قوتها لحجب الصلاحية التلقائية ولقطع الطريق على "تعليب" الذريعة. هاتان الدولتان تسعيان الى تحدي الاندفاع الأميركي وما لا يساعدهما في ذلك هو الاستسلام العربي لحتمية الحرب، لأنها قرار أميركي. جورج بوش يواجه معركة صعبة مع الرأي العام الأميركي، وهو يأخذ الدوافع والذرائع اليه بلغة تدق في عقر داره. انه لا يرى حاجة لتفسير الأهداف والدوافع والنتائج للعرب، عقر دار حربه، لأن لا أحد يطالبه بذلك. وهذا أمر مستهجن، ان لم يكن مضراً. انه استثمار سيء في السيرة العربية ومصير المنطقة. فنقطة الانطلاق يُفترض ان تكون المساءلة. فأي عربي يعرف ملامح خريطة المنطقة بعد اجتياح العراق؟ قد تكون الخريطة الجديدة في مصلحة المنطقة وشعوبها. وقد يكون تغيير الوضع الراهن أفضل ما يحرّك تلك المنطقة خارج نمط الاستسلام للقدر وحتمية قرارات الآخرين. لكن الاستسلام - كسياسة - أسوأ القرارات. راغدة درغام - نيويورك