أقام الفنان التشكيلي السوري نذير نبعة دمشق 1938 معرضاً تشكيلياً في غاليري أتاسي في دمشق تحت اسم "التجليات". وفي هذا المعرض يرى نبعة نفسه من جديد كما يقول الفنان أحمد معلا في كلمته التي ضمها كراس المعرض، "في الصيغة الدسمة النافرة يعمّر سطحاً تصويرياً مجرّداً، غنائياً ومتأنقاً، أنشأه الامتنان للعبه الدور الثانوي مراراً الى جانب حسناواته ومواضيعه الأخرى من طبيعة صامتة وفوانيس وحلي وأعضاء بشرية. وكأنما هو اعتراف بفضيلة المادة والحادثة الغرافيكية والعناصر التي آن أن تنتقل من الخلفية إلى المقدمة، من الغياب الى الحضور ومن اللاوعي الى الوعي. كأنه امتنان للماء والتراب". أحمد معلا لا يعتبر نذير نبعة بحثه السابق في التفاصيل تجريدياً، بمقدار ما يعتبره دخولاً في عالم تفاصيل النباتات ومعاملة الأجزاء الصغيرة "بورتريه لبرعم" مثلاً، محاولاً أن يرى من الطبيعة ما هو أبعد من المعنى المباشر. وفي عودته الى التجريد الآن في معرضه انما يعود الى البحث في تفاصيل الطبيعة، بحثاً عن المتعة البصرية الدائمة، التي تولِّد الحوار بين عناصر الحياة، والتي توْلد بدورها كما يقول: "من الحوار الدائم بين الضوء والعتمة، بين البقع والخطوط، بين الوضوح والالتباس، بين الواقع والخيال". وذلك في بحث مستمر عن الجمال الذي لا يزال هاجس كلّ بحث وصميم كلّ حقيقة إبداعية تبقى قيد التحول والاحتمالات. يتذوّق الرسام ملمس السطح فيذيب السطح باتجاه العمق. وتعبقُ اللوحة بمضمونها الفكري والجمالي. لم يكن نذير نبعة تجريدياً كما يقول، فالتجريد "منهج أوروبي". وهو درس في الأكاديميات الغربية. وفي 1976 حين اجتاح طوفان تجريدي سورية تحت تأثير "لاريجينيا" أحد الأساتذة الايطاليين، اتجه الى رسم الدمشقيات "لأن في التشخيص أيضاً يوجد فن". في تلكَ المرحلة استطاع الفنان أن يجد "لوحته" التي شدّت الكثيرين حتى من غير المثقفين "فالمثقف يمكن ألا يكون متعلماً". ضمّنَ الدمشقية كلّ عواطفه، اعتبرها الأم والأخت والحبيبة، اعتبرها المرأة - عشتار. "كان التشخيص هاجسي منذ البداية. ولكن منذ البداية لم يستهوني تشخيص الموديل. أعتقد أن الفنون القديمة لم تحفل بفن الصورة بل بفن التصوّّر". التصوّر ربما لكونه يعكس الذاكرة الجمعية مشبعة بالعواطف، عواطف التاريخ وعواطف الجغرافيا، فيكون الأبداع هو موقف الفنان الأخلاقي ومساهمته النقدية في المشروع الجمالي الكوني، أي في تجربة الحياة. كانت أول مهمة اختارها لنفسه مع مجموعة من أبناء جيله في فترة الستينات ليس في سورية فقط بل في مصر والعراق أمثال: محمود سعيد وعبدالهادي الجزّار وسيد عبد الرسول وجواد سليم وفائق حسن ونعيم اساعيل وأدهم اساعيل وغيرهم من الفنانين العرب، هي صنع فنّ هو الهوية، أو خلق هوية عربية للثقافة والفنّ. الستينات بالنسبة اليه كانت الدخول في الفنّ الفرعوني، الآشوري، التدمري، الفينيقي وجماليات النحت السومري. ثم ّ تعرّف على الفن المسيحي والإسلامي. لم يكن ذلك عودة إلى الماضي بقدر ما كان رجوعاً إلى الينابيع والجماليات المحلية "لئلا نكون غرباء عمن ننتج لهم" يقول نبعة، في هاجس ٍ لخلق فنّ عربيّ "محلي" امتدّ ليشمل كلّ الحركة التشكيلية العربية. هذه المرحلة ربما هي التي أعطت نذير نبعة شهرته لدى الناس. كان مع سعد الله ونوس وزكريا تامر ونجاة قصاب حسن وغيرهم، كلّ في مجاله يسهمون في بناء المشروع الثقافي والفكري الناهض آنذاك على خلفية أفكار تحررية يسارية كانت سائدة، وتحاول تعزيز الحاجة إلى الحوار والصدق مع الآخر والذات أولاً. وبعد أكثر من أربعين عاماً يعود نبعة إلى الظهور في معرضٍ تجريدي معتمراً "بيريه" كبيريه تشي غيفارا وكأن شيئاً لم يتغيّر على مرّ السنين، سوى العين الصامتة التي لم تجن سوى اللون، خيارها، تتقاسمه مع من تحبّ في هذا المعرض. العين التي أصابها الصدق بالصمت. فتشعر أن اللوحة تحمل تاريخها وتاريخك معاً. ولسببٍ ما يفسره كلّ امرئ في سرّه تجد نفسك في حال الفرجة على المعرض تنتقل إلى الطرف الآخر من اللوحة، مع الرسام وراء الحامل، في عين اللوحة، تشاركه الفشل والنجاح وتشاركه ما هو أهم من الاثنين معاً، الصدق مرّة أخرى، فتصاب بابتكار اللون، وبالروح الجمالية العالية التي لم تخضع لأيّ خذلان، تصاب باكتشاف الجديد، وتتوحد في هذا التجريد مع الكون من دون تفسير! فتسأل: هو الجمال ربما! يلوّن نذير نبعة النور والماء والطبيعة،النافر والغائر فيها، يلون حركة الشمس في المشهد، وكأنما منذ مئات السنين، تفاصيل الطبيعة التي تكثفت مع الزمن في داخل الزمن، داخل اللون، وصارت لوحة تجريدية. صارت أحاسيس وذاكرة وقيمة إبداعية، صارت بحكم التجريد أيضاً، لوناً، لوناً يحيل التقنية العالية لصاحبه إلى تفاصيله البريئة، إلى إخلاصه الشديد مع نفسه ليكون مع مرور الزمن، زمن اللوحة، هو بذاته. يرى نفسه من الداخل، برعماً يولد، لوناً يتشكل في لحظة مفصلية من الحاجة الملحة إلى التغيير. ليس في هذا التجريد عجز عن القول أو الموقف النقدي، أو محاولة في التشديد على التكثيف بحثاً عن النخبة نظراً الى ضيق مساحة الحرية. إنه الرؤيا الجمالية الراهنة للرسام، التي يصغي إليها منذ أكثر من عشر سنوات والتي للونها مصداقية كمصداقية التراب والماء، والتي لاستقرار اللوحة بانغلاقها على وحدة ألوانها في النهاية، مكان وزمان في المشهد التشكيلي الكوني، ولكن بإيقاع محليّ هو إيقاعُ سقوط المطر والشمس والأحلام ربما! أو إيقاع سقوط اللون، هذا اللون، لون الحساسية الفردية، الفريدة في اللوحة، في قلبها، والتي تحثنا على المشاركة: نصيبنا من الجَمال. الجمال العادل الذي تستوي فيه صخرة مع روح! تنبض الصخرة بمائها وترابها تعترف بضعفها، تبوح بالجفاف والعشب والنسيان والرطوبة والقسوة والموت، فتخترقها العين برقة ذاكرة البصر في الوعي وفي اللاوعي حين تختلط الذاكرة بالنسيان في لحظة اللون نفسها، روحه وكثافته وشدة صمته. صمته: التأمل والإصغاء الجديد. وإذا كان نذير نبعة في ندوة الحوار التي أقامتها الغاليري في نهاية المعرض تكريماً له، والتي تجاور فيها في التأمل مع الفنان الياس زيات، شدّد بصوت خفيض على أهمية ذلك الزمن الذي كانت الحركة الثقافية الشاملة من نثر ورسم وشعر ورواية وسينما وفنّ تشكيلي في حال نهوض، فإنه في جهده الفردي في معرضه حاول ما وسعت ألوانه ردم الفراغ الثقافي الراهن مرة أخرى بالصدق والجمال، فوسّع بالتأكيد مساحة أحبابه الذين من أجلهم يرسم ويعرض ويرى ويحيا ربما! بالألوان.