الخروج بالتجريد عن الحدود الأليفة والضيقة للقواعد والأساليب، هو هاجس الفنان التشكيلي اللبناني شفيق عبود المقيم منذ العام 1949 في باريس في معرضه الجديد، الذي تقيمه له غاليري "جانين ربيز" في بيروت يستمر لغاية أواخر شهر أيار / مايو. وهذا الخروج يستمد قوته من "ثورته على ذاته ومن إحساسه بضرورة التحرر والفرار، في آن من حيوية ارتباطه بجذوره الشرقية وتراكماتها في تجاربة التشكيلية التي تعود الى نصف قرن من الزمن. تلك المعطيات التي جعلت منه واحداً من كبار أساتذة الفن الحديث، ووريثاً شرعياً للتجريد الغنائي في "مدرسة باريس"، بل المجدد الحقيقي لها، لأن ما يطرحه عبود في لوحته لا يمكن أن يصل لما وصلت اليه التجارب التي رافقت جيله، الى الطريق المسدود وأقلّها الى التكرار القاتل. ذلك لأنه يعيش لوحته، يحكيها قدر ما يبوح لها، يفتح فضاءاتها الواسعة على أحلام القلب. يزخرف حواشيها، يتدخّل في تحضير كيمياء ألوانها، يسلط عليها أنواراً خفية. يجترح لها قصصاً ووعوداً وأمنيات، يتوهمها حقائق ذات أبعاد وأعماق. فتغدو لأجلها كل ذرائع الواقع ممكنة: احتفالية الطبيعة والناس والأمكنة والأحداث وخصوصاً التذكارات. كأنه بذلك يعطي الفعل التجريدي صداه العميق الممتلىء بالعاطفة والحنين والحب، بينما حضوره الحقيقي والتلقائي ينبع من ذاكرة أسلوب عبود، بكل مفرداته وعناصره التأليفية والتلوينية، فضلاً عن ثقافته البصرية التي تغتني يوماً بعد يوم، من ملاحظات العين وحساسيتها عند مخاطبتها للمرئيات، التي لا تلبث أن تتحول الى علاقات لونية مبنية على وشائج اصطلاحية من المزج والتدرّج والتصادم بمواصفات غنائية متفردة وشديدة الخصوصية. ويقترب فعل الرسم والتصوير أكثر من ذات الفنان ويوشك أن يتبع إيقاع حياته نفسها بتفاصيلها ويومياتها وتناقضاتها ومشاهداتها، بين حركة وسكوت وثرثرة وصمت، بناء وتفكيك، إمتلاء متفتِّح وتعرية متقشفة، مزاجية عابثة وصراحة شديدة، نظرة خاطفة وأخرى متأمِّلة. براعة مهنية صرفة ودهشة الاكتشاف. تلك الدهشة التي لا تنطفىء. يظل عبود محافظاً على الجمالية كغاية فنية بأسلوب وصفه ميشال راغون "بالتجريد الطبيعي"، حيث الحالة الشعرية الصافية تأخذ معناها من علاقة اللون بالضوء. فالضباب العالي المسحور بالضياء، يكشف مقاطعَ من يابسة مشتعلة بحرارة اللون في محيطٍ من لجج الأزرق الرمادي. والأحجام المتكتِّلة توازيها دوماً الفراغات القريبة بالبعيدة في عملية التأليف. وغالباً الأشياء بلا جاذب ولا حدود ولا خطوط تحيط بها، تعيش باللون وتتنفس منه. واللون هو خميرة الرؤية ولأنه سابق للشكل، فهو روحه وإيقاعه الداخلي ونبضه. واللون أىضاً هو سحر المادة، لا سيما في التعبيرات التي تنمو وتتطور لا سيما عندما يحاذي اللون لوناً آخر ليقتبس منه نبرته فيمتزج به، يشبهه أو يعكسه، يكمله أو يناقضه، بين توازن وتوزيع إيقاعي بصري متناغم يصل للذوبان الكلي في مادة الرؤية الى آخر الاحتمالات أو التأويلات. وفي المعرض الذي يضم 24 لوحة زيت واكريليك وتامبرا على قماش وورق وخشب بعضها يذكِّر بكلاسيكيات عبود إذا جاز التعبير - أي من مراحله السابقة "Repertoir"، وغالبيتها تعكس آفاقاً مغايرة من الاختبار. هذا الاختبار هو سر الحرية التي يكتشفها بعيداً عن صرامة التجريد في مدارس الخمسينات والستينات وما عاشته من صراع محتدمٍ ما بين الشكلانية واللاشكلانية، ليقترب أكثر من مفهوم التجريد الجديد وقماشته الموادية مواد المتعددة المستويات والتقنيات والإيحاءات، من غير تناقض في مسيرته الفنية الطويلة. والواضح في المعرض ظهور قماشة عبود الشرقية الحارة المدبَّجة بتفاصيل زخرفية تنسدل هنا أو أشكال مؤسلبة لأمكنة تطل هناك، مما يشير الى تنوع مرجعيات اللوحة في التجريب. وحين يقول عبود بأنه ليس تجريدياً غنائياً فحسب، فإنه يقف بمواجهة محدودية تلك التسمية ذات القولبة الجامدة، لأنه يجيء فعلاً من موروثات فنية يعود قريبُها، الى الانطباعية حيث علاقة اللمسة اللونية بدرجات النور والظلال لا سيما عند مونيه Monet واللمسة التقسيمية عند "سينياك" انتقالاً الى مناخات "التنقيطية" في فن "بونار"، كما يجاري عبود أساليب "جان بازين" و"إستيف" في مبدأ محاورة الطبيعة وإعادة صوغها وتكوينها، وتدهشه لطخة "دوستايل" بقوتها وكثافتها. وإذا كان العالم اللوني هو سر لوحة عبود، فإن التأليف هو عمادها الأساسي الذي يفرض غالباً أنواع المعالجات اللونية ومستوياتها. وبراعة تآليف عبود أنها تدخل أحياناً في أعماق المنظور الكلاسيكي لوحة بائع الجلاب وتخرج برؤية من أعلى بعين طائر لوحة عزف موسيقي منفرد ثم تتعرض لمشهد بحري بسيط بتأليف يعتمد الخط الأفقي، بينما تتعدد "نقاط الهروب Point de Fuite" في تكاوين لوحة "عروس المنتزه" في بعثرة مدهشة. ثمة حب للون في لوحات عبود تشكل دعوة الى الحلم تجد طريقها الى العين من خلال الظواهر الخارجية لسطوح لونية مليئة باللمعانات، تغري لاكتشاف ما هو أبعد من التجريد... ربما الظلال الإنسانية المستترة في قصة أو واقعة أو مشهد، رغم معرفتنا بأن قصة اللوحة ما هي إلا ذريعة واهية لولادتها. فتطل مساحات وهي بأقصى المعالجات اللونية، مقابل مساحات أخرى صغيرة تركها عبود تحتفظ بأول لطخة أو أول ذكرى. وثمّة مساحة صامتة تتظاهر بأنها أرضية ثابتة بلون واحد، وهي متعددة ومتموجة، تعلوها مساحة منقطة مزخرفة. ولكن "الهارموني" اللوني يلعب دوراً أساسياً ما بين الألوان الساطعة المتوهجة والأخرى المتدرجة الممحوة. ويستوحي عبود مظهر السجاد، فيقلِبُ الأدوار ليعطي اللوحة إحساس صناعة السجادة ومظهرها، كنسيج من حياكة نول. فالتشبيك المتصالب ما بين لمسات اللون الذي هو جزء من أسلوب عبود التلويني، يطل هنا، حين يرسم بقلم الرصاص خطوطاً رفيعة متشابكة مثل خيوط. فالأبرة والخيط والمشط المسنن. مشهد طبيعي غير ناجز، لشجرتين واقفتين في فسحة خضراء وبرتقالية، وفي لوحة "صباح صغير"، يجسد الخط المائل الحد القاسي، أو الحافة ما بين الواقع والمتخيَّل، في مسافة هي ما بين العين والنظرة المتأملة لمدينة مثل الوهم، مبنية من لمسات صغيرة متراكمة كعمائر في محيط السحب الزرقاء. وكثيرة هي اللوحات التي تعاطى فيها عبود مع الأبيض الكاسر ودرجاته الزرقاوية والرمادية. هذا الأبيض الثلجي الخطر والكتوم والقاسي كالجليد، لا يلبث أن يتحول الى أبخرة شفافة سريعة التحول تشبه في سيرها الغيوم حين تغطي تكاوين الأرض بمربعاتها ومستطيلاتها المتداخلة كسجادة. حيث كل البياض تكسره بقعة حمراء بعيدة. والأبيض يتراءى أحياناً جامداً وكأنه يحجب العالم يمنع الرؤية أو يغطيها، مما يحرض ريشة عبود السعي الى نقيضه، في الدكنة الكلية حيث العزف الموسيقي المنفرد، ذو الإضاءات الخلفية المخبأة في عباءة الليل، يستعيد مجد الخلفية السوداء الكلاسيكية، من أجل تكوين كتلوي ينتشر من وسط اللوحة الى الأطراف، كمقام الصوت والصدى. وفي ليل اللوحة يقطف عبود عطر اللون الوردي يجعله يمتص كل الأضواء حين يضعه على جناح الأزرق النيلي، ثم يتطور الوردي في طبقات البني يصير أرجوانياً وقرمزياً قاتماً. هكذا يأخذ النمو التصاعدي للون نبراته وطبقاته مع ايقاعات الضوء، بما يعزز الإحساس بغموض اللون رغم صراحته، لأنه الأكثر امتزاجاً وذوباناً. فالأصباغ الوردية والبرتقالية والترابية، ذات الإضاءات الحادة هي من خصوصيات قماشة عبود واختباراته اللونية المستخرجة من الطبيعة، وكأن الصدمة التي تُحدثها في العين هي بداية القراءة الصحيحة لأعماق العلاقات اللونية وإيحاءاتها المتقلبة والمتغيرة. فالقماشة متطلِّبة لذلك تحتاج اللمسة الصغيرة وربما النقطة الى الريشة والضربة الكبيرة الى السكين والمساحة الى فرشاة عريضة، والخربشات السريعة الى قلم والتجارب السريعة الى ورق أو قطعة خشب، هكذا تستدعي الأشياء بعضها بعضاً في التعبير التجريدي. المميز في لوحات عبود الأخيرة، هو دخول بعض الأشكال الواقعية المقرؤة في الفضاء التجريدي الكبير. فشكل البيت كما يرسمه الأطفال يستعيده عبود في إحدى اللوحات بدلالته الرمزية التي تكسر مبدأ عدم تعاطي التجريد مع أشكال لها صلة بالواقع. لذلك يعيد الفنان ترتيب الفارغ والملآن، مواجهة التبسيط، معطياً قراءات متعددة للوحة الواحدة، بفرح لا يوازيه إلا معرفة أسرار التنظيم المضبوط للعناصر المتبعثرة عمداً في تكوين يتوسط اللوحة حيث الإيهام بوجود أهازيج وألوان زاهية وورود في عرس ثوب أبيض كبير يغطي المنتزه. وإذا كانت لوحات عبود تستمد حكاياتها من أسباب عزلته الصغيرة أو لقائه بالأصدقاء في المقاهي أو من تأملِّه للخارج أي للطبيعة الكبيرة في محيط منتزه ماتسوري المواجه لمحترفه، فإن لوحات "تجريد التداخل" لا تقل أهمية عن التجارب الصغيرة المنفذة على الخشب أو القماش أو ورق الجرائد. إذ البرتقالي حار مثل نار الموقدة في لحظات متعاكسة تتحول فيها معالم داخل الغرفة الى شرائط عمودية وأفقية تلتقي فينعكس للعيان حركة تقاطعاتها.