لا يتردد البرتغالي جوزيه ساراماغو، نوبل الآداب 1988 في روايته "الكهف" الصادرة اخيراً في الترجمة الفرنسية المنقولة عن البرتغالية، عن دار "سوي" Seuil في باريس في تقديم "عصفور الرواية وخيطها" في آن، إذا جازت هذه الكناية. بل حتى يمكن القول ان ساراماغو يدعو قارئ روايته الى الإمساك بالعصفور وخيطه، طالباً منه المزاوجة بين قراءة ذوقية استمتاعية وقراءة تأملية مشدودة في بعض وجوهها الى التعرف على جوانب من العمل الإجرائي لبناء الرواية نفسها. وهو، فوق ذلك، لا يبخل بالكشف عن استقرار كتابته الروائية على الوجه البارز للرواية الحديثة، وهو وجه يقوم على إنشاء مجرى سردي تندمج فيه انواع ادبية عدة. على النحو هذا، لا يعدم قارئ "الكهف" العثور على ملامح للرواية الواقعية الاجتماعية، وعلى ملامح للأدب الروائي البوليسي وعلى ملامح للأمثولة الفلسفية او الفكرية، وعلى شيء من الأدب الميلودرامي المتخفف بالطبع من نزعة الاستغراق في استعراض البؤس ورومانسية الشقاء، الخ. وما يكفل انصهار هذه الملامح المتعددة والمتنوعة في سياق متماسك، إنما هو الحفاظ على انتظام ايقاع السرد ووحدته. في ما يخص الوجه الحكائي الصرف، والذي يشكل بالمناسبة متن السرد الروائي ومداره الرئيسي، يمكن القول بأن رواية "الكهف" تدور على حكاية رجل في الرابعة والستين من عمره، اسمه سيبريانو ألغور، ويعمل منذ سنوات طويلة "فاخورياً" اي يصنع الأواني الخزفية صحون، فناجين، جرار، أباريق، الخ وفقاً لتقاليد الحرفة المتوارثة على الأرجح، ليس فحسب على الصعيد التقني، بل كذلك وخصوصاً على صعيد اتصالها بنمو الحياة ومنظومة من القيم الأخلاقية المهنية. يعيش الرجل الكهل في بيته العائلي في قرية لا تبعد كثيراً عن مدينة يرتفع فيها مركز تجاري ضخم من 48 طابقاً بحيث يكاد يشكّل عالماً قائماً بذاته ما دام يحتوي على محال تجارية ومطاعم ومسابح وحانات ومراكز صيدلانية وطبية، وشقق سكنية يتبارى الناس للحصول على حق الإقامة فيها، اضافة الى جهاز حراسة مشددة. يعيش الفاخوري إذن في بيت ريفي متواضع مع ابنته مرتا وصهره مارسال غاشو الذي يعمل حارساً في المركز التجاري وينتظر تثبيته في وظيفته وحصوله بالتالي على شقة سكنية في المبنى الضخم ذي الطابع المديني الصارخ. ومع ان الرجل الكهل كان فقد زوجته قبل ثلاث سنوات، وبقي يشعر بوطأة هذا الفقدان، وإن كان يقتصد في التعبير عن حسرته وأساه، فإن الحياة المنزلية مع ابنته وزوجها تبدو هانئة اذ تغمرها حكمة هادئة متأتية من اختبارات الحياة وتجاربها. الرجل الذي كان يعيش من بيع الأواني الخزفية بالجملة الى المركز التجاري، وبحسب طلبات هذا المركز، سيشعر بانهيار عالمه ومعنى وجوده عندما يعلمه مسؤول القسم التجاري في المركز الضخم بأنهم ما عادوا يحتاجون الى أوانيه الفخارية البسيطة لأن الزبائن يفضّلون الأواني المصنّعة من مواد اخرى مثل البلاستيك. على ان "الفاخوري" وابنته ليسا من النوع الذي يستسلم بسهولة للقدر. فرهافة حسّهما ومخيلتهما العملية، اضافة الى ضرورات العيش بالوسائل المتاحة، ستقودهما الى التفكير في صناعة تماثيل صغيرة بدلاً من الأواني الخزفية. تروق الفكرة لمسؤول المركز التجاري الذي يوافق على شراء كميات محدودة من النماذج السبعة للتماثيل الخزفية الصغيرة، ولكن على سبيل الاختبار والتجربة، في انتظار معرفة مدى استجابة الزبائن. في غضون ذلك، يعثر الرجل في مخبأ صغير في حديقة البيت على كلب شريد فيطعمه ويعتني به ويطلق عليه اسم "لقية" ويصبح الكلب جزءاً من البيت العائلي البسيط، وعنصراً من عناصر تطور الرواية وتأملات صاحبها في الشرط الحيواني وفي الشرط الإنساني. وإدخال "شخصية" الكلب في الرواية يهدف، على الأرجح، الى تقديم اضافة درامية. ذلك ان هذا الإدخال ينمّ من جهة عن استكمال صورة العزلة الأليفة والهانئة لحياة الفاخوري وابنته وصهره، عبر التلميح الى الرغبة في الاستقرار في البيت الريفي، وينمّ من جهة اخرى عن تزايد الطابع الدرامي في حال انهارت آمال الرجل ورهاناته. وهذا ما سيحصل بالفعل. إذ ان مسؤول المركز التجاري يعلم الفاخوري بأن تجربة التماثيل الصغيرة آلت الى الفشل، وذلك بالاستناد الى نتائج استمارة استطلاعية ذات طابع "علمي" متعلق بدراسة سوق العرض والطلب، وشملت فئات من الأعمار والوظائف والمواقع الاجتماعية من الجنسين، وظهر منها ان معظم الزبائن لا يرغب هذه التماثيل الصغيرة. ولا يبقى أمام الفاخوري الحزين سوى الإذعان لإرادة ابنته وزوجها والانتقال الى السكن معهما في شقة في مبنى المركز التجاري الضخم. على ان الفاخوري يلحظ، منذ اليوم الأول لإقامته الجديدة، الحراسة المشددة ومنع اي كان من الوصول والنفاذ الى قاع المبنى، خصوصاً الى جزء معين من الفضاء السفلي تحت الأرض. ويدفعه الفضول الى معرفة اسباب هذا التشدد في الحراسة وفي الحيلولة دون وصول المستأجرين الى الجوف السفلي للبناية، فيذهب متسللاً وخفية ويجوب الفضاء السري الممنوع الذي يشبه المغارة او الكهف، وينضمّ إليه صهره ليشاركه في مغامرة الاستطلاع. وها هنا، اي في القسم الأخير من الرواية، يتخذ العمل السردي منحى ادبياً بوليسياً لا يخلو من التشويق والإثارة. وتنتهي المغامرة باكتشاف بقايا عظمية وجماجم لستة اشخاص، ثلاث نساء وثلاثة رجال. عندئذ يفهم الفاخوري الحكيم كل شيء، ومن خلال فهمه هذا تتبدى الأمثولة او العبرة الإنسانية التي يريد ساراماغو استخلاصها. فحين يعود الرجل الى الشقة وتسأله ابنته عما اكتشف في رحلته الاستطلاعية المحفوفة بالمخاطر، يعلمها بأنه عثر على ست جثث. لا تتفاجأ الفتاة بذلك وتقول بأنها كانت تحسب من قبل بأن الأمر يتعلق ببقايا بشرية، إلا انها لا تفهم لماذا يحاط ذلك بالكتمان والسرية والحراسة المشددة، فالعظام لا تهرب ولا يخطر على بال احد ان يسرقها. وحين تسأل اباها على الفور عن هوية هؤلاء الموتى الباقية عظامهم في الجوف السفلي للبناية، يجيبها والدها: "هؤلاء الأشخاص هم نحن ... انهم نحن، أنا وأنت ومارسال، والمركز التجاري كله، والعالم كذلك على الأرجح".، وعندما يعود الصهر الى المنزل يقول الفاخوري بنبرة حازمة لصهره وابنته بأن عليهما ان يقررا ما سيصنعان بحياتهما، اما هو فقد اتخذ قراراً لا رجوع عنه بمغادرة المكان. الفاخوري يتعرف في القرية التي يقيم فيها، وقبل انتقاله ببضعة شهور الى بناية المركز التجاري، على امرأة تقيم في القرية ذاتها بمفردها بعد ان مات زوجها، واسمها ايزورا، ويعطيها جرة ماء فخارية وتنشأ صلة عاطفية بين الاثنين لكنها تبقى مكتومة وشديدة الاحتشام طبقاً لاقتصاد الرغبات المتقشف في حياة القرى، خصوصاً لدى الكهول. وهذا ما يفصح عنه الراوي، اي جوزيه ساراماغو، خلال شروحاته وتعليقاته السردية على هذه اللحظة الروائية او تلك. على ان الشرح لا يأتي كيفما اتفق بل ينبغي انتظار الموقف المناسب لصدوره، فعندما يعود الرجل الى القرية ويذهب الى بيت ايزورا حيث اودع كلبه قبل انتقاله الى المركز، لا يجد احداً، ثم يذهب الى بيته ويفاجأ بوجود الكلب والمرأة، وتعلمه هذه الأخيرة بأن الكلب بقي يرجع كل يوم الى بيت صاحبه رافضاً مغادرة المكان، فصارت هي تأتي لتطعمه ولتفقّد المنزل، وتعلمه بأن ابنته اعطتها مفتاح البيت، ثم تخبره بحياء كبير وبما يشبه الهمس انها رقدت البارحة في سريره. وهنا يعلّق ساراماغو على الفور: "فلنفهم بعضنا البعض جيداً، هذا الرجل فاخوري، اي انه يمتهن العمل اليدوي، ولا يمتلك رهافات فكرية وفنية سوى تلك التي تتطلبها ضرورات مزاولة المهنة، وهو في عمر يجعله من ذي قبل اكثر من ناضج، وقد كبر في زمن كان امراً سائراً فيه بالكامل ان يكبح الناس، وكل واحد حيال نفسه والكل حيال الآخرين، جماح التعبيرات عن المشاعر وعن تلهفات الجسد". ويجيب الرجل على كلام المرأة قائلاً لها بأنها لن ترقد بعد اليوم في سرير آخر، ما يعني انهما سيعيشان سوياً حياة زوجية. بعد ذلك تتصل ابنته هاتفياً لتعلمه بأنها ستأتي في اليوم التالي مع زوجها لتبليغه قراراً مهماً اتخذاه. وبالفعل يعلمانه بأنهما قررا مغادرة بناية المركز التجاري لأن الفتاة لا تريد لطفلها الذي ستضعه ان يرى النور في مثل هذا المكان، وبأن الصهر قدّم استقالته من العمل، هو وزميلان آخران له. وبعد تباحث الجميع في مستقبلهم يقررون مغادرة القرية والانتقال الى مكان آخر، على ان يذهب كل زوجين في اتجاه. يقوم الفاخوري في اللحظة الأخيرة، اي قبيل انطلاق الشاحنة، بوضع التماثيل الصغيرة الثلاثمئة على عتبة المنزل كما لو انها ستحرسه من عاديات الزمن. وفي الطريق، يقول الصهر بأن المركز التجاري وضع يافطة دعائية تقول بالحروف الكبيرة: "سيجرى قريباً افتتاح مغارة افلاطون امام الجمهور، تسلية استثنائية، لا نظير لها في العالم، لا تنتظروا طويلاً، اشتروا بطاقات الدخول". بهذه الكلمات ذات الطابع الإعلاني التجاري تنتهي رواية ساراماغو الطويلة نسبياً، إذ تقع في 350 صفحة من القطع المتوسط. ومع ان امثولة الاحتجاج والتظلم من الشروط القاسية لمنطق الربح ولعبة السوق، قائمة في افق الرواية وفي ثناياها، فإن من الخطأ اختزال العمل الى مجرد رسالة نضالية تضع السرد وتقنياته وحبكاته في خدمة الشعار. ذلك ان ساراماغو ينجح الى حد كبير في الحفاظ على نظرته الإنسانوية لانهيار عالم الحرفيين الصغار وتهميشه، من دون ان يتخلى عن ضرورات استيفاء الرواية لمقومات البناء الفني الروائي. مقطع من الرواية : وصف الفاخوري وصهره الرجل الذي يقود الشاحنة الصغيرة يدعى سيبريانو ألغور، مهنته "فاخوري"، وله من العمر اربعة وستون عاماً، على انه يظهر اصغر سناً. الرجل الجالس الى جانبه هو صهره ويدعى مارسال غاشو، ولم يبلغ بعد الثلاثين من العمر. على اية حال، وبالنظر الى هيئته، لا يمكن أحداً ان يعطيه هذا العمر. كما يمكن ان نلاحظ اكثر من ذي قبل، فإن كلاهما يحملان، الى جانب اسم كل منهما، شهرة عائلية غريبة، يجهلان اصلها، معناها ومبررها. ويرجح في الظن انهما سيتضايقان كثيراً إذا ما علما ان كلمة "ألغور" تعني البرد الشديد الذي يصيب الجسم ويؤذن بارتفاع درجة حرارته، وأن كلمة "غاشو" تدل من دون زيادة او نقصان على ذلك الجزء من رقبة الثور الذي يقوم عليه العنق. الرجل الأكبر سناً يرتدي لباساً مدنياً، عبارة عن سترة وسروال متناسبين مع بعضهما بعضاً الى هذا الحد او ذاك، وعن قميص بقبة مقفلة باعتدال، ولكن من دون ربطة عنق. اليدان اللتان تمسكان بالمقود كبيرتان وقويتان، كما هي حال ايدي الفلاحين، وإن كانتا، مع ذلك، تشيان بقدر من الحساسية، ربما بسبب ملامستهما اليومية لنعومة الفخار كما تقتضي مهنته. اليد اليمنى لمارسال غاشو لا تحمل اية علامة مميزة، على ان ظهر يده اليسرى مدموغ بأثر جرح يشبه الحرق، وهو عبارة عن علامة خطية منحرفة تبدأ من قاعدة الإبهام وصولاً الى الإصبع الصغرى الخنصر. الشاحنة الصغيرة لا تستحق تسميتها هذه، فهي ليست سوى عربة مقطورة متوسطة الحجم والأبعاد، من طراز عفا عليه الزمن، وهي مملوءة بالأواني الفخارية. عندما خرج الرجلان من منزلهما، الواقع على مبعدة عشرين كيلومتراً، كانت السماء بدأت بالكاد تنقشع، أما الآن فإن الصباح نشر ما يكفي من النور على العالم بحيث يسعنا ان نتبين الجرح في يد مارسال غاشو وأن نتكهن بحساسية يدي سيبريانو ألغور. يسيران بسرعة مخففة نظراً لهشاشة الأشياء المحمولة، وكذلك نظراً لحال الطريق المعبّدة بطريقة سيئة. توصيل البضاعة الموصوفة بأنها ليست في عداد الأشياء الضرورية جداً، كما هي حال هذه الأوعية الريفية البسيطة، يتم في الوقت المحدد، اي حوالى منتصف قبل الظهر. وإذا كان الرجلان نهضا باكراً، فذلك لأنه ينبغي على مارسال غاشو ان يثبت قدومه الى العمل قبل نصف ساعة في الأقل من فتح ابواب المركز التجاري الضخم للجمهور. في الأيام التي لا يصحب فيها صهره، وإن كان يتوجب عليه توصيل الأواني الفخارية، لا يجد سيبريانو ألغور حاجة الى النهوض في وقت مبكر مثل هذا. على انه هو من يذهب دائماً، كل عشرة ايام لجلب صهره من مركز عمله ليتسنى لهذا الأخير ان يمضي مع العائلة اليومين المستحقين للاستراحة، وهو الذي يعيده بعد ذلك في الوقت المحدد الى حيث يقوم واجباته كحارس، سواء كان معه اوان خزفية في مؤخرة الشاحنة ام بدونها. ابنة سيبريانو ألغور، واسمها مرتا فيما تحمل شهرتين عائليتين، ايزاسكا من جهة امها المتوفاة، وألغور من جهة ابيها، وهي لا تستمتع بحضور زوجها في المنزل وفي سريرها سوى ست ليال وثلاثة نهارات في الشهر. حملت من زوجها في الليلة السابقة، لكنها لا تعلم ذلك بعد. المنطقة بشعة، قذرة، ولا تستحق نظرة ثانية. لقد أطلق احدهم على هذه الامتدادات الشاسعة الخالية من اي طابع ريفي اسماً فنياً هو "الحزام الزراعي"، واسماً آخر كذلك، على سبيل القياس الشعري، هو "الحزام الأخضر"، على ان المشهد الوحيد الذي يتقدم للأنظار من جهتي الطريق، مغطياً من دون انقطاع ملحوظ آلاف الهكتارات، إنما هو منظر سقيفات كبيرة مستطيلة الشكل وذات سطح خفيض، مصنوعة من البلاستيك ذي اللون الحيادي الذي جعله مرور الزمن والغبار ينحو شيئاً فشيئاً نحو اللون الرمادي والأسمر. ثم نباتات تكبر تحت هذه السقيفات، ولكن بمنأى عن انظار العابرين. الى ذلك نرى شاحنات وجرارات تسحب عربات محمّلة بأعشاب ونباتات، تخرج من هنا ومن هناك على طول الدروب الفرعية التي تؤدي الى الطريق الرئيس. غير ان القسم الأكبر من عملية النقل كان حصل اثناء الليل، والعربات التي نراها الآن إما انها تحوز إذناً مستعجلاً واستثنائياً للقيام بتوصيل حمولاتها لاحقاً، وإما ان سائقيها لم يستيقظوا في الوقت المناسب. رفع مارسال غاشو بخفر الكمّ الأيسر لسترته كي ينظر الى ساعته لمعرفة الوقت، وكانت حركة السير اخذت تزداد كثافة، الأمر الذي كان يقلقه لأنه كان يعلم أن الوضع مرشح للتفاقم، خصوصاً لدى دخولهما في منطقة "الحزام الصناعي". الحمو لاحظ الحركة، لكنه ظل ساكتاً، فصهره شاب لطيف، بالتأكيد، إلا انه عصبي المزاج، من صنف البشر القلقين بالطبيعة، الذين يزيدهم مرور الوقت قلقاً، وإن كان لديه الكثير منه، وهي حال تجعله لا يعرف ابداً على ما يبدو كيف يملأه، أي الوقت بالطبع. كيف ستكون حاله عندما يبلغ عمري، راح الرجل يفكّر. تركا "الحزام الزراعي" خلفهما، والطريق الآن اكثر قذارة، وتخترق "الحزام الصناعي" وسط فبارك ومصانع من مختلف الأحجام والأشكال والأنشطة، ومعها خزانات للوقود دائرية الشكل او مخروطية، محطات كهربائية، شبكات تمديدات، مجارٍ للهواء، جسور معلّقة، انابيب من كل الأحجام، بعضها أحمر اللون، وبعضها الآخر اسود، مداخن تلفظ في الفضاء لفافات من الدخان السام، رافعات بأذرعة طويلة، مختبرات كيماوية، مصاف نفطية، روائح مقززة، حادة او أقرب الى النعومة، اصوات قوية لآلات ثقب، جلبة هادرة لآلة منشار ميكانيكي، خبطات عنيفة لمطارق حديد آلية، ومن حين الى آخر فسحة سكون وصمت، ولا احد يعلم ماذا يصنع الناس داخل هذا. قال سيبريانو ألغور حينئذ: لا تقلق، سنصل في الوقت المناسب. لست قلقاً، اجابه صهره الذي كان يجهد نفسه لإخفاء قلقه. أعلم ذلك، ولم يكن كلامي سوى طريقة للمحادثة، قال سيبريانو ألغور. ثم سلك بشاحنته شارعاً موازياً مخصصاً للسيارات المحلية، سنأخذ طريقاً اقصر، قال معلناً، وإذا ما سألنا رجال الشرطة لماذا تركنا الطريق الكبيرة الرئيسة، فلا تنس التعليمة التي اتفقنا عليها، وهي ان لدينا موعد عمل مهماً في احد هذه المصانع قبل الذهاب الى المدينة. أطلق مارسال غاشو زفرة طويلة، فعندما يصبح السير صعباً على الطريق الكبيرة، كان حموه يلجأ في النهاية الى سلوك طريق اقصر. ما كان يقلق مارسال غاشو، هو ان يكون حموه شارد الذهن ويأخذ القرار بعد فوات الأوان. لحسن الحظ، وعلى رغم مخاوفهما ومن التحذيرات، لم يوقفهما رجال الشرطة ابداً. يجدر به ان يفطن ذات يوم الى انني لم اعد ولداً صغيراً، راح يفكر مارسال، وأنه لا يحتاج الى تذكيري كل مرة بحكاية موعد العمل هذه في المصانع. لم يكن اي منهما يتصور أن البزة العسكرية لحارس المركز التجاري والتي يلبسها مارسال غاشو هي بالضبط ما يفسر التساهل الدائم او اللامبالاة العطوفة لرجال شرطة طرق السير، وأن الأمر لم يكن مجرد ثمرة مصادفات متكررة، أو ضربة حظ عنيدة، كما كانا سيجيبان على الأرجح في حال سألناهما لماذا لم يتعرضا حتى الآن لإلحاق عقوبة بهما. لو كان مارسال يعلم السبب، لكان راح يتباهى ربما امام حميه بسلطة البزة، ولو أدرك سيبريانو السبب، لقاده ذلك ربما الى مخاطبة صهره بطريقة اقل استعلاء وسخرية. يصح هذا ما دام صحيحاً ان الشباب لا يعرف ما الذي يقدر على صنعه، وأن الشيخوخة لا تقدر على صنع ما تعرفه. عن الفرنسية: حسن شامي.