قد يسجل التاريخ ان اميركا خسرت الحرب ضد العراق في الخامس عشر من شباط فبراير 2003، فيما كانت تعد لها وتتهيأ لشنها. فعشرات الملايين التي خرجت لتملأ شوارع مئات العواصم والمدن، منددة بالحرب قبل ان تقع، أقوى سياسياً ومعنوياً واخلاقياً، وأشد تأثيراً في قرار الحرب من الصواريخ والطائرات وحشد الجيوش، ويمكنها، ويجب عليها، ان تلوي عناد ادارة بوش، على رغم التهور والجنون، عن شن الحرب. والأهم، يجب اعتبارها انذاراً وتحذيراً لما يمكن ان يحدث في حال اندلاع الحرب. لا مقارنة بين تظاهرات 15 شباط والتظاهرات التي اندلعت ضد الحرب في فيتنام، ليس من حيث الاتساع والشمول الاجتماعي والعدد فحسب، وانما ايضاً من حيث التوقيت والظرف العالمي والأبعاد. فتظاهرات فيتنام تعاظمت بعدما فشلت اميركا في الميدان. وراحت تبحث عن مسوغ للتراجع، فيما اندلعت التظاهرات الحالية لمنع الحرب وافشالها وهي تتهيأ للانطلاق. وتظاهرات فيتنام جاءت في ظروف الحرب الباردة في حين تعبر تظاهرات اليوم عن ظروف ما بعد الحرب الباردة، حيث ظُن كل الظن ان زمن الشارع والشعارات ولى. فهي ارهاصة مستقبل توجت التظاهرات الشبابية المناصرة لفلسطين والمناهضة للعولمة والمطالبة بعالم بديل ممكن اكثر عدالة. فأبعادها بالنسبة الى ما يحتدم في المدن من تدافع وصراع حول النظام العالمي المقبل أهم من الأبعاد التي حملتها تظاهرات نصرة فيتنام. انها تظاهرات لجم الديكتاتورية الاميركية عن العالم. وهذه التظاهرات، في جوهرها، ضد ادارة جورج دبليو بوش وما جاءت به من استراتيجية حرب على الدول والشعوب الأخرى، أو الخضوع لهيمنة اميركية مطلقة، بل هي تعبير عن غضب تراكم طوال سنتين ضد سياسات وتصريحات اميركية اتسمت بالعجرفة والتحدي والاستهتار بالحلفاء والأصدقاء، والضرب عرض الحائط بهيئة الأممالمتحدة والمواثيق والاتفاقات والقوانين الدولية. انها ضد قيام نظام القطب الواحد. ولعل خطورة تظاهرات 15 شباط كونها عكست مواقف مجتمعات بأسرها، فلا يمكن دمغها بأنها "فعل شباب فوضويين أو يساريين". فعندما تظهر الاستطلاعات في بلد مثل اسبانيا نسبة 91 في المئة ضد الحرب، ويخرج الى الشوارع في يوم واحد اكثر من أربعة ملايين وترتفع نسبة معارضي الحرب في بريطانيا وايطاليا الى ما فوق الثمانين في المئة، وتشهد لندن مليون متظاهر ويزيد، وروما ثلاثة ملايين، فإن الأمر لم يعد يحتمل من خوسيه اثنار وتوني بلير وسيلفيو بيرلوسكوني، وبقية قادة بيان الثمانية غير التراجع والشد بإدارة بوش الى الخلف، وقد انعكس ذلك بعودة وحدة الموقف في القمة الأوروبية حول ربط قرار الحرب بمجلس الأمن ربطاً محكماً بما يعنيه من تطويق للانفراد الاميركي وعزل له. اما التصريحات التي راحت تتحدث عن ان القائد لا يخضع للرأي العام فتحمل مشكلة لأصحابها، خصوصاً اذا مورست من خلال الحرب. صحيح ان كوندوليزا رايس مستشارة الرئيس الاميركي للأمن القومي قالت ان التظاهرات لن تمنع اميركا من شن الحرب، لكن هذه عنجهية فارغة لا تعبر عن الحقيقة. فالإدارة الاميركية مضطرة لمراجعة حساباتها بعد اهتزاز موقف الثمانية الأوروبيين، بعد خروج عشرات الملايين، واكثر منهم ممن عبروا عن آرائهم من خلال استطلاعات الرأي العام، وبعدما امتلأت شوارع المدن الاميركية بمئات الألوف على رغم البرد والصقيع ومناخ الرعب من عمليات ارهابية قصد منه، كما يبدو، اخافة الاميركيين من النزول الى الشوارع. لقد أصبحت المناطحة الآن أشد صعوبة ونتائجها وخيمة على قرون ادارة بوش. انها غير المناطحة مع حكومات وقيادات عبر الضغط والتهديد والإغراء. فمعاندة الرأي العام العالمي تحطم قرون الوعل بل قرن الكركون، واذا لم تصدق ادارة بوش فلتذهب الى الحرب متحدية هذه العشرات من الملايين ولتجرب! ويا للمعضلة لو دامت الحرب بضعة أسابيع فقط. لقد جاءت هذه التظاهرات المليونية لتتوج العوامل الفاعلة ضد الانفراد الاميركي بالحرب، لا سيما معارضة فرنسا والمانيا وروسيا والصين وحرمان قرار الحرب من مباركة مجلس الأمن. ومن ثم لا بد لها من ان تحرك عدداً من اصحاب الرأي داخل الولاياتالمتحدة وخارجها، لتدارك الأمر، وعدم ترك فريق ادارة بوش، المتطرف المتصهين الجاهل الذي لا يفكر إلا بعضلاته العسكرية، من دفع عربة اميركا الى ما لا تحمد عقباه. وقد باتت بشائر ذلك مع الصفعة التي تلقتها في مجلس الأمن في 14 شباط، ثم في الشوارع عبر المعمورة كلها في 15 منه، ثم من خلال قرار قمة الاتحاد الأوروبي في 17 منه كذلك. كما جاء في الاثناء ايضاً بيان وزراء الخارجية العرب من القاهرة في الاتجاه نفسه وان جاء متأخراً مع الأسف. هذا وسينضم صوت دول حركة عدم الانحياز من خلال مؤتمرها في 25/2/2003، في كوالالمبور ليصفق ما تبقى من أبواب في وجه قرار الحرب الاميركية، عدا باب الحمق والعناد الطفولي وتغليب الرغائب على الوقائع وموازين القوى السياسية والرأي العام العالمي. بكلمة، الرياح هبت ضد الحرب وليس أمام ادارة بوش غير التعلق بانقاذ ماء الوجه من خلال مجلس الأمن. وهذا يفسر اصرارها على قرار جديد من مجلس الأمن وهي التي أصمّت آذاننا بالاعلان عن عدم حاجتها الى قرار جديد من مجلس الأمن، وبأن قرار 1441 يكفي، وانها ستأخذ قرارها، وقد عيل صبرها وانتهى أمد "الفرصة الأخيرة" ولم يعد للجان التفتيش ما تفعله. وبالمناسبة ان ادارة بوش منذ أربعة أشهر تمارس غير ما تعلن عدا حشد القوات الذي يعزز التهديد باتخاذ قرار منفرد، لكنه في الوقت نفسه يخدم استراتيجية نشر القواعد العسكرية المطلوبة لذاتها كجزء من خطة عالمية تشمل كل القارات والاقاليم، فكيف منطقة الخليج. ومن ثم لا يمكن اعتباره مرتبطاً بما يعلن ليس إلا. فأميركا الآن أسيرة مجلس الأمن ولا مخرج لها الا بالتنازل لفرنسا والمانيا وروسيا. ولهذا يمكن القول ان 15 شباط اضعف احتمالات الحرب وجعل اصبع جورج دبليو بوش ترتعش وهو يهم بالضغط على الزناد. ولا شك في أن تجاوب العراق، خصوصاً، خلال الاسبوع الماضي، مع عمل المفتشين ساعد في ذلك. ويجب عليه ان يمضي، بلا تردد، ومماطلة، في تنفيذ قرار 1441. وهو يعلم ان نزع اسلحته ليس ما يريده صقور الادارة الاميركية. لكن قفل الملف، بصورة نهائية، وحاسمة، لا يكون الا بحل المشكل العراقي الداخلي نفسه الذي لم يعد يحتمل تسويفاً او تأجيلاً. بل هو الكارثة بعد تجنب كارثة وقوع الحرب وذلك اذا مضى الوضع في العراق ضمن المنوال السابق في الحكم. وهنا يأتي التجاوب مع مشروع أو مقترح، السيد حسن نصرالله أمين عام "حزب الله"، وقائد المقاومة المنتصرة في جنوبلبنان، مدخلاً مهماً يتسم بالاعتدال والعدالة والتوازن والعقلانية والشجاعة وبعد النظر، مراعياً مصالح جميع الأطراف، ومنقذاً للوضع. ولهذا لا يصح استبعاده لكونه، ضمن ظروف العراق، عسير القبول وصعب التطبيق الى حد الاستحالة. لكن تحدي شبه الحتمية هذه ممكن. ويجب أن يُعمل من أجله مثلما حدث مع تذليل شبه حتمية الحرب الاميركية كما حصل حتى الآن. فمقترح السيد نصرالله يجب أن يؤخذ بروحيته، وبجدية عالية، كضرورة. ولا ينبغي إقصاؤه بسبب ما يمكن أن يعدد من فروق بين لبنانوالعراق، او الحديث عن مجيئه متأخراً بحجة ان الحرب حادثة غداً لا محالة. فالمباشرة بتحقيق الاقتراح ممكنة، والتوقيت ما زال مناسباً، اذ يمكن أن تُستبق الحرب المتعثرة والقابلة للتأجيل. المهم توافر الشجاعة وبعد النظر والعض على الجراح من أجل انتصار الشعب العراقي باستعادة حريته ووحدته ووقف نزيف الدم ووضعه على سكة عقد اجتماعي جديد يرضي كل الأطراف. انه الانتصار الذي يجب أن يكمل الانتصار على الحرب، بما يدعم، بالضرورة، شعب فلسطين. وللحق ان الكرة هنا في ملعب النظام العراقي لاتخاذ الخطوة الأولى. وليتذكر انها ضرورية ليس على مستوى افشال العدوان العسكري عليه فحسب، وانما هي ايضاً مطلب عبرت عنه كل القوى القومية والاسلامية من حيث ضرورة مصالحة الأنظمة مع شعوبها، كما مع المعارضات الداخلية، لترسيخ دعائم الديموقراطية عبر وفاق داخلي عريض. فلا مفر من التخلي عن نهج الاستبداد والقمع والاستفراد في الحكم.