تتعرض فرنسا لحملة شعواء في الصحافة الدولية، خصوصاً في الولاياتالمتحدة وحليفتها بريطانيا. وشعوائية الحملة مزيج من عنصرية بريطانية وجلافة أميركية وانتهازية إسرائيلية، وبعض الحسد والغباء الموجودين في بعض أبواق إعلام أوروبا الجنوبية، كإيطاليا مثلاً حيث أخذ يحولها سيلفيو بيرلوسكوني إلى دولة هامشة تشبه في بعض اطلالاتها دول العالم الثالث. والجملتان اللتان تفوه بهما جاك شيراك في مؤتمره الصحافي الأخير ضد دول أوروبا الشرقية وانبطاحها أمام الإدارة الأميركية، ستزيدان بلا شك دائرة أعداء باريس. فوسائل إعلام غالبية هذه الدول ما زالت تتمسك بالتقليد الشيوعي في الالتصاق بقرارات حكوماتها التي تضم أيضاً عدداً من الشيوعيين السابقين الذين غدوا اليوم حلفاء جورج دبليو بوش الجدد. هذا لا يعني بالطبع أن فرنسا معصومة عن الخطأ، أو أن رئيسها ناصع البياض. والمتابع لسياسة شيراك الداخلية يجد أسباباً عدة ومتفرقة في توجيه النقد لها. لكن بين النقد الموضوعي وجعبة الشتائم فروقا شاسعة. وفي هذه الاخيرة تندرج رغبة مراسل "نيويورك بوست" في "ركل مؤخرة الفرنسيين"، وتأكيد صحافي ال"ويكلي ستاندرد" على أن الفرنسيين لا يدركون كم أنهم كريهون، وان لا أحد في الولاياتالمتحدة ينفر من "النكات الشائعة ضد ضعف الفرنسيين وغبائهم ونكرانهم للجميل"، وتذاكي "واشنطن تايمز" حول "فرار الفرنسيين من المعركة"، وانتهازية "هآرتس" التي تذكّر ب"خيانة فرنسا للدولة العبرية سنة 1967"، وعودة "واشنطن بوست" إلى البحث التاريخي والتذكير بتاريخ الغدر الفرنسي منذ... 1870! حتى الصحافيون الأميركيون الذين يصدرون "آسيا تايمز" من هونغ كونغ لجأوا إلى التحليل النفسي ليفهموا الظاهرة الفرنسية و"رغبتها في التميّز عن أميركا"، أو إلى الشعوذات للتأكيد على أن فرنسا تخلط "بين خصوصيتها والعناية الالهية"، ثم إلى تبشير بنهاية فرنسا ومعها أوروبا. انه كلام يأتينا من دويلة سابقة غدت مقاطعة من... الصين الشعبية! هذا الكره لفرنسا لا يقابله في نوعيته سوى الشغف العربي الحالي بها وبرئيسها. "القدس العربي" في انتقادها للزعماء العرب ترى "الرئيس الفرنسي الذي يضع نفسه في مواجهة العاصفة الأميركية الهوجاء، ويعرض مصالح بلاده وربما الاتحاد الأوروبي كلها للخطر...". فنخوة شيراك وعنفوانه يرشحانه في ريبورتاج عن عرب فرنسا، في الصحيفة ذاتها، لتولي "رئاسة الجامعة العربية". وهناك أيضاً رسائل استغاثة، أطرفها نجده على مركز الويب "أمين"، حيث نقرأ مقالة لطبيب من نابلس عنوانها: "واشيراكاه". ويغدو الرئيس الفرنسي معتصم العرب الجديد ونداً للخلفاء الراشدين. فهو "نصرة للمظلومين في العالم" والابن البار "للثورة الفرنسية". وهذه الصفات الحميدة التي لا يحلم بها أي رئيس غربي في صحافته، تغدق بها وسائل اعلام العالم العربي على جاك شيراك من الخليج الى المحيط، اذا ما استثنيا بعض الأقلام التي عاشت في فرنسا أو أوروبا ونهلت من أدبيات اليسار الفرنسي واليسار المتطرف الأوروبي. وهذه في كل من "السفير" و"النهار" و"الحياة" تنبّهنا الى أن شيراك ليس ديغول، او انه انتهازي صرف، أو ان هناك فروقاً شاسعة بين صلابة الموقف الألماني وتلاعب الفرنسيين. لكن هذه المقالات "التحذيرية"، وهي بلا شك ردة فعل على التهليلات العربية بشيراك، تخطئ تحليلاتها في وضع الأولوية. فشيراك ليس ديغول، ليس فقط لأنه ضعيف بمبادئه، بل لأن المرحلة شديدة الاختلاف عن زمن ديغول: انتقاد الولاياتالمتحدة يومها لم يكن ليؤذي الاقتصاد الفرنسي، أما اليوم في زمن عولمة الاقتصاد، فحملات مقاطعة السلع الفرنسية في سوق من طراز السوق الأميركية يقلق الصناعيين الفرنسيين، خصوصاً ان اشارة واضحة أخذت تظهر عن حالة ركود وتراجع في هذا الاقتصاد. وشيراك لا يمكنه أن يغالي في عدائه للولايات المتحدة، وقد يضطر عاجلاً أم آجلاً الى القبول بعدوانها على العراق، ليس لأنه يختلف عن جان دارك وهل يريد أحد أن ينتهي على محرقة جان دارك؟، بل لأن حليفه الألماني يواجه اليوم أزمة اقتصادية لا مثيل لها وتراجع شعبيا لقيادة أعيد انتخابها منذ أشهر قليلة. اما حليفاه الجديدان، روسياوالصين، فيمكن القول ان لا حاجة للاعداء مع حلفاء من هذه النوعية. يبقى ان شيراك حاجة ضرورية اليوم للعالم: زعيم أوروبي يميني يقف، ولو لبضعة أيام، في وجه الولاياتالمتحدة من موقع غير ايديولوجي أو طفيلي، ليقول ان للعالم مستقبلا آخر، وأن لأوروبا مستقبلا آخر. وكلامه الجارح لدول أوروبا الشرقية الذي لم يجد حتى في الصحافة الفرنسية من يدافع عنه، يأتي بمعنى ما في وقته، إذ يفتح، على طريقته، النقاش عن أهمية وحدة أوروبا السياسية. نقاش قلما انتبهت اليه صحافة العالم.