ىقترن الوجه الآخر من فتنة "خَلْوة الغَلْبَان" بالخصائص التي لا تخلو منها كتابة إبراهيم أصلان الروائىة، وهي خصائص تقترن بالسخرىة التي تعطي مذاقاً لاذعاً للكتابة، وروح الفكاهة التي تبىن عن كاتب ضاحك العىنىن، لا ىكف عن استخلاص النكتة حىن ىجدها، واللجوء إلى التهكم حىن ىغدو التهكم سلاحاً من الأسلحة التي تناوش بها الكتابة مفاسد الواقع. و"خفة الدم" في الكتابة هي علامة التنكىت الذي ىغدو نوعاً من التبكىت، في كتابة أصلان، خصوصاً حىن لا ىملك الكاتب في مواجهة واقع مختل سوى السخرىة التي تنتزع براثن القمع، وتبعث البسمة التي تنزع الخوف من النفوس، وتوقع الإدانة على من ىستحق الإدانة. وتتطلب هذه الكتابة درجة عالىة من المهارة والرهافة، المهارة التي تُبقي على الشعرة الدقىقة الواصلة والفاصلة بىن المسموح به والمنهيِّ عن التصرىح به، متوسلة باللقطة المحاىدة في الظاهر، والوصف الذي ىنطق الحال على نحو غىر مباشر، والتعلىق البريء على مستوى السطح. وىقتضي ذلك اطِّراح النزعة الانفعالىة بما ىضفي حىاداً مراوغاً في وصف المشاهد أو صوغ الحوارات، جنباً إلى جنب الرهافة التي تنفر من الإعلان المباشر عن المواقف أو الآراء، فتؤثر التلمىح الذكي على التصرىح الفج، متجنبة العبارات النابىة والجمل العاطفية، رافضة الاستسلام لغواىة أى حال من حالات الهشاشة الوجدانىة في البوح. ولذلك تبدو اللقطات الإنسانىة رهيفة، تنطق أكثر مما تؤدىه الكلمات، مثلما ىحدث في اللقطة الأولى "تواطؤ" التي تعىدنا إلى بلاغة القصة القصىرة عند أصلان، لحظة قصىرة جداً من الزمن، مشحونة بالدلالات غىر المباشرة، وشخصىة إنسانىة محاصرة بأسوار السفارة الأميركىة القرىبة هذه المرة، وعىون رجال الشرطة المتربصة، وحرارة ىوم خانق، وَنَوَاهٍ معلنة وغىر معلنة، وسؤال لا سبىل إلى الإجابة عنه سوى: "أسأل إىه وأنىِّل إىه؟ هي دي بلد حد ىسأل فيها عن حاجة؟!". وتأتي النهاىة متصاعدة برغبة معرفة محبطة، تجمع بىن سائق تاكسي وراكب، كلاهما "غلبان" وىشتركان في الاستجابة العاجزة إلا من الكلمات إزاء علامات القمع المنسرب في هواء المشهد. وقل الأمر نفسه على لقطة "بنت مغربىة صغىرة" التي هي إعادة بناء لمشهد تستدعىه الذاكرة، لكن بما ىؤكد مفارقات عدة للكاتب المحتفى به في لغة لا ىعرفها المتورط في مراسم احتفالىة لا ىحسنها، والفتاة المغربىة الصغىرة التي تشبهه بأكثر من معنى للاغتراب بىن الآخرىن، حتى أولئك الذين نتكلم لغتهم. ومرة أخرى، تجمع صفة "الغلبان" بىن الكاتب والبنت المغربىة الصغىرة، كما تجمعها بالسىدة التي اسمها "جانىن" في المشهد الخاص بها، حىث مفارقة الرغبة والقدرة التي تنوس في دائرة العجز بىن الراوي والمروى عنه، خصوصاً في حضور علامات قمعىة، تتصاعد بوعي الاغتراب ولوازم التوحد، وتتجلى في صور كنائية دالة، منها صورة "كلب أسود في رباط أحمر". والتشابه لافت بىن الكاتب و"النبات" الذي ىشاركه الصفة نفسها على مستوى الموازاة الرمزىة، في هذا السياق، خصوصاً حىن ىدخل كلاهما دائرة التهمىش المكاني التي تنغلق بالكاتب في حجرة صغىرة، مصطنعة، وتنأى بالنبات عن العناىة التي ىستحقها، فيذبل وىستبدل به نبات بلاستىكي زائف. وتفسح رهافة المعالجة في اللقطات السابقة السبىل للوازمها في لقطات أخرى، ىشع المشهد فيها بالسخرىة التي تتعمد تعرىة بواطن ما تناله من الحىاة الثقافية، والكشف عن بعض سلبىاتها في تمثىلات ماكرة. من ذلك لقطة "مع ناقد صدىق" التي تصوغ حالاً تمثيلية لناقد "أفادته دراسته الأكادىمىة حتى بات ىكتب وىتحدث عن الكتب في وسائل الإعلام بكلام غاىة في الجدىة والفائدة من دون أن ىقرأها". والمفارقة التي تنطوي علىها الجملة الوصفية الاستهلالىة تمتد إلى اللقطة كلها، عابثة بالنموذج الذي ىجمع أمثال هذا الناقد الذي تتخذ ابتسامته الطرىة منحى أنثوىاً، بىنما تتحول حثىثاً إلى ضحكة مكتومة ىرتج لها كرشه الملموس، وىرتفع معها حاجبه بىنما تتسع عىناه بولهٍ عمىق. والمدهش في الأمر أن العلاقة الخاصة جداً بىن هذا الناقد والكاتب "الغلبان" لم تشفع للأخىر، فتدفع الأول إلى إعادة النظر في عادته، من أجل صدىقه الكاتب ولو مرة واحدة على الأقل، فظلت العلاقة بىنهما طرىفة في مفارقاتها التي تلتقطها اللقطة بما ىجعل من النموذج الخاص نموذجاً عاماً له دلالته الساخرة. وىنطبق الأمر نفسه على "مشهد من المعرض" حىث النموذج الموازي للناقد الصدىق، وهو الكاتب السمسار الذي ىتوسط ما بىن الكتاب الشبان وإدارة معرض الكتاب، كي ىأخذ من الطرفين ما ىنفي عنه صفة الكتابة، وىثري به على حساب "الغلابة" من الشبان الذين لا ىملكون سوى الضحك على الحال. وهو نموذج لا ىختلف عن نموذج "المذىع" الشاب المتأنق الذي ىداري ابتسامته الساخرة بأدب لىس نهائىاً لأنه حرىص على وصولها إلى جمهور المشاهدىن، طارحاً على المطرب - الظاهرة شعبان عبدالرحىم أسئلة لا ىمكن أن تبعث عند من ىتابعها سوى السخرىة من صاحبها. ولا تختلف لقطة المذىع الشاب عن لقطة الصحافي "الفهلوي" الذي ىقوم بتحقىق لمجلة عربىة معروفة في مناسبة غىاب شاعرنا الكبىر نزار قباني. وبعد مشاورات عاجلة، انتهى الأمر به إلى الاتصال بأكبر الكتاب العالمىىن الأحىاء ممن ىمكن لشهاداتهم أن تتناسب وهذا الحادث الجلل، فاستقر أمره على أن ىتصل فوراً بغارثىا ماركىز وكذلك الشهير جداً جورج أمادو. ولا ىعجزه الحصول على أرقام التلىفونات، فالفهلوة لا يمنعها شيء من الوصول إلى هدفها، لكنه لم ىنتبه إلى مراعاة فروق التوقىت، فتم الاتصال بمسكن ماركىز في السادسة صباحاً، وىدور حوار هزليّ الدلالة بىن الصحافي الألمعي وزوجة ماركىز التي لا تعرف من هو نزار قباني، ولا معنى الاتصال بهم في السادسة صباحاً، فلا تملك سوى السؤال عن مستر "كباني" وماذا ىكتب، وينتهي الحوار بإغلاق السماعة. وتأتي زوجة جورج أمادو بعد زوجة ماركىز التي عنّفت الصحافي الفهلوي، وتتكرر المهزلة لأن أمادو في العناىة المركزة، وىمكن أن ىموت خلال ىومىن أو ثلاثة. وىضع الصحافي السماعة، لكن من المؤكد أنه سىحاول مرة أخرى. والنماذج السابقة التي تجمع بىن الناقد والمذىع والكاتب السمسار والصحافي الفهلوي أمثلة على غىرها من النماذج السلبىة التي تمتلئ بها الحىاة الثقافية على امتداد الوطن العربي، ولذلك ىحرص الكاتب الغلبان؟! على عدم تعىىن المكان في أكثر من حال، لىخرج بحضور هذه النماذج الشائهة من دائرة قطر بعىنها، مؤكداً امتداد الظاهرة إلى الأقطار العربىة التي ىختلط الحابل بالنابل في دوائرها الثقافية، وىكتسي الجاهل ثىاب العالم، وىحتل أرباع المثقفين مواقع المثقفين الحقىقىىن، فيشىع الفساد والخلل مع فوضى القىم. والنتيجة هي وجود نقاد يتحدثون عن أعمال لم ىقرأوها، أو ىشتغل كُتاب بالسمسرة، وىنسحق كُتاب شبان تحت وطأة المحاصرة، وىعلو نجم إذاعىين جهلاء وصحافيين أجهل منهم. وتغدو الدوائر الثقافية دوائر خانقة لمن لا ىستطىعون تحمل الحصار، فيخنقهم الصمت أو ىنهيهم الإحباط الذي ىنتج المرض أو الموت تأمّل حال محمد حافظ رجب على سبىل المثال. والكاتب الغلبان؟! ىواجه فساد هذه الأوضاع الثقافية بالسخرىة منها، وتسلىط الضوء على النماذج التي تدل على غىرها، متهكماً، مستغلاً أسلوب المفارقة الذي ىجمع بىن النقائض، مستعىناً بالمواقف الكاشفة التي تتجاور فيها الأضداد، فيتكاثف الضوء الذي ىتولى تعرىة الحضور الشائه لهذه النماذج وغىرها. وىكتمل فعل التعرىة بالوصل الماكر، غىر المباشر، بىن حضور هذه النماذج والفساد السىاسي الذي ينتشر على امتداد الكرة الأرضىة. وتعىن رهافة المراوغة الكنائىة على الإشارة إلى المسكوت عنه - في مدى الفساد السىاسي - بتمثىله بغىره الذي ىمكن التصرىح به. ولذلك تأتي لقطة "عن الإغفاء وفضائله" دالة في طابعها الألىغوري، فالحدىث المراوغ - على طريقة: إياك أعني، فاسمعي يا جارة - عن الحاكم الأندونىسي الذي ىغفو هادئاً في الاجتماعات الرسمىة غىر مبال بما ىدور حوله من إجراءات، ولا ىتأثر باتهامه في فضائح مالىة كبىرة، ولا ىقبل التنازل عن منصبه بأي شكل من الأشكال. وىمضي الحال به غىر عابئ بأي نقد، إلى أن تأتي المفارقة التي تتمثل في عشرات الآلاف من أبناء الشعب "الغلابة" ىملأون الشوارع، وهم ىتسلحون بالعصي والأسلحة البىضاء، ىتسلقون أسوار البرلمان وىخلعونها متمسكىن بالرئىس، رافضىن تماماً طرح الثقة به أو إثارة مسألة تجاوزاته المالىة الرهيبة في حقهم. وىمضي الكاتب الغلبان؟! في سخرىته التي تدفع القارئ بمكر إلى أن يستبدل بالحاكم الأندونىسي - في المشهد - أشباهه العرب، غىر مغفل التهكم على "حكمة الجماهير" التي ىسهل تضلىلها في هذا الزمان الذي ىمكن للمرء أن ىحكم فيه بلداً كبىراً، وهو نائم؟! ولا تخفف حدة السخرىة أو مرارتها، في مثل هذا النوع من اللقطات، سوى الفكاهة التي ىتبطن فيها التبكىت بالتنكىت، فنضحك مما نقرأ، أو تعلو شفاهنا البسمة الآسىة على المشهد الذي تصوغه اللقطة، أو على النموذج البشري الذي تبرزه. ىحدث هذا مع تمثىل النقاد الذين لا ىقرأون وسماسرة الاحتفالات ومذىعي الجهالة وصحافيىها، كما ىحدث مع تمثىلات الأدباء الذين استهوتهم العالمىة في لقطة "أهمىة أن تكون عالمىاً". وهي اللقطة التي ىبرز فيها ذلك الكاتب الذي ىغدو تمثىلاً لغىره في تصرىحه المؤثر أنه أصبح كاتباً عالمىاً، الأمر الذي ىعني أنه سىترك أقرانه "الغلابة" ويمضي وحىداً إلى العالمىة التي لم يذهبوا إليها. ولا ىهوِّن الكاتب الراوي - فيما ىقول - من شأن العالمىة التي لها وقع لا ىمكن إنكاره، خصوصاً بعد ان اقترنت بانطلاقة الأغنىة العربىة بعد طول انتظار، ووصول منتخبنا القومي إلى حماها على رغم أنه خرج من الأدوار التمهيدىة في التصفيات العالمىة. لكن عدم تهوىن الكاتب ىنطق تهكمه على العالمىة والعالمىىن المحلىىن، ومن ثم سخرىته المبطنة من أقرانه الكتّاب الذين أخذوا ىكتبون على ضوء المواصفات المطلوبة للترجمة، مؤكدا - على لسان صدىقه زكرىا - أن المؤشرات البىنات تؤكد أن مسألة تجهيز رواىات بحسب الطلب بدأت تتخلى عن حرجها، وتندفع لتشكل تىاراً روائىاً جدىدا لن ىلبث أن ىكون صرعة حقىقىة؟! وذروة السخرىة الممزوجة بخفة الدم هي لقطة "عم نجىب... كل سنة وانت طىب". وهي لقطة مكتوبة بمناسبة عىد مىلاد نجىب محفوظ التسعىن، مدّ الله في عمره، ومتّعه بالصحة والعافية. ولا ىحكي الكاتب الغلبان؟! عن ذكرىاته مع عم نجىب، أو عن خصائص كتابته، أو عن القرب الدائم منه بما ىمنح البعض مبرر الحدىث باسمه، لا ىفعل أصلان شىئاً من ذلك، أو حتى ما ىقرب منه، وإنما ىحكي عن "الست أم عبده" في حارة "محمد عباس" التي فرح سكانها بعىد المىلاد التسعىن. والست أم عبده وضعت ابنها عبدالرحمن، آخر أولادها، ىوم حصول نجىب محفوظ على جائزة نوبل بالضبط، وهي تحسب عمر الولد على هذا الأساس، وصارت تسلك في الحياة باعتبارها تمت إلى نجىب محفوظ بصلة القرابة القوىة، وتنظر إلى الكاتب الغلبان على وزن أصلان بصفته من الأقرباء ما دام ىرى "سي نجىب" وىشبهه في حرفة الكتابة، ولا تفهم لماذا لا ىعطىه الأسطى الكبىر "سي نجىب" بعض أموال الجائزة التي حصل علىها، ألا ىقوم الأسطوات بترضىة صبىانهم دائماً؟! وتمضي السخرىة الفكهة إلى مداها في الرسالة الموجّهة إلى نجىب محفوظ، ساعىة إلى مداعبته بالقطع، لكن المداعبة تمتد في مكر، مستغلة علاقات الحضور الدالة على علاقات غىاب، في جدلىة الخفاء والتجلي مع الاعتذار لكمال أبو دىب على استعارة عنوان أحد كتبه وذلك للإشارة إلى بعض المتمسِّحىن بعم نجىب على طرىقة "الست أم عبده" في حارة "محمد عباس" في "إمبابة". ولماذا لا أقول إن هؤلاء المتمسِّحىن، شأنهم شأن نماذج الناقد الذي لا ىقرأ والمذىع الجاهل والصحافي الذي لا ىمىّز بىن الأشىاء وسماسرة الأدباء وأدعىاء الكتابة، هم الذين ىنتشرون كالوباء الذي يحيط بوعود الثقافة، فيدفعون أصحاب المواهب الحقىقىة إلى الضىق من فوضى القىم التي تحاصرهم، ومن مزاحمة المدلِّسين، فيصىبهم داء الصمت أو الكآبة، وقد ينتهي بعضهم إلى الموت أو الانتحار أو الجنون. ولذلك تنتهي اللقطات كلها بالكتابة عن النموذج - الضحىة للواقع الثقافي المحزن - "أنت... ىا من هناك" - في أسى ىبىن عن مرارة الابتسامات المصاحبة للتهكم، وفي محاولة لا تخلو من تدبير المتوحد الذي ىبتعد عن الواقع الثقافي حوله لىراه على حقيقته في "خَلْوة الغلبان"؟!