كان المظهر العملي لحضور الهوامش في مشهد الإبداع العالمي ارتفاع نسبة أبناء العالم الثالث الحاصلين على الجوائز العالمية للإبداع، ابتداء بجائزة نوبل السويدية، مرورا بالجوائز الأقل شهرة، مثل جائزة "بوكر" البريطانية و"نيوستاد" الأميركية و"بالمي" الإيطالية، وانتهاء بجوائز من مثل جائزة "موريس ميترلنك" البلجيكية وجائزة اليونسكو للكتّاب المبدعين وجائزة اللوتس للأدباء الأفرو - آسيويين...إلخ. وإذا وقفنا على جائزة نوبل على سبيل المثال، ومن حيث هي الجائزة الأكثر شهرة، لاحظنا أنه لم يحصل عليها من خارج المركز إلى نهاية سنة 1945، أي في مدى خمسة وأربعين عاما من بدء تقديمها، سوى شاعر واحد من الهند هو رابندرانات طاغور سنة 1913، وشاعرة من شيلي هي غابريللا ميسترال سنة 1945. ولم يحصل علىها منذ ذلك الوقت إلى نهاية السبعينات، أي في مدى خمسة وثلاثىن عاما تقريبا، سوى ثلاثة مبدعين من خارج المركز: أولهم ميغيل أوسترياس من غواتيمالا سنة 1967، وثانيهم ياسوناري كاواباتا من اليابان سنة 1968، وثالثهم بابلو نيرودا من شيلي سنة 1971، وهو أمر يكشف عن تصاعد طفيف لكنه دال. ويأتي عقد الثمانينات ليحصل على الجائزة فيه، وحده، ثلاثة من خارج المركز: أولهم غابريبل غارسيا ماركيز من كولومبيا سنة 1982، وثانيهم وول سوينكا من نيجيريا سنة 1986، وثالثهم نجيب محفوظ من مصر سنة 1988 . وتتكرر الظاهرة نفسها في التسعينات التي تحصل على الجائزة في عامها الأول 1991 كاتبة الرواية نادين غورديمر المعروفة بعدائها لسياسة التمييز العنصري أو التفرقة العرقية في جنوب افريقيا، ثم تحصل عليها قرينتها توني موريسون سنة 1993 المعروفة بكتاباتها المدافعة عن حقوق السود في الولاياتالمتحدة، ويلحق بها في العام 1994 كينزابورو أوي من اليابان. وإن دل الحصر السابق على شيء فإنما يدل على متغيرات في دائرة المركز نفسه، متغيرات فرضها إلحاح إبداع الهوامش على الوجود بتأكيد مغايرته واختلافه وأصالته الذاتية التي لا تعرف التقليد أو الاتباع أو الجري وراء الموضة، وإنما الغوص عميقاً في الواقع المتعين للكشف عن جذره الإنساني. ولولا ذلك ما حصل الهندي سلمان رشدي على جائزة "بوكر" البريطانية، وهي العظمى بين جوائز الرواية في العالم عن روايته "أطفال منتصف الليل" سنة 1981، ولا حصل الياباني كازو إيشيغورو على الجائزة نفسها سنة 1989 عن روايته "بقايا النهار"، ولا النيجيري بن أوكري الذي حصل عليها سنة 1991 عن روايته "الطريق الجائع"، ولا السري لانكي المولد الكندي الجنسية ميكائيل أونداتجي سنة 1992 عن روايته "المريض الإنكليزي" سنة 1992. وقس على ذلك في الجائزة نفسها أرونداتي روي من جنوبالهند التي حصلت عليها سنة 1997 عن روايتها "إله الأشياء الصغيرة"، و ج.م. كوتسيا من جنوب افريقيا الذي حصل عليها في العام الماضي، وكانت تنافسه أهداف سويف المصرية بروايتها "خريطة الحب" التي صدرت عن دار نشر بلومزبري Bloomsbury في العام الماضي 1999. وأضف إلى هؤلاء نورالدين فرح الروائي الصومالي الذي عرف بروايته "اللبن الحلو المر" التي قادته مع بقية أعماله إلى الشهرة والجوائز العالمية التي نال منها جائزة "بريمو كافور" الإيطالية عن روايته "افتح يا سمسم" سنة 1994، وجائزة "نيوستاد" الأميركية عن غيرها من الأعمال سنة 1998. ولا تبعد عن هؤلاء آسيا جبار الجزائرية التي حصلت على جائزة النقاد العالمية في فيينا سنة 1979، وجائزة "موريس ميترلنك" البلجيكية سنة 1995، و"بالمي" الإيطالية سنة 1998، شأنها في ذلك شأن زميلها المغربي الطاهر بن جلون الذي حصلت روايته "ليلة القدر" على جائزة "غونكور" الفرنسية سنة 1987، وقس عليه أقرانه ممن يكتبون بالفرنسية. صحيح أن الذين نالوا هذه الجوائز يكتبون بلغة أجنبية، إنكليزية أو فرنسية، ويخاطبون مباشرة قراء الغرب، وتنشر أعمالهم دور نشر كبرى في العواصم الأوروبية والأميركية. لكن تصاعد حضورهم أسهم في إزاحة وهم المركزية عن قرّائهم، وفتح أفق الذوق العام في هذه العواصم، نسبيا على الأقل، للتعرف على الآداب التي لا تنتسب إلى المركز، خصوصا بعد أن عرفت السينما العالمية طريقها إلى أعمالهم، وقدّمت بعض رواياتهم المناقضة للكولونيالية القديمة "المريض الإنكليزي" مثلا والجديدة "بقايا النهار". ولذلك يمكن القول إن كتابة هؤلاء أسهمت على نحو مباشر، أو غير مباشر على الأقل، في دعم إمكان الحضور المكافئ للهوامش، وعززت إمكانات شيوع آدابها وانتشارها، فكانت النتيجة تزايد دوائر الاعتراف بهذه الآداب، وفتح ما كان مغلقا أمامها من أبواب التعريف بكتّاب الهوامش الباقين على نحو غير مسبوق في علاقات القراءة العابرة للأقطار والقارات. وذلك أمر وجد ما يزيد من إمكانات تحققه في التقدم المذهل لتكنولوجيا الاتصالات المصاحبة لصعود العولمة بمفارقاتها العديدة التي أحالت العالم إلى قرية كونية صغيرة بالفعل. يمكن القول، بالطبع، إن هناك تحيزا لا يزال موجودا إلى اليوم ضد كتابات الهوامش، وإن استخدام كلمة "الهوامش" نفسها إلى اليوم يعني إشارة إلى عدم تسوية بين آداب منتسبة إلى الأطراف وآداب منتسبة إلى المركزية، الأمر الذي يؤكد وجود تراتب مفروض على آداب العالم نتيجة علاقات القوى الثقافية المرتبطة بعلاقات القوى السياسية والاقتصادية. والدليل على ذلك جائزة نوبل نفسها التي لم تتوجه إلى الكتّاب خارج دوائر المركز التقليدية إلا على سبيل الاستثناء إلى اليوم. ولماذا نذهب بعيدا، والكتّاب العرب الذين يكتبون بالإنكليزية أو الفرنسية في العواصم الأوروبية، لا يزالون يتحدثون في كتاباتهم عن النزعات المضادة لوجودهم، وعلى استجابات العصبية التي لا تزال موجهة إلى أمثالهم؟! وقد أشار الطاهر بن جلون نفسه على لسان شخصياته في مجموعة "الحب الأول - الحب الأخير" إلى نزعة التعصب المضادة للعرب، خصوصا حين يقول راوي قصة "الرجل العجوز والحب": "لم يكن هناك شيء يعادل كرههم للعرب سوى نفورهم من الشاذين جنسياً". ولا أريد أن أدحض تماماً بعض ما ينطوي عليه القول السابق من صدق، فالمؤكد أن الصورة الغالبة على المشهد العالمي لم تصبح وردية تماما بعد، وأن تقبل آداب الهوامش لا يزال في دوائر محدودة، ولم ينل من الاعتراف الكامل ما يجعله في الرتبة نفسها المخصصة لآداب المراكز الكبرى، ولا تزال الأضواء الإعلامية مركّزة على أدباء المراكز، حتى لو كانوا أقل في القيمة من غيرهم في بعض الأحيان. ولكن عدم وصول الصورة الغالبة إلى اللون الوردي لا يعني عدم تغير عناصرها، كما لا يعني عدم بروز مجموعة من المتغيرات الحاسمة التي أراها دالة تماما في تحول علاقات استقبال آداب الهوامش، الأمر الذي تؤكده مطبوعات السلاسل العالمية الشهيرة التي أخذت تقبل على نشر الآداب المعاصرة من خارج العالم الغربي، وحركة الجوائز العالمية التي أخذت تؤكد بداية التغير العالمية في التوجه الذي يخرج على القاعدة المتكررة. وأخيرا، ما أخذت تضمه معروضات مكتبات بيع الكتب في عواصم العالم الأوروبي - الأميركي من إبداعات العوالم غير الغربية على نحو غير مسبوق. وتجربتي الشخصية في التعامل مع هذه المكتبات، وما تحويه من سلاسل عالمية، تضيف إلى هذه المتغيرات ما يؤكدها، فمنذ عقدين من الزمان لم أكن أذكر وجود نماذج الإبداعات العربية، وبخاصة الرواية، على رفوف هذه المكتبات. الآن، وبعد أن فرضت آداب الهوامش حضورها الإبداعي على علاقات الاستقبال تغير الوضع وأصبحت مكتبات البيع في عواصم العالم الأوروبي - الأميركي تضم كتّاب وكاتبات الهندواليابان وتركيا وإيران وأقطار أميركا اللاتينية، جنبا إلى جنب أقرانهم وقريناتهم من المنتسبين والمنتسبات إلى الأقطار العربية، وإلى الأقطار الأوروبية التي كانت خارج الدوائر المركزية الطاغية. وكان ذلك هو السبب في أنني أخذت ألاحظ أسماء روائيين لم أكن أعرفهم من قبل، ابتداء من غارسيا ماركيز الذي ذاعت الترجمة الإنكليزية لرائعته "مائة عام من العزلة" قبل أن يحصل على نوبل بسنوات، شأنه في الذيوع شأن أسماء من صنف ميلان كونديرا وكاداراه وياسونادي كاواباتا وإيزابيل أليندي وخوان غويتسلو وأهداف سويف ويونغ تشانغ، وغيرهم وغيرهن من عشرات الأسماء الإبداعية الجديدة التي أخذت تفرض نفسها، سواء بالكتابة المباشرة في الإنكليزية أو الفرنسية أو الترجمة إلى اللغات المؤثرة. وكان ذلك إلى الدرجة التي دفعت بعض النقاد إلى الزعم بأن مناطق الثقل في الإبداع الروائي غادرت دوائر المركز المعتادة إلى الهوامش، وأن الكثافة الروائىة أصبحت قرينة أقطار العالم الثالث. ولذلك لم أعد أستغرب وجود الكثير من الروايات العربية المترجمة معروضة في مكتبات العواصم العالمية، ولم أشعر بدهشة كبيرة عندما وجدت دار توزيع ونشر شهيرة في الولاياتالمتحدة وإنكلترا وكندا، هي دار ووترستون، تخصص قسما بأكمله لروايات نجيب محفوظ المترجمة. ولم يكن بعيدا عنها أعمال الأجيال الأحدث من نجيب محفوظ ابتداء من عبدالرحمن منيف وانتهاء بميرال الطحاوي. ولا تنفصل هذه الظاهرة في تقديري عن حركة الترجمة من اللغة الإنكليزية أو الفرنسية إلى العربية، حيث كان ذيوع آداب الهوامش في علاقات القراءة الخاصة بهاتين اللغتين، حافزا على ترجمة آداب الهوامش إلى العربية، وفي أكثر الأحوال عن إحدى هاتين اللغتين وليس عن اللغة الأصلية. ومهما كان الرأي في هذا النوع من الترجمة، وعدم دّقتها في كثير من الأحيان، فإنها أسهمت في تغيير ثقافة الأجيال الجديدة من كتّاب الرواية ومتذوقيها على السواء، خصوصا بعد أن أخذوا يعرفون الأسماء الجديدة من كتاب الهوامش، ويتأثرون بكتاباتهم، والمكانة التي يحتلها كونديرا أو كاداراه أو عزيز نسين لم تعد تقل عن المكانة التي كان يحتلها، تقليديا، كتّاب من عينة همنغواي أو فوكنر أو أمثالهما.