كاتب استثنائي في بساطته وأسلوبه وموضوعاته، يتوزع نشاطه الإبداعي بين كتابة الرواية والقصة القصيرة، والسيناريو، وأدب الأطفال. وكتاباته معجونة بحب كل شيء في مصر، ناسها، وطبيعتها، وأمكنتها. وهو عاشق ولهان بالقاهرة، وهذا ما يجعله أفضل من يتحدث عن هذه المدينة العظيمة، بشوارعها وميادينها ومقاهيها، وهموم أبنائها والمثقفين منهم خصوصاً. قرأت له بافتتان «تغريدة البجعة»، وهي رواية تقارب بأدق التفاصيل حياة الإنسان المصري المهمّش، ومعاناته المتعددة الوجوه والحالات. كما توقفت طويلاً عند كتابه الأحدث صدوراً «مقتنيات وسط البلد»، دار الشروق، القاهرة، وأدهشني أسلوبه الخاص واقتداره على استحواذ وقت القارئ واهتمامه وابتسامته أيضاً، وهي مقومات افتقدناها في الكتابات الراهنة، بعد أن سادت في حياتنا العربية موجة اليأس والإحباط. يتألف الكتاب من جزءين، أو بالأصح من كتابين، أولهما «كتاب البشر» والآخر «كتاب المكان» وهو في الكتاب الأول يرسم صوراً بارعة الإتقان والرهافة لنماذج بشرية من صرعى الفن وضحايا الإبداع، خالطها مكاوي سعيد زمناً كافياً مكنه من النفاذ إلى أغوارها، والإحاطة بكل التفاصيل التي جعلت من الكتابة عنها سيراً ذاتية، من الخيال وشيء من الفكاهة الساخرة، تلك التي لا يجيدها في مصر سوى عدد من المبدعين، الذين خبروا وجدان الشعب، واستطاعوا أن يعتصروا من الدمعة ضحكة مجازية، إذا صح التعبير لا تلغي المشهد الحزين، أو تقلل من المرارة التي رسمتها على الوجوه مهزلةُ الحياة بكل مفارقاتها المضحكة والمبكية في آن. وربما يحار الدارس في تحديد النوع الأدبي الذي ينتمي إليه هذا النوع من الكتابة، فلا هو قصة، ولا مقال، ولا مذكرات، إنه يكاد يكون فناً مستقلاً بذاته، لا يلتزم مقاييس الأنواع الأدبية السائدة، أو هو بعبارة أخرى، كتابة خارج النمط، تقوم على رسم صور بشرية يجمع أسلوبها بين السرد والاستذكار، والرسم بلغة هامسة رشيقة واضحة القصد، ويبدو في هذا السياق، أن نظرية الأنواع الأدبية التي مرت بمراحل طويلة، توشك أن تختفي ليحل محلها النص المفتوح الذي يأخذ من هذا النوع وذاك، من دون أن يخضع للمعايير الصارمة، وهو ما فعله مكاوي سعيد بامتياز في هذا العمل البديع، الذي يجعلك تنقطع إليه بكل مشاعرك وحواسك، وترغب في العودة لقراءته مرات ومرات. مكاوي سعيد يكتب أعماله الإبداعية بلغة جديدة، تكاد تكون هي لغة الإبداع النثري المطلوب للقرن الواحد والعشرين، وهي لغة تحافظ تماماً على المفردة الفصيحة بعد أن تحررها من تقليد فيها، أو بالأصح من كيانها التركيبي السالف، وتنفخ فيها روحاً جديدة مستمدة من الحياة ومن واقع الناس، وما يستجد في هذا الواقع من إيقاعات متغيرة لا يدركها من يعيشون فقط مع الكتب، ولا يعيشون مع الناس، ولا يتابعون حركة الحياة في إيقاعها المتغير. وإذا كان الصراع لا يزال محتدماً، وسيستمر، حول استخدام عدد من كتّاب القصة القصيرة والرواية للعامية الدارجة، فإن ما فعله معها مكاوي سعيد في هذا الكتاب يجعله يدخل في باب التجاوز المشروع، لغة بسيطة سهلة التلقي، ليست عامية ولا يصح أن تكون، وليست اللغة الوسطى التي قيل إن نجيب محفوظ التزمها في أعماله الروائية، وهي في الحقيقة لغة فصحى لا غبار عليها ولا وسطية فيها، ولا تتناقض مع قواعد الفصحى أو تندّ عنها. الفصحى والعامية كذلك هي لغة مكاوي سعيد، تنتمي إلى الفصحى ولا تخرج عن سياقاتها وقواعدها، لكنها تؤسس لتعبير جديد في الكتابة، تعبير لا يعرف التحجر ولا يتردد في أن يمكّن الفصحى من هضم العامية وابتلاعها، ووضعها في سياق ينسي القارئ بأنها عامية من ناحية، ومن الإيحاء بالمناخ الذي تشيعه العامية بعفويتها من ناحية ثانية، وإذا ما استخدم مفردة عامية، فهو يعرف كيف يدمجها في السياق الفصيح، فتبدو جزءاً منه وجزءاً مهماً أيضاً كما هي الحال مع كلمة «يشغي» التي أخذت موقعها الجديد في سطور، هذه الفقرة بامتياز: «لا يمنع طبعاً وجود فتاة ليل صادفها حظ سيئ في الاصطياد، ووجدت المكان يشغي بالناس فدخلت تجرب حظها... أو قروية تركت قريتها وراء حلم الفن وانتهى بها المصير للنوم على طاولة المقهى إذا خفتت الضجة وحل السكون» ص 230 «يشغي» كلمة عامية صرف، لكن انصهارها في هذا السياق أفقدها أصلها العامي، وصارت جزءاً من هذا التركيب اللغوي الفصيح، وأمثال هذه الكلمة من العاميات كثيرة في كتاب مكاوي سعيد، لكنها فقدت هويتها وتماهت مع جاراتها الفصحى بتناغم وانسجام. للوهلة الأولى تعطيك كتابات مكاوي سعيد انطباعاً كاملاً عن شخصيته، فتشعر أنك تعرفه جيداً، وإن كان لم يسعدك الحظ بلقائه. والانطباع الأول عنه يجعلك تدرك أنك أمام كاتب ساخر، شديد المرح يجيد الفكاهة، ويكتب من قلبه لا من قلمه، لا يتصنع التعبير، ولا يقترب من عالم البلاغة بمعناها البياني والمجازي. يكتب لك وكأنه يتحدث إليك، يهمس أحياناً حتى يجعلك تقرّب أذنيك من الصفحة، لتعرف ماذا يخبئ بين السطور، ويصرخ حيناً، فيصل صوته إلى أبعد من محيط الكتاب الذي تحمله بين يديك باهتمام. ويبدو أنه في حياته كذلك، يعكس صخب المقاهي والمنتديات التي يرتادها، وربما يبقى طوال الوقت الذي يمضيه في تلك الأماكن مشغولاً بالتقاط ملامح جديدة يضيفها إلى مخزونه من الصور، التي ستأخذ مكانها، وإن بعد حين، في قصة أو رواية، أو في كتاب على غرار هذا الذي بين يدينا الآن. عُرف عن مكاوي سعيد قلة إنتاجه. وبعض أصدقائه المقربين يرجعون ذلك إلى ما يقوم به يومياً من تبديد طاقته الإبداعية في أحاديث المقهى التي تغري رواده، وتجذب إليه عدداً غير قليل من عشاق الأدب والتمثيل والفن التشكيلي، ومن الذين يحيون وسط البلد بكل تاريخه وآثاره. ومن الواضح أن مكاوي سعيد منجم أحاديث وحكايات. وشخصياته المرسومة في هذا الكتاب لا يقدمها في صورتها المباشرة، بل يلامسها بإيماءات فنية تشير إليها من بعيد. كما أن وسط البلد، الذي يقدم لنا الكتاب مقتنياته البشرية المكانية ليس القاهرة فحسب، وإنما هو مصر بتاريخها الحديث: الأدب، والشعر والفن، والصحافة وهو ما يجعلك وأنت تمر بهذا الوسط الحي تشعر بأن جدرانه تتكلم، حيث لكل شارع تاريخ، ولكل عمارة حكاية أو حكايات، ولكل مطعم ذكريات. المجلس الأسبوعي يذكرني وسط البلد شخصياً بمنزل صديقي الراحل فاروق خورشيد، الإذاعي والكاتب والباحث المعروف باهتمامه بالسير الشعبية، ولا يغيب عن ذاكرتي مجلسه الأسبوعي الذي كان يضم أشهر الشعراء والكتّاب وأساتذة النقد والأدب، ومنهم: صلاح عبدالصبور، عز الدين إسماعيل، عبدالقادر القط، عبدالرحمن فهمي، أحمد زكي وغيرهم. وما كان يدور في تلك الجلسة الفريدة من أحاديث الشعر والنقد والفكر، والموسيقى، والفن التشكيلي، وعن أحدث الإصدارات العربية والعالمية. وأظن أن المقهى الذي يرتاده الكاتب مكاوي سعيد لا يبعد كثيراً عن منزل الأديب الراحل فاروق خورشيد، الذي انطوى برحيله جيل كانت له مساهماته الباقية في الحياة الأدبية، ليس في مصر وحدها، وإنما في الوطن العربي بأكمله، لا سيما من خلال نشاط ذلك الجيل العظيم في الجمعية المصرية التي كان يرأسها في البداية الشيخ أمين الخولي، وكان يديرها في معظم الحالات فاروق خورشيد. سبقت الإشارة إلى أن مكاوي سعيد رسام ماهر بالكلمة، يستعيد في ذاكرته صور شخصياته، وينقلها على الورق في اقتدار أبرع الرسامين. ومن بين أطرف موضوعات الكتاب وأظرفها حديثه عن أديب شاب كان قد ملأ دنيا القاهرة صخباً وضجيجاً، وأصبح الشغل الشاغل للمثقفين من خلال ما ينشره عن نفسه من إعلانات مثيرة للسخرية والضحك، والباعث في الوقت ذاته على استفزاز كل من له علاقة بالكتابة، يقول مدخل الصورة، التي التقطها مكاوي عن ذلك الكاتب الظاهرة: «في نهاية السبعينات حتى منتصف الثمانينات ملأ مصر صخباً وضجيجاً، وأصبح الشغل الشاغل للمثقفين ومنظّري ومحترفي السياسة وحتى رجل الشارع العادي... في منحدرات المترو وحوائط الخرابات وعلى الجدران بطول شوارع وحواري وأزقة القاهرة وامتدادها لوّن المساحات البيضاء «باسبراي» أحمر داكن «أديب الشباب فلان الفلاني... يُحظر على بنات المعادي ومصر الجديدة قراءة مؤلفاتي... من يريد أن يعرفني يكفي أن أقول له إن عيني عسليتان... وأقسم لأجعلنّ أدباء مصر يمتهنون عملاً آخر!». ص 31 إضافة إلى ما كان ينشره ذلك الأديب الظاهرة من ادعائه وجود شبه بينه والزعيم الراحل عبدالناصر! إلى آخر اللقطات الفنية البديعة التي امتلأ بها كتاب مكاوي سعيد بما حفل به من صور كتابية عن عدد كبير من المهمشين والمقموعين الذين لم يساعدهم حظهم ولا ظروفهم لتحقيق أحلامهم الكبيرة.