لم تتردد الصحافة العراقية في اعتبار التظاهرات التي عمت المعمورة "انتصاراً لنهج القائد في الدفاع عن العراق وكرامته". وهي جزئياً على حق. فالخدمة التي أسدتها الجماهير، مسلحة بموقف شيراك وزميله شرودر، للرئيس العراقي، لا تقدر بثمن، ولا يخفف من وطأتها على الأميركيين استدراك ساكن الأليزيه متمنياً اختفاء صدام. وهذه مسألة، بعضها يخص علاقة العالم بمبدأ الحرب، وبعضها يخص علاقة فرنسا بأميركا، سواء انطلقت من حنين الى مجد ضائع، أو من مصلحة قوامها عقود سخية لشركات نفط فرنسية، أو من خوف ازاء أحادية ادارة تحوّل حلف الأطلسي أداة في استراتيجية صقورها، أو من نزعة فرنسية طورت مشاعر عداء لأميركا منذ أكثر من قرنين. بيد ان ما اعتبره العرب عموماً مكسباً حققته فرنسا، يصبح خدعة كبرى حين تنتهي سَكْرَة الانتقام العالمثالثي والعربي من "قائد العولمة المتوحشة" ليأتي وقت التأمل في انعكاسات ما فعله الفرنسيون والألمان على قضية فلسطين التي لا يختلف المتظاهرون في الشوارع العربية والمجتمعون المتناكفون في شرم الشيخ على أنها جوهر الصراع في المنطقة. أبسط القول هو لو أن الجهد الذي بذله الفرنسيون والألمان ل"صفع" أميركا وفرملة اندفاعتها العسكرية، بذلوا ربعه لردع شارون، لكان وضع الفلسطينيين أفضل بكثير ولما تحقق حلم المتطرفين في تدمير أوسلو ودفع الفلسطينيين الى خيارات الانتحار. لكن "أوروبا القديمة" التي تقف بصلابة مهدِّدة بفرط حلف الأطلسي وبانشقاق في الاتحاد الأوروبي، لم تَرَ موجباً للوقوف في وجه دعم الإدارة الأميركية لشارون حين استغل أحداث 11 أيلول سبتمبر لوصم الانتفاضة بالارهاب، وحين اقترف مجزرة جنين أو حاصر كنيسة المهد، أو وضع عرفات على مرمى رصاصة تحت سمع العالم وبصره. بديهي ان تتحرك الدول، وبينها فرنسا، وفقاً لمصالحها الذاتية. ومعروف ان شعبية الرئيس الفرنسي قفزت بسبب موقفه من حرب العراق من 53 الى 65 في المئة. لكن التوهم بأن شيراك "مبدئي"، مسألة مردودة على مطلقيها حتى لو كانت جريدة "لوموند". فلا تاريخه السياسي المشوب بالانتهازية يشجع على هذا الاعتقاد ولا الفضائح المؤجلة تستطيع تعزيزه. أما خشية وزير خارجيته وممثله في الأممالمتحدة من أن تسعِّر حرب العراق أوار الارهاب أو أن تحوّل النزاع مع النظام العراقي الى نزاع بين الغرب وبين العرب والمسلمين، فهي أيضاً عملية تزوير للوقائع، ذلك أن طبيعة نظام بغداد لا تخفى على أحد، وهي مثل حروبه تشهد على أن رحيله حلم شعبه قبل أن يكون مطلب المجتمع الدولي. ولن يكون الوزير والسفير على حق، إلا إذا أخذا في الاعتبار رسائل بن لادن الأخيرة الداعية الى الدفاع عن العراق والمتحدثة عن حرب صليبية، قال انه كشف حقيقتها بعد "غزوتي" نيويورك وبعدما نزع جلد الشاة عن جسد الذئب. مهما كانت الأسباب الفرنسية والألمانية لمعارضة واشنطن في شأن العراق، فإن من نتائج هذا الموقف حتماً تهميش دور أوروبا المطلوب فلسطينياً وعربياً. فنجاح الأميركيين في حرب من دون فرنسا سيخرجها من معادلة الشرق الأوسط كلها، خصوصاً إذا تذكرنا ان مساهمتها في تحرير الكويت بعد محاولات ميتران حل الأزمة سلمياً لم تعطها رخصة للمشاركة في مؤتمر مدريد. فكيف إذا حصلت حرب تلوِّح باستخدام الفيتو لمنعها؟ وحتى لو افترضنا نجاح فرنسا في تقليم أظفار الأميركيين في العراق، فإن التعارض الأوروبي - الأميركي الذي توصله باريس حالياً الى خطر الطلاق هو كارثة للعرب في ظل تحالف صقور واشنطن مع صقور اسرائيل واختلال موازين القوى، وسيحول دون لعب فرنسا وأوروبا دوراً متوازناً في حل القضية الفلسطينية، الأمر الذي سيشكل صدمة للمراهنين على هذا الدور، وخيبة حين يكتشفون ان قضية فلسطين ليست هاجس شيراك ولا المانيا، إذ حين يتعلق الأمر بإسرائيل تصير "المبدئية" الشيراكية قابلة لألف تفسير. أما "مبدئية" شرودر ووزيره يوشكا فيشر فلن تكون حينذاك في الحسبان، بل ربما تحولت الى امتداح "ديموقراطية" الدولة العبرية. ولا يستغرب إلا المتوهمون أن شيراك وشرودر يجدان تناقضاً بين دعم ديكتاتور العراق بحجة معارضة مبدأ الحرب، وبين دعم اسرائيل بحجة تأييد "الديموقراطية". أما عرب شرم الشيخ الفاشلون في الاتفاق على موعد القمة فليس أمامهم سوى تعليق عجزهم على مشجب ازدواج المعايير وانتظار ما تخبئه الأقدار.