في علاقة بين بلدين أو قوميتين تسير الأمور عادة كما بين زوجين: هناك مراحل مودة قوية وهناك فترات برود في جميع المستويات. وفي الحالات القصوى من الفتور يصل الأمر إلى حرب "زهور" نظامية بين الاثنين، ويبدأ كل طرف بجرد الحساب مع الطرف الآخر وبطرق مختلفة، مرة بجرحه، مرة بإذلاله، وكلما تعكرت حياة أحدهما، كلما شعر الآخر بانتصاره، لأن كل واحد يشعر بأن الآخر يفهمه في شكل خاطئ، يتعرض للابتزاز، وبأنه يُحشر في الزاوية. حينها تأتي اللحظة التي يكف فيها الزوجان عن الكلام، وفي هذه الحال يقوم محاميا الطرفين بتمثيلهما "كلامياً". المحامون في المعارك "الزوجية" التي تحدث بين البلدان أو القوميات المتحابة مع بعض، يحملون اسماً آخر: أنهم الديبلوماسيون، وهم يواظبون على إدارة بقية علاقات التعامل المخربة. في بعض الأحيان ليس هناك مفر من وجوب استمرار إبقاء الاتحاد بين دولتين: فمثلما تستمر الكثير من الزيجات "المخربة" لأسباب لها علاقة برجحان المنطق أو العقل، فإن دولاً "متحابة" تحافظ على دوام علاقتها للأسباب ذاتها. وعلى رغم صعوبة الوضع في هذه الحال، إلا أنه يقع على عاتق الديبلوماسيين أن يفعلوا كل ما في وسعهم لكي تظل العلاقة بين البلدين على قيد الحياة" هذا هو عملهم. الزيجات هذه، المعتمدة فقط على حكمة العقل هي في الحقيقة وهم مرعب، وفي غالبية الأحيان هي زيجات غير شريفة حتى العظم. غيرهارد شرودر وجورج بوش يجسدان هذا النمط من الزواج، الزواج الذي لا يربطه الآن غير رابط العقل والمنطق الخالص. والديبلوماسيون الذين يمثلون البلدين هم الذين تسلموا منذ فترة طويلة مهمة تنفيذ إجراءات الفراق بين الرئيسين، والذين يفعلون كل ما في وسعهم لكي لا يوقع الطرفان وثيقة الطلاق، لأنه غير مسموح لهذا الزواج بالموت ولا يستطيع الموت، على رغم أن الطرفين الفاعلين في أزمة العلاقة هذه، ليس لديهما ما يقولانه، وأنهما مطلقان من الناحية العملية. ذلك الوضع بالضبط، يعيشه بوش وشرودر: أنهما زوجان مطلقان. ولكن، بما أن لكل طلاق أسبابه، فما هي الأسباب التي ساعدت لكي يصل الأمر إلى هذا المستوى؟ في الحقيقة لدى الاثنين الإحساس بأن كل واحد منهما يملك الحق بتفسيره لما آل إليه الوضع. لنفحص حجج الاثنين. ولنسمع حجة الزوج الألماني، شرودر أولاً. شرودر يقول: بوش يريد حرباً غير مبررة وخطرة. أنه يريد دعم الحلفاء، من دون أن يكون استمع إلى رأيهم قبل ذلك. أنه يريد ولاءً أعمى لمغامرة لا أحد يعرف نتائجها، وأنه يفعل ذلك لأنه فقط بهذه الصورة يستعرض قوته ويفرض على الآخرين الولاء، يستطيع أن يكسب ولاء شعبه ذاته من دون سؤال أو جواب، وبلا محاسبة. وضد هذا السلوك، على المرء أن يملك إمكان رفع صوته المضاد. أما حجة الزوج الأميركي، بوش، فتقول: شرودر أراد الفوز في الانتخابات. لذلك أثار ضمن حسابات دوغماتية شعائرية المشاعر ضد أميركا وسمح بشتمه ونعته بهتلر جديد الجملة قالتها وزير القانون السابقة التي كان عليها أن تستقيل بعد هذا التصريح. أنه لم يفعل ذلك بسبب حاجة اضطرارية خارجية، إنما فعل ذلك بضغط يأس سياسي بخسارة الانتخابات، بسبب حبه للسلطة. ربما لم يكن شرودر اليوم مستشاراً لو لم يمنح الشعور بأنه الصورة المضادة لبوش. من الناحية الشكلية، بالنسبة الينا، نحن المشاهدين، الذين نراقب مشهد صراع الزوجين، نعرف أن الإحساسين صحيحان، لكننا نعرف أيضاً وخصوصاً في حالنا بحكم كوننا مواطنين في ألمانيا ونعرف الوضع "المزري" الكئيب "اليائس" في البلد الآخر، العراق، البلد الذي تختلف البلدان في العالم حول الطريقة المثلى للتعامل معه. نقول أن الحجج التي في حوزة "الزوج" شرودر هي الأضعف. ودليلنا هو أن شرودر الذي كان يركز في فترة الانتخابات في تصريحاته، بأنه يترك الأمر لقرار يصدر من الأممالمتحدة، راح هذه الأيام يذهب بتصريحاته "الدوغماتية" بعيداً ويكشف عن حساباته الخاصة فقط، عندما يعلن فجأة عن رفضه أي مشاركة ألمانية في أي سيناريو للعراق حتى عندما تطرح الأممالمتحدة قراراً يسمح بهذا التوجه ضد صدام حسين. بهذا القرار وسع شرودر التوجه المضاد لبوش ليثبت بذلك تحولاً تاريخياً دراماتيكياً في السياسة الخارجية الألمانية، والذي يعني: توديع سياسة الاستناد على قرارات الأسرة "الدولية" الجماعية، توديع التعاون مع المنظمات الدولية، إعطاء الظهر للأمم المتحدة، ورفع شعار "يعيش الطريق الألماني الخاص" في النهاية، بكلمة أخرى يعني كل ذلك بمنطق الزوج شرودر: فلتعش العزلة! انها لمفارقة بالفعل، والتحول الخطر هذا للسياسة الخارجية الألمانية لم يلق النقد "الكافي" في ألمانيا حتى الآن. وربما هناك تفسير بسيط لذلك: ليس هناك أحد يأخذ هذا التوجه على محمل الجد الحكومة الجديدة المنتخبة حديثاً. ففي وثيقة تحالف الحزبين الحاكمين الاشتراكي الديموقراطي والخضر نجد تثميناً للطريق القديم "الجديد" الألماني في السياسة الخارجية، كأنه لم تكن هناك انتخابات، إذ يتم التركيز على "التحالفات العالمية والعلاقات الخاصة مع دول حلف الأطلسي، وعلى أهمية نظام الأممالمتحدة، الذي يعتمد حجره الأساسي على حق الشعوب، والدور الذي تلعبه المنظمة الدولية في السياسة العالمية". بكلمة أخرى، اتفاق الائتلاف الحمر الخضر يمنح الانطباع أن ما حدث في فترة الانتخابات المقصود بحملة التعبئة ضد سياسة أميركا نحو العراق خاص بتلك المرحلة فقط، وأن ليس هناك في الحقيقة ما يستدعي غضب "الزوج" بوش، لأن ما يعتقد بأنه يغضبه كان موظفاً من الناحية العملية لخدمة صناعة الغالبية، "من أجل تحريك أصحاب المواقف الأخلاقية فقط". من ينكر دور الأخلاق في قرار يتعلق بالحرب والسلام؟ لكن تأثير السياسة الخارجية لبلد ما ليس فقط من خلال تفوقه الأخلاقي، إنما أيضاً عبر وزنه "القتالي" الفعلي، الذي يسمح من ضمن أشياء أخرى بإضافة أهمية اقتصادية جيوسياسية وعسكرية، ويقود في النتيجة إلى تقوية بدائل سياسية حقيقية. وضمن هذا المنطق فقد بالغت الحكومة الألمانية في تأثيرها، عندما انتقلت إلى مواجهة مباشرة مع بوش. أنها لا تستطيع إلا أن تخسر في هذا النزاع. النتيجة: ألمانيا في خلافها مع الحكومة الأميركية أضعفت من تأثيرها في تحديد مسارات التوجهات العامة الخاصة بالعراق، بدل أن تقويها كما تعتقد، إذ كان مقدراً أن تلعب دوراً حاسماً، خصوصاً أنها سبق أن عاشت ظروفاً مباشرة، ولولا تدخل قوات الحلفاء لما سقط هتلر، خصوصاً ان أميركا مصرة على الحرب، وان كلفها ذلك الذهاب لوحدها. عكس ما عليه الأمر لدى حكومة شيراك، التي من طريق تكتيك ذكي استطاعت التدخل في تحديد ديناميكية حركة الحرب الأميركية باتجاه العراق وآفاقها. وبتوجهها الحالي عزلت ألمانيا نفسها في أوروبا. إذ ليس هناك لا في ألمانيا ولا في أوروبا حتى الآن سياسة أوروبية موحدة بديلة للسياسة الأميركية. وشردور بتصريحاته "الدوغماتية" مثله مثل الذي يطلق في السياسة الداخلية وحشاً يمكن أن يقطع شرودر ذاته إرباً إرباً ذات يوم! الوحش المربوط حتى الآن يصغي فقط إلى صوت "الغوغاء" وهو خطر في ألمانيا تفوق التصور. حتى الآن دافع رؤساء الحكومات الألمانية السابقة عن السياسة الخارجية أمام الغوغائيين. لكن شرودر كسر هذه القاعدة واستخدم الشعارات "الغوغائية" بوعي لمصلحته وحده: النصر ممكن لفترة قصيرة فقط، ولكن، ماذا عندما سيتم التصويت في البرلمان الألماني في المرحلة المقبلة لتمديد إرسال قوات عسكرية ألمانية جديدة مثلاً ضمن قرار الأممالمتحدة لعراق ما بعد صدام حسين، وقسم كبير من أنصار شرودر يرفض التصويت معه؟ ألا تكون تلك نهاية لحكومة شرودر؟ هل سيفعل ما فعله عندما تم التصويت لإرسال قوات عسكرية ألمانية ضمن وحدات الأممالمتحدة إلى البوسنة والهرسك، عندما ارتفعت الأصوات المضادة، على عكس شرودر الذي كان مع القرار، الأمر الذي حمله على ربط التصويت مع إرسال القوات، بالتصويت على الثقة بحكومته؟ في ذلك الوقت ربح شرودر. ولكن ماذا سيحدث الآن؟ القنبلة الموقوتة التي وضعها شرودر بنفسه يُسمع صوتها: تك... تاك... إذاً وتحت مقاعد البرلمانيين من فريق الحزبين الحاكمين. هذا الميل للدوغماتية يلقي بظلاله على بوش أيضاً. أيضاً بوش قاد انتخابات برلمانية وفي النهاية جاءت النتيجة لمصلحته. بوش يُسَّهِل الأمور في حربه ضد الإرهاب، ولا يريد أن يعرف شيئاً عن الوضع الاقتصادي الأميركي المتردي. هل النجاح في الانتخابات يبرر كل الوسائل؟ بوش وشرودر لديهما الكثير مما يقولانه في هذا المجال. الاثنان يصغيان لصوت جيناتهما الداخلية. والاثنان يغرقان في الإيديولوجيا حتى الأذنين، ربما بوش أكثر من شرودر. على أي حال يأتي الاثنان من معسكرين مختلفين. والمفارقة الكبرى، أن الزوج الأميركي يساعد في بث الحياة للغوغائية الألمانية الموجهة ضده وضد أميركا، كلما تمادى في جفائه. خصوصاً أن "الزوج" شرودر لا يفعل ما يساعد على وقف التصعيد ضد أميركا. صحيح أن رحلة يقوم بها وزير الخارجية فيشر، وأخرى يقوم بها وزير الدفاع الألماني شتروك، تساعد في التطويل من الزواج "المحطم"، إلا أن العلاقة بين رئيسي الحكومتين، الزوجين، ستظل مشوشة لوقت طويل، خصوصاً أن كل زوج يصر على تفسيره لأزمة العلاقة الزوجية، وعلى طريقته استقلالية حياته الجديدة، بعد الخلاف. ولكن لا أحد يتمنى في ألمانيا طلاق الزوجين، وإذا كان هناك عزاء للعراقيين على الأقل: فأن ألمانيا، قوة حليفة مع أميركا معهما فرنسا وبريطانيا هو ضمانة فعلية لطرح موديل ملائم للحال العراقية في المستقبل، إن لم يكن على خطى الموديل الألماني الذي نهض بعد إسقاط حكومة هتلر، فعلى الأقل على خطى موديل شبيه به، يستفيد منه! * كاتب عراقي مقيم في ألمانيا.