"أبناء القهر" واحد من المسلسلات السورية التي نالت أكبر قدر من إقبال الجمهور خلال الفترة الماضية. إذ عاش معه الناس، وتتبعوا وقائعه وتفاصيله وشدهم القلق على أبطاله ومصائرهم حلقة بعد حلقة. "أبناء القهر" دراما اجتماعية موضوعها التأثيرات العنيفة للعلاقات العائلية المدمرة في الأبناء الذين يجدون أنفسهم فجأة ضائعين، لا يعرفون طريقهم الى الحياة السليمة والمستقبل الصحيح. انها عودة جديدة لكاتب ابتعد سنوات طويلة عن الدراما الاجتماعية وانشغل بأعمال الفانتازيا التاريخية، وها نحن نستعيده في صورة جميلة وناجحة في هذه الدراما المعاصرة، الاجتماعية بل الجارحة، والتي تشبه ناقوس خطر يقرع لتنبيه الكثيرين منا قبل فوات الأوان. إضاءة واقعية كل المآسي والوقائع العنيفة تبدأ من انهيار العائلة وطلاق الزوجين، ليجد إبناهما الشاب والفتاة نفسيهما ضائعين في حياة تخرّبها رفقة السوء التي تنجح في جر الفتى الضائع الى عالم الانحراف والجريمة، فيتحول الى لص يسطو على البيوت والمحال التجارية. في موازاة مأساة هذه العائلة خط آخر نتابع خلاله حكاية صديقين موسرين ينغمسان في حياة اللهو والمجون فينتهي الأمر الى إصابة أحدهما بمرض الإيدز الذي يودي بحياته، فيما يرتدع الآخر، ويعود الى سبيل الرشد، وينفتح خط درامي ثالث على حكاية الرجل الذي تقدم به العمر ولم يتزوج على رغم ثرائه الشديد، والذي يجسّد في المسلسل معنى رمزياً يشير الى الحب والصفاء، والذي يقوم على الزواج من أرملة، هي خادمته ومدبرة بيته في حفلة زواج جماعية تجمعه مع إبن أخيه الذي عاد الى الرشد متعظاً بمرض صديقه وكذلك مع إبن صديقه الذي يعمل عنده، والذي يجسد في المسلسل الشاب المكافح والمستقيم. في "أبناء القهر"، المسلسل الدرامي الأول لمخرجه مروان بركات إضاءة واقعية على حياة نماذج متعددة من البشر الذين يحملون أفكاراً مختلفة، ويعيشون ظروفاً اجتماعية متباينة والذين تضعهم ظروفهم أمام مصاعب وأهوال ينجحون حيناً في مواجهتها، ويعجزون أحياناً كثيرة، في ما يظل القول الفصل في رسم المصير والمستقبل، للخيارات التي حددها لنفسه كل واحد منهم. وتلعب الصداقة والرفقة، السيئة أو الحسنة، دوراً كبيراً في تحديد مصير هذه الشخصية أو تلك في طريق الخير أو الشر. وجاءت نهاية المسلسل الفجائعية بمثابة إنذار صارخ الدلالات على ذلك حين ذهب الجشع والانحراف بالأشقياء الثلاثة حدّ اقتتال اثنين منهما اقتتالاً دموياً ينتهي بموتهما معاً، ليسقط الثالث عند رؤيتهما مشلولاً عاجزاً، في إشارة واقعية ورمزية الى مصير الشر والانحراف، فيما تعلن حفلة الزواج الجماعية بدورها إشارتها الى صحة اختيار الخير وآفاقه المفتوحة على الحياة. أهم ما حمله "أبناء القهر" وتميز به، تلك الدرجة العالية من التشويق والإثارة، التي باتت مفقودة - الى حد ما - في الكثير من الأعمال الدرامية التلفزيونية. فمع كل حلقة من حلقات المسلسل وجد المشاهد نفسه متفاعلاً مع أحداثه، يترقب الآتي، ويناقش مصائر الأبطال وتوقعاته للأحداث، خصوصاً وقد نجح الكاتب السعدي في تقديم تسلسل مقنع للأحداث، لا يقوم على المبالغة والافتعال، بل يتطور تبعاً لروح موضوعية، جعلت المسلسل الاجتماعي ينبض بحياة حقيقية نجد مثيلاً لها في كثير من القصص الإنسانية الواقعية التي تملأ ساحات القضاء. وفي "أبناء القهر"، ثمة إخراج تلفزيوني بسيط ومعبّر، لم يعتمد الإبهار الشكلي الخارجي، بل عمد الى إضاءة أحداثه في يسر وسهولة، فقدم مشاهد تلفزيونية حيوية ومفعمة بالحياة والتعبيرية الصادقة، يضاف الى ذلك أداء مجموعة مهمة من نجوم الدراما التلفزيونية السورية، خصوصاً بسام كوسا الذي تألق كعادته في دور الأب الذي ينفصل عن زوجته والذي تنطلق من أخطائه معظم مآسي الأبطال، وكذلك النجوم الآخرين سليم صبري، سلمى المصري، فاديا خطاب، علي كريم، مانيا نبواني، رياض نحاس، وإن كنا نشير بالخصوص الى الأداء المتميز للممثلين الشباب الذين قدموا أدوارهم باقتدار كبير. باسل خياط، ميلاد يوسف، طارق مرعشلي، نضال سيجري، قصي خولي وغيرهم. "أبناء القهر" دراما اجتماعية - واقعية تعيدنا من جديد الى أهمية الانتباه الى ما في الواقع الحقيقي من هموم وقضايا تستحق أن ينبئه إليها الكتاب والمخرجون، بصفتها النبع الأساس الذي يطفح بالقصص والحكايات الجديرة بالمشاهدة على الشاشة الصغيرة. وكان العمل فرصة لاستعادة هاني السعدي من جديد الى ميدان نعتقد أنه الأجدر بالاهتمام.