عادت العافية إلى سوق الذهب في منطقة الكاظمية في بغداد وساهم الارتفاع النسبي للقدرة الشرائية لفئات عدة من السكان في زيادة الطلب على المصوغات الذهبية والحلي والمجوهرات. ويعود حب البغدادية للذهب إلى فترات قديمة جداً تعود إلى نشوء الحياة الحضرية في وادي الرافدين. والذين تسنى لهم أن يتجولوا بين خزائن المتحف العراقي يلفت انتباههم منظر القطع الذهبية والبرونزية من أساور وقلائد وأقراط تعود إلى العصور السومرية والبابلية والآشورية. وكان العرب يطلقون على المرأة التي تتزين بالذهب لفظ "إمرأة حال" تعبيراً عن إعجابهم وإكبارهم لدورها في الحياة الاجتماعية. وتقول كتب التاريخ إن ما صرفه الخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد من الحلي والجواهر على زواجه من بوران بنت الحسن كان طائلاً للغاية، إذ فرش لعروسه حصيراً من الذهب. وكان لنساء العصر العباسي رصيد هائل من الحلي والمجوهرات، لا سيما نساء وأمهات الخلفاء والأمراء وقادة الجند8 فكان للسيدة شجاع أم المتوكل من الذهب والجواهر ما يعادل مليون دينار ذهبي. ومذ بناها أبو جعفر المنصور، إشتهرت بغداد بأنها سوق رائجة للذهب والمجوهرات8 فكانت هناك أسواق خاصة لذلك مثل سوق الصاغة التي استمرت إلى يومنا هذا. واحتفظت المدينة بأسواقها التقليدية على رغم ما مرت به من فترات عصيبة. وإذا كانت البغداديات يحتفين بزينتهن من أساور وقلائد وخلاخيل متنوعة الأشكال والنقوش المستوحاة من الهوية الحضارية للمدينة، فقد اقتصرت الأوقات التي تحمل فيها المرأة كامل حليها على المناسبات والحفلات والأفراح بعدما تطورت أساليب الحياة وانهمكت المرأة بالعمل إلى جانب الرجل. وتردد النسوة دائماً وفي مناسبات مختلفة: "الذهب زينة وخزينة". وهو خزينة فعلاً، فمنذ حرب الخليج الثانية تغير في معالم المدينة الشيء الكثير، وأصبحت محلات الصاغة في الكاظمية وشارع النهر ومناطق أخرى من بغداد، لا تبيع الذهب بقدر ما تشتريه بعدما ضاقت سبل المعيشة، ولم يكن أمام البغداديات إلا الاستعانة بالإكسسوارات والحلي الكاذبة وبيع ما بحوزتهن من مصوغات ذهبية لسد العوز المادي من جراء الحرب والحصار الاقتصادي. وقال أركان السعدي 30 سنة، صاحب محل صياغة في الكاظمية، ل"الحياة" إنه منذ بداية الحصار توقف الناس عن شراء الذهب واقتصر الأمر على خواتم الخطوبة وبعض الأشياء البسيطة، باستثناء عائلات رجال الأعمال وتجار الحصار، لكنهم كانوا محدودين. وأضاف: "أصبح تردد الناس على محلات الصياغة لا لغرض شراء الذهب بل لبيع ما في حوزتهم منه ثم يبيعه الصاغة بدورهم الى صاغة آخرين". أما علي أسعد 45 سنة، وهو صائغ في شارع النهر، فيرى أن مهنة الصياغة في ظل أوضاع ما بعد صدام حسين بدأت تستعيد عافيتها وأن الإقبال على شراء المصوغات الذهبية بات أكثر من أي وقت سابق، نظراً إلى تحسن أحوال الموظفات وتضاعف رواتبهن، وبالتالي فإن إقبالهن على إقتناء الذهب ازداد. وأضاف: "في الفترة الماضية كانت للحلي الكاذبة سوقاً رائجة، لأنها ربما تعوض المرأة عن تعلقها بالذهب لكن الأمر الآن تغير تماماً". وعند تجول "الحياة" في سوق الصاغة في الكاظمية في شارع الشريف الرضي وشارع باب المراد، وفي شارع النهر المحاذي لنهر دجلة قرب المدرسة المستنصرية، وجدت أن بعض المحلات يعرض في واجهاته ما يقدر بنحو 35 إلى 40 كيلوغراماً من الأساور والقلائد والخواتم والأقراط المتنوعة الأشكال والأحجام، لاجتذاب الزبائن على رغم تدهور الأوضاع الأمنية. وذكر حيدر ابو عيون، وهو أحد مرتادي سوق الذهب في الكاظمية، أن بعض الصاغة اعتمد حراساً لحماية ممتلكاته من السرقة وأن محاولتين لسرقة الذهب من واجهة أحد المحلات أحبطت قبل أسبوع في السوق، مشيراً إلى أن عمليات السطو المسلح على محلات الصاغة في بغداد ليست بالشيء الجديد. وقال ميثم العاملي، صاحب أحد محلات الصياغة في بغداد، أنه على رغم التغيير في أسعار الذهب إلا ان الإقبال على الشراء كان كبيراً، مشيراً إلى أن الذهب لا يزال في عرف العراقيين أفضل وسيلة للإدخار لأن العملات الأجنبية غير مستقرة القيمة في العراق، والعملة العراقية لا تزال تبحث عن عافيتها المفقودة لتصبح وسيلة إدخار مضمونة. وقدر ميثم سعر مثقال الذهب خمسة غرامات عيار 21 قيراطاً قبل الحرب بأنه كان يراوح بين 80 إلى 85 ألف دينار عراقي، لكنه لفت الى انه ارتفع الآن إلى بين 110 و115 ألف دينار هذه الأيام، نظراً الى زيادة الطلب عليه وتعدد الزبائن. وعلى رغم توقف الرقابة النوعية وتعثر عمليات ختم الذهب بسبب الظرف الامني، إلا أن الأمر لم يعرقل عملية الطلب الكبير على المصوغات الذهبية. وقالتر بثينة الطائي 28 سنة إن سمعة المحل وإسم الصائغ المعروف والموثوق به كافيان لجعل الزبائن مطمئنين إلى أن الذهب غير مزيف، مشيرة إلى أن "الثقة رأس المال الحقيقي للتاجر".