للمكتبة رائحة يحفظها أنفي ويستذكرها بين مكان وآخر: خليط من رائحة الكتب ورائحة الغبار ورائحة الخشب ورائحة "مس" عويدات، أمينة المكتبة، بنظارتها الصغيرة وهندامها الدائم. لا أدري لماذا أحببت مس عويدات منذ رأيتها أول مرة، حينها كنت في الصف الثاني الابتدائي، وكانت هي كما اليوم، ربما في منتصف الخمسين من عمرها. قليلة الكلام. تحتفظ بمسحة حزن على وجهها، وكأنها ودعت للتو فكرة أبكتها سراً. تبقى ملتصقة مقعدها تنظم بطاقات الكتب، مثلما تنتشر في كل زاوية من زوايا المكتبة، وأمام كل رف. قليل عدد البنات اللاتي يأتين إلى المكتبة أثناء الفرصة، وأقل منهن عدد الأولاد. أدخل بهدوء محاولة أن أبلع صوت خطواتي. تتلاقى نظراتنا، أحيّها من بين شفتيَّ، فتومئ برأسها مرحبة. أقطع المسافة قاصدة الطاولة التي أحب الجلوس عليها في الزاوية المختبئة. "بابا الحبيب، كما في مرات كثيرة، أكتب لك رسالتي وأنا في المكتبة... بداية: مساء الخير، فأنا لا أدري متى ستعود الليلة مساءً لتقرأ رسالتي. فعادة أنام من دون أن أراك، وإن رأيتك فأنت، في الغالب، مشغول بأعمالك وزيارات أصدقائك ونقاشاتك التي لا تنتهي مع أمي. قبل قليل خرجت ماما من المدرسة. يوم أمس نادت عليَّ مدرسة اللغة الإنكليزية الجديدة، قالت لي: "لماذا تكتبين كثيراً في مواضيع التعبير؟". ما عرفت بماذا أردُّ عليها. دارت عيناها السمكيتان تمسحان وجهي، خبّأت نظراتي عنها، عادت تحثّني: "تكلمي". انتظرت مني إجابة، لكن رأسي ظلت فارغة. بقيت واقفة خلف صمتي، فأنّبني صوتها: "هذه ليست المرة الأولى، قبل ذلك حذرتك: لا تكتبي أكثر من ثلاث صفحات". حين وقفت أمام مدرِّسة الرياضة، بعد أن أخذت قياس أطوالنا، قالت لي: "أنت أطول البنات في الفصل". مسّني ما يشبه فرحاً، قرصني خجل مباغت في وجهي، أسرع طرف شفتي العليا يرفّ. ما فهمت عبارة المدرِّسة، هل كانت تمدحني أو تأنبني. بقيت ساكتة، فأضافت: "أنت تصلحين للعب الكرة الطائرة، أو كرة السلة". كنت واقفة، وكانت عينا مدرِّسة اللغة الإنكليزية شاخصتان نحوي. خفت، ما عرفت كيف أصارحها. عرض لي أقول لها: لدي من القول والأفكار والهواجس الكثير، لكنني ما تعلمت الكلام. بابا الحبيب سأصارحك، كلما دارت الكلمات على لساني، أسرع صوتك الذي أحفظ يخرسني، يصرخ بيّ: "سأقطع لسانك بالسكين". لا أدري إذا كنت تذكر يا أبي. يومها كنت أنا في السابعة... في تلك الليلة هددتني أنتَ وغضبك الذي لم أفهم: "سأقطع لسانك...". هربت من أمامك. أسرعت إلى غرفتي، أغلقت بابها بالمفتاح، دخلت فراشي، أغمضت عينيَّ، خبّأتهما براحة يديَّ. كنت خائفة أرتجف، وكانت شفتي العليا، والنوم كان خائفاً مثلي، ففرَّ مبتعداً، تركني وحدي. ليلتها بكيت كثيراً. تصورتك تأتي إليَّ في أي لحظة ممسكاً بسكين المطبخ الطويلة، تسحب لساني، تقطعه بجرة واحدة، وتصورت فمي يفيض بالدم الأحمر، وتصورت أمي تبقى على الحياد، كما هي في كل موقف، تردد عبارتها التي أكره: "لا دخل لي بينك وبين ابنتك". يوم أمس خاطبتني مدرِّسة اللغة الإنكليزية: "لتأتي أمك غداً". بابا الحبيب، كنت أتمنى لو أنها طلبت حضورك. كنت سأكتب لك رسالة مختصرة، أطلب منك المجيء. وكعادتي كنت سأتركها على مكتبك، وفي الصباح كنت سأجد ردك... ترد بقلمك الأحمر عريض الخط، وكعادتك كنت ستعتذر بسبب مشاغلك الكثيرة. بابا، أحب خط قلمك الأحمر العريض، وأحب الطريقة التي تكتب بها حرف الميم، وأحبك تكتب في نهاية الرسالة، مع حبي. لا أدري متى جاءت ماما إلى المدرسة. مدرِّسة اللغة الإنكليزية أرسلت تطلبني من الفصل. حين ذهبت لغرفتها رأيت ماما جالسة أمامها. دخلت ولم ألق التحية. ما قلت أي كلمة. نظرت إلى وجه أمي، قرأت عليه شيئاً كأنه الضيق. وجّهت المدرِّسة كلامها لي: "أنا أخبرت ماما بخصوص مواضيع التعبير". ظلت ماما ساكتة، وظلت نظرتها، وبقيت أنا واقفة مطبقة شفتيَّ، وكان هناك كرسي فارغ يقابل مجلس أمي، تمنيتها تأذن لي بالجلوس لكنها لم تفعل. منذ حادثة مدرِّسة الرياضة، صرت أختار أحذيتي دون كعب، أنا أطول بنات الفصل. "أنتِ طالبة متفوقة، لكن لا تطيلي كتابة مواضيع التعبير لهذا الحد". خاطبتني المدرِّسة، والتفتت نحو أمي قائلة: "ابنتك ساكتة معظم الوقت لا تتكلم، ربما تعوض ذلك بالكتابة". "ربما". وافقت أمي مؤكدة كلام المدرِّسة، ونظرت صوبي وكأنها تعاتبني. بابا الحبيب، بعد غد سيكون يوم عيد ميلادي. سأكمل السادسة عشرة. ولأنك طلبت مني أن أحدد نوع هديتي، أطلب ما أشاء، فأنا لا أريد شيئاً، فقط أودّ لو نخرج وحدنا، أنت وأنا. نذهب لمشاهدة أي فيلم في السينما، بعدها نتعشى في المطعم الذي أحب، ونعود إلى البيت مشياً على الأقدام، أتكلم معك أطول وقت ممكن، فهناك سر أتمنى لو أبوح لك عنه... بابا الحبيب، تصبح على خير". الكويت - 30 يونيو / حزيران - 2003