لبنى ونادين صديقتان مقربتان يفصل بينهما 27 عاماً. كما تربط بينهما صلة قرابة، فلبنى هي والدة نادين. العلاقة بينهما "غريبة" وإن كانت غرابة في إطار ايجابي. فطالما تحدث علماء التربية والاجتماع والنفس عن ضرورة نزول الأبوين، لا سيما الأم، الى عقلية الطفل، ليس بالكلام، ولكن بالأفعال، وهذا، تحديداً، ما يميز علاقة لبنى بإبنتها الوحيدة. الدكتورة لبنى عبد الغني اسماعيل 36 سنة مدرِّسة قسم اللغة الانكليزية في كلية الاداب جامعة القاهرة - شخصية مركبة وليست معقدة. تميل في تعاملها مع المحيطين بها الى التدقيق والتحليل، فالخروج بنتائج. وهذه العمليات تحدث في باطنها من دون أن يدري بها أحد، باستثناء المقربين جداً منها. أقاربها وأصدقاؤها يتعجبون من سلاسة علاقتها بإبنتها، والسبب يكمن في أنها لم تكن من الفتيات اللواتي يملن الى مداعبة الاطفال، وحملهن، وتدليلهن قبل أن تتزوج. بمعنى آخر، لم تكن مهتمة بهذا العالم الصغير الكبير المسمى ب "الطفولة". وحين سألتها "الحياة" عن المنهاج الذي تعامل به ابنتها، لم تأت الاجابة تقليدية، لكنها بدأت ردها بعرض جذور المنهاج وأسبابه: "دائماً أجري عملية ارتجاع "فلاش باك" لفترة طفولتي، وأسترجع العناصر التي كنت أتمنى أن تكون موجودة في علاقتي بأمي. فهي امرأة عاملة، وهو ما جعلني أفتقدها بشدة. صحيح أنها لم تقصر معي في التقنيات الدقيقة: "كلي هذا. خذي حماماً. لكن الحوار بيننا كان منتقصاً". وتستطرد متذكرة فتقول إن الحوار مع والدتها لم يصل الى الحجم المتوقع إلا بعد دخولها مرحلة الدراسة الإعدادية حين اصبحت لها مشاكل محددة، من نوعية، "هذه صديقة تتجاهلني، او تلك الزميلة تنتقد ملابسي". هذا الافتقاد للحوار دفعها الى بدء حوارها مع ابنتها في سن مبكرة، وتحديداً بعد بلوغها عامها الأول، نعم، عامها الاول، تقول: "بالتجربة اكتشفت أن الاتصال مع الطفل في هذا السن الصغيرة يعطي مردوداً كبيراً. فبدأت ونادين نعمل اشياء سوياً في اللعب". تقول لبنى اسماعيل إن أمتع اوقاتها تلك التي أمضتها في المنزل، وكانت تقسم وقتها بين وضع اللمسات الاخيرة في أطروحة الماجستير وقضاء وقت تفاعلي مع نادين. وحين بدأت نادين تنمو وتكبر، استمر هذا التفاعل ونما ليشمل مستويات عدة. تقول: "وضعت نصب عيني أن أخلق لديها منذ الصغر وعياً كاملاً بأنوثتها. فأؤكد لها طوال الوقت أنها لطيفة وظريفة، وعليها أن تحب وتفخر بالجانب الاجتماعي لكونها أنثى. كما أنني مهتمة جداً بتعليمها ان جسمها كأنثى ليس مصدر حرج أو عيب، بل عليها أن تكون فخورة به". وماذا عن الاسئلة الحرجة التي يطرحها الأطفال في هذا العمر. تقول اسماعيل على الفور: "قاموس حواري مع نادين خالٍ تماماً من كلمات مثل "اسكتي" أو "سأرد عليك لاحقاً" أو "ليس الآن"، ومهما كان السؤال صعباً أو محرجاً لا أتوانى في تقديم الاجابة الصحيحة لها تبعاً لسنها وقدرتها على الفهم والاستيعاب، سواء كان السؤال على وتيرة "من أين يأتي الاطفال؟" أو "أين يعيش الله؟". الجانب الآخر من علاقة نادين بوالدتها يكمن في محاولات الأم الدائمة والدؤوب لغرس أخلاقيات وميول مبادئية معينة، وهي من الأمور البالغة الصعوبة في ظل الانحدار الاخلاقي - على حد قولها - الذي يعانيه المجتمع حالياً. وتشير اسماعيل الى أن المسؤولية الواقعة على عاتقها تضاعفت بعدما فوجئت أن المدرسة لا تقوم بدور على صعيد تكوين الشخصية، فهي مهمة لا ينص عليها نظام التعليم في مصر. وتسأل "الحياة" ألا تخافين من أن أسلوبك مع نادين ربما ينضجها قبل الأوان؟" تقول: حضرنا سوياً قبل أيام ندوة عن "الديانة في الحضارة المصرية القديمة، واستمتعت بها نادين جداً، حتى إنها سألت المحاضر سؤالين بعد ما أنهى محاضرته، فاذا كان الطفل متقبلاً لما يتعرض له من خبرات، لماذا أمنعها منه، لا سيما أنه لا توجد بدائل في الإعلام أو المدرسة". وبعد كل ذلك. نسألها "هل أنت راضية عن علاقتك بإبنتك؟"، وتأتي الاجابة غير متوقعة: "مبدئياً نعم، وإن كنت اتمنى قضاء وقت اطول معها. فحين كنت متفرغة تماماً لها قبل أن أحصل على درجة الدكتوراه، كانت نادين في قمة حالاتها النفسية. من جهة أخرى، خبرتي معها أكدت لي أن الطفل امتداد لأبويه، فهو ليس مجرد حفظ نوع، لكنه عملية متكاملة لتشكيل بني آدم، وأمتع ما فيها المقاومة التي تتلقاها منه في هذا الاطار، فهي دليل ذكائه واستقلاليته". "البني آدم" الذي تعمل لبنى اسماعيل على تشكيله اسمه نادين أحمد التاودي 9 سنوات تقول عن علاقتها بوالدتها: "ماما قريبة مني جداً وهي تحس بشعوري، وتساعدني في حل مشاكلي". "وما مشاكلك يا نادين؟"، ترد: "مثلاً معلمة اللغة العربية في المدرسة دائماً مكشّرة، وتصيح فينا بعنف، بل إن نظرتها لي تجعل الشعور في قلبي ينكسر". وكيف عالجت ماما المشكلة؟ تقول: "ماما تحدثت الى المعلمة واشتكتها، وهي حالياً تتظاهر بأنها تبتسم، لكني أعلم أنها في قرارة نفسها لا تريد أن تبتسم". وكيف تمضين وقتك معها؟ نذهب الى النادي، ونمشي سوياً في المضمار، ونغني أحياناً أغاني مثل "رق الحبيب" لأم كلثوم، و"تعالي اقولك كلمة..." كما أننا ننظم مسابقات رسم سوياً، فنتفق على رسم نفرتيتي مثلاً، ثم نقارن بين الرسمين". ونسأل نادين التاودي، هل تفضلين قضاء وقت فراغك مع ماما أم مع أصدقائك؟ تقول: "أغلب اصدقائي لا يحبون القراءة والرسم، لكني اعشقهما، كما أنني أهوى كتابة القصص، فكتبت مثلاً "نونو يتحرك ويتكلم" و"الامير الصغير"و"الهندي" وماما تقرأ هذه القصص ونناقشها. ومتى تغضبين منها؟ تجيب: "احياناً تغضب هي مني لأني فعلت شيئاً خطأ، وبعد لحظات الغضب الاولى، أعلم أنها تغضب مني بسبب خوفها عليّ". وتسألها "الحياة" هل تودين ان تكوني مثل ماما حين تكبرين؟ فتقول: "نعم باستثناء شيء واحد، فماما احياناً تغضب من تصرفات الآخرين حين يقترفون أخطاء، لكنها تتظاهر بأنها لا تعلم، ودائماً أطالبها بأن تواجههم برأيها، وأنا أنوي أن أواجه المخطئين".