أذكر المشهدَ الآن غائماً كأنه حلم آخر، كنا مجتمعين حول التلفزيون في مرّة من المرات النادرة التي قضى فيها بابا المساء معنا، وفي أحد برامج المنوّعات قدموا استعراضاً راقصاً للأميركي جين كيلي، كان يرتدي بدلة بحّار ويغني ويرقص مع ممثلين آخرين بثياب البحّارة أيضاً وهم يتجولون في المدينة، ويرددون: «نيويورك، نيويورك»، لم أعد أعرف ما الذي سحرني في هذه الفقرة التي لم تستمر إلا دقائق، هل هو رقصهم وانطلاقهم معاً أم أجسادهم المتراقصة في خفّة ورشاقة داخل بدلهم البيضاء، وجدتني أقترب من أبي وأقول له من دون مقدمات: أنا عاوز بدلة زي دي ب «الظبط» في العيد. قبّلني من خدّي ووعدني بها. لم أنسَ وعده وراهنتُ نفسي أنه سينسى ورحتُ أرسم خططاً لمعاقبته إن لم يحضر لي هذه البدلة، لكنه فاجأني قبل العيد بيومين، حين دخل إلى البيت بها، وكانت من المرّات النادرة أيضاً التي يصنع بابا لي فيها شيئاً بيديه. لم يعد إلى البيت إلا بعد أن استكمل سهرة الوقفة حتى ما بعد صلاة العيد بقليل، عادَ رائق المزاج على الآخر، فأيقظني بنفسه وكنتُ لم أنم إلا ساعتين على أمل أن أظل ساهراً حتى الصبح، وانتظرني حتى أفيق وأغتسل لكي يلبسني بنفسه البدلة الجديدة، بعد أن ارتديتها رحتُ أرقص كما أتذكر جين كيلي والآخرين وأنا أردد، مثلهم: نيويورك، نيويورك. ثم دخل غرفته لينام بعد هذا السهر الطويل، احتجز ماما معه بعض الوقت قبل أن يفرج عنها، ولاحظتُ أن ستي سكينة تمصمص شفتيها وتغمغم بكلام غير مفهوم عند خروج ماما. نام طويلاً حتى ما بعد أذان الظهر بقليل، في أثنائها كنتُ قد نزلت الشارع وطلعت منه مئة مرّة، لكنه غافلنا جميعاً ولم يقم من نومته تلك أبداً. خدعني ببدلة بحّار سرعان ما اتسخّ بياضها من تراب الشارع وسافر إلى حيث لا أدري. سمعنا صراخ ماما يأتي من غرفة النوم، قبل أن تهرع نحو ستّي الجالسة إلى جانبي نشاهد مسرحية «إلاً خمسة»، وصرختْ فيها: أحمد ما بيردّش عليّا يا نينة. أحمد مات، ابنك مات. شعرتُ أنها تتهمها بشيءٍ ما، وكأن ستي هي من أخذت روح بابا، حمدتُ الله بسرعة أنني لم أحلم هذه المرة بأن بابا يطير من شباكي كما حدث مع جدي، وإلا اتهموني بقتله. أفلتتْ بالونة حمراء من بين أصابعي وراحت تُطلق هواءها بصوتٍ قبيح، وهي تتخبط هنا وهناك إلى أن فرغت تماماً وارتمت هامدة على السجادة، كانت جدتي ألقت بطبق الترمس من بين يديها، وفزّت واقفة بعودها الطويل النحيل، وأخذت تناديه: أحمد، يا أحمد، قوم يا حمادة الفتة جاهزة، قوم يا حمادة عشان تتغدا معانا. تجمّدت في مكاني مذعوراً وأنا أسمع صراخهما يتعالى، من دون أن أجرؤ على الذهاب خلفهما نحو غرفة أبي. بقيت أحدّق في شاشة التلفزيون، بينما ماري منيب ما زالت تسأل عادل خيري، بال «ضبط» كما كانت تفعل قبل دقائق: «انتي جاية تشتغلي إيه؟»، فيجيبها الإجابة ذاتها: «سوّاق يا ست هانم، سوّاق»، وكأنّ شيئاً لم يحدث. سيبقى وجه شمردل هانم المخيف في هذه المسرحية هو صورة الموت بالنسبة إلي، لسنوات في ما بعد، ولسنوات أطول ظلّت ماما ترفض الاحتفال بعيد الأضحى ولو بأهون درجة، كانت تصيح في وجه أي شخص يُهنئها بالعيد: محدش يقولّي كل سنة وأنت طيبة يا ناس، مش عاوزة حد يعيّد عليّا... دي ذكرى أحمد يا ناس، فاهمين؟ وحين رجعتْ تحتفل به مثل بقية الناس وتكاسلتْ عن رحلتنا صبح كل عيد إلى قبره، فهمتُ أنها نسيته وتحاول أن تجعلني أنا أيضاً أنساه. أنها وضعتْ ذكراه مع ثيابه في كرتونة في قعر الدولاب، تلك الثياب التي كانت تنتقي قطعاً منها لتضعها أمام الشيخ المقرئ الذي ترسل في طلبه في ذكراه السنوية ليقرأ رُبعين سريعين على روح أبي التي ما زالت عالقة في ثيابه هذه بطريقةٍ ما، وبمجرد أن يغادر البيت ينتهي طقس الحزن وتعود الى العيد، قد تلوّن شفتيها أو تسارع إلى فتح التلفزيون أو تقترح مكاناً نذهب معاً إليه. وكانت قد عادت الى التمثيل منذ فترة ونادراً ما تقضي وقتاً معي، أمّا أنا فكنتُ قد بدأت سيرتي مع الوحدة ومع الرجال. * من رواية تصدر قريباً