للمرة الاولى منذ سنين يلوح وميض من الأمل بأن السلام بين العرب والإسرائيليين قابل للتحقيق، وبأن العنف البغيض الذي يسود بينهم يمكن أن يوضع له حد. فما هي أسس هذا التفاؤل المحدود والأمل الضعيف؟ لعل أهم إشارة واعدة جاءت في موقف وزير الخارجية الأمريكي كولن باول الذي وافق على مقابلة اثنين من أهم واضعي مبادرة جنيف التي أطلقت يوم الاثنين الماضي وهما ياسر عبد ربه الفلسطيني ويوسي بيلين الإسرائيلي. ومن شأن هذا اللقاء الذي ينتظر أن يتم اليوم في واشنطن أن يعزز موقع أنصار السلام لدى الطرفين. وكولن باول يعرف جيداً بواطن الأمور في واشنطن ويمكنه أن يمارس اللعبة السياسية بمهارة وحزم. ولقد تحمل خلال السنتين الماضيتين بشيء من الذل رؤية السياسة الخارجية الأميركية تؤول إلى أيدي الصقور وبخاصة إلى خصمه الرئيسي دونالد رامسفيلد وزير الدفاع. وتحمل باول هذه الهزيمة بسمو وكرامة، رافضاً نصيحة أصدقائه بالإستقالة ومصراً على الاستمرار في خدمة الرئيس بكل أمانة. ولعل الوقت قد حان الآن كي يلعب دوره، إذ أن قبوله استقبال عبد ربه وبيلين أعاد إليه سلطته ودوره في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. فهو لم يبالِ بسفاهة يوسي أولمرت، نائب رئيس الحكومة الإسرائيلية الذي صرح للإذاعة الإسرائيلية قائلاً: "أعتقد بأن باول يخطئ إذ يفعل ذلك... ولا أعتقد بأنه يساعد مسيرة السلام... بل أعتقد بأن هذه زلة يقدم عليها ممثل للإدارة الأميركية". والواقع أن كولن باول تحدى أولاً غضبة رئيس الحكومة الإسرائيلية أرييل شارون وأنصاره في واشنطن. واستطاع أن يفعل ذلك لأن الرئيس جورج بوش الذي يواجه حالياً مصاعب كبرى في العراق قرر على ما يبدو العودة إلى التدخل في موضوع السلام في الشرق الأوسط. وربما كان إلحاح توني بلير رئيس الحكومة البريطانية، والأمل في تحقيق بعض المكاسب الانتخابية، هي الدوافع التي أقنعت بوش في العودة إلى "رؤيته" الخاصة بإقامة دولتين فلسطينية وإسرائيلية وطرحها من جديد مضيفاً إليها بعض الملامح. ومن ناحية أخرى فإن باول ربما لاحظ بأن اليهودية العالمية أخذت تضيق ذرعاً بقمع شارون الوحشي للفلسطينيين. وبدأ الكثيرون يدركون بأن هذه السياسة هي التي تغذي اللاسامية الجديدة، التي تنال من احترام اليهود وتهدد أمنهم في أنحاء كثيرة من العالم. فمن اللافت أن نرى نائب وزير الدفاع الأمريكي بول ولفوفيتز، المعروف بأنه من أقوى الصقور وأنصار إسرائيل، وأحد المهندسين الرئيسيين لحرب العراق، يتخذ أخيراً موقفاً يعبر فيه عن تأييده ل "مبادرة جنيف". مما يوحي بأن بعض المحافظين الجدد على الأقل أدركوا بأن الحركة الوطنية الفلسطينية لا يمكن التغلب عليها بالقوة وأن المضي في هذه السياسة سيحكم على إسرائيل بالعيش في عنف وعزلة دائمين. وساطة اللواء عمر سليمان: الإشارة المهمة الأخرى لصالح السلام جاءت من القاهرة حيث استؤنفت الاجتماعات هذا الأسبوع بين سائر الفصائل الفلسطينية بناء على وساطة رئيس المخابرات العامة المصرية اللواء عمر سليمان. إن مجرد عقد هذه الاجتماعات يعني أن الفلسطينيين بكل أطيافهم، بدءاً ب "فتح" ومروراً بالحركات الإسلامية المتشددة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" والجماعات اليسارية الأخرى كالجبهة الشعبية والجبهة الديموقراطية، يرفضون رفضاً باتاً أي احتمال للاقتتال في ما بينهم. فهم جميعاً يعلمون بأن أي حرب أهلية فلسطينية ستكون هدية ثمينة تقدم لشارون. غير أن الاجتماع يعني من جهة أخرى بأن فتح تعترف بضرورة اشتراك الحركات الإسلامية في القيادة الفلسطينية. فوزن حماس الشعبي سيزيد من قوة وشرعية أي فريق فلسطيني يفاوض إسرائيل. ولقد بذل اللواء سليمان الكثير من الجهد لبناء الجسور بين الفصائل الفلسطينية كما ظهر ذلك في قرار وقف إطلاق النار من طرف واحد الذي اتخذه الفلسطينيون في حزيران الماضي. وللأسف انهارت تلك الهدنة بعد بضعة أسابيع بسبب مضي إسرائيل في قمعها. أما هذه المرة فوقف إطلاق النار سوف يلزم الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على السواء. فإذا ما نجح اللواء سليمان في هذه المهمة الدقيقة فسيدعم ذلك بقوة مركزه الشخصي وحظوظه في الانتخابات الرئاسية في مصر. وأما الإشارة الثالثة، فهي أن "مبادرة جنيف" أخذت تحدث تحولاً في المسرح السياسي الإسرائيلي. ففي 9 كانون الأول ديسمبر الجاري يندمج حزب ميريتس اليساري بحزب شاهار الفجر الذي أسسه يوسي بيلين، ليؤلفا حزباً اجتماعياً ديموقراطياً جديداً يدعى "ي هود" وهو عنوان يحتوي على ثلاثة حروف عبرية ترمز إلى إسرائيل/ ديموقراطية/ عمل. وهنالك أمل في أن ينضم إلى صفوف هذا الحزب الجديد عناصر من حمائم حزب العمل الإسرائيلي المنهار بحيث يشكل تجمعاً جديداً وقوياً لليسار ووسط اليسار في إسرائيل. ولقد قال وزير الخارجية الفلسطيني نبيل شعث في بيروت هذا الأسبوع بأن مبادرة جنيف يمكنها أن تسهم في إعادة تكوين اليسار الإسرائيلي بحيث يستطيع أن يشكل قاعدة مشتركة قد تصل إلى القبض على ناصية الحكم. فالناخب الإسرائيلي المعروف بالتردد يفقد ثقته بسياسات شارون التي لم تعد على إسرائيل لا بالسلام ولا بالأمن بل بالكثير من العواقب الاقتصادية الوخيمة. إحياء المسار السوري: وجاءت الإشارة الرابعة الى أن الآمال في السلام أخذت تنتعش في الدعوة الموجهة من الرئيس بشار الأسد إلى الولاياتالمتحدة لاستئناف التفاوض في موضوع السلام. فقد ناشد الرئيس الأسد، في مقابلة أجراها مع صحيفة "نيو يورك تايمز"، أميركا بأن تكون عامل استقرار في الشرق الأوسط وذكّرها بأن "لا سلام في المنطقة من دون سورية". ويبدو جلياً أن الرئيس الأسد قد أدرك بأن هناك اندفاعاً متزايداً نحو السلام يريد أن يكون طرفاً فيه، بل طرفاً رئيسياً، معتبراً أن لسورية دوراً مهماً تلعبه سواء في النزاع العربي الإسرائيلي أو في استقرار الوضع في العراق. غير أن أعداء السلام أيضا يعبئون قواهم. فالاستمرار في اصطياد الناشطين الفلسطينيين وقتلهم وقتل المدنيين الأبرياء يدل الى أن شارون يبذل قصارى جهده لإثارة المقاومة الفلسطينية وحملها على الرد. وهو لا يعبأ بأي وقف متبادل لإطلاق النار ولا بالتفاوض مع سورية الذي يؤدي إلى إعادة هضبة الجولان. فسياسته هي كسب الوقت قدر الإمكان كي يتمسك بالجولان وبأكبر قدر من أراضي الضفة الغربية بواسطة الجدار العازل الذي يتسلل بانتظام وسط الأراضي الفلسطينية ويلتهم منها ما أمكنه. وفي حرصه على نسف "مبادرة جنيف"، تحول شارون من جديد نحو خارطة الطريق، رغم إبدائه في السابق 12 تحفظاً عليها. ولقد حاول عبثاً في زيارة خاطفة إلى روسيا إقناع الرئيس فلاديمير بوتين بالتخلي عن مشروعه في جعل خارطة الطريق ملزمة وذلك بواسطة قرار من مجلس الأمن. وقد تم بالفعل تبني المشروع الروسي بالإجماع. وكما اتهم اليمين الإسرائيلي يوسي بيلين بالخيانة ونادى بمحاكمته ومعاقبته، كذلك دان المتطرفون الفلسطينيون ياسر عبد ربه على ما يعتبرونه بيع "حق العودة". إنها لقضية مؤلمة ومثيرة لكثير من الجدل تواجه الفلسطينيين وتحملهم على التعامل معها إذا كانوا ينشدون مستقبلا أفضل. ففلسطين التي يود الكثير من اللاجئين العودة إليها لم يعد لها وجود. إضافة إلى ذلك فإن الانتفاضة جعلت الرأي العام الإسرائيلي يرفض قبول أي عدد من اللاجئين مهما كان ضئيلاً. أما اليساريون ومحبو السلام فإنهم يرفضون احتمال عودة أعداد ضخمة من الفلسطينيين. وقد تجلى ذلك في المفاوضات التي أدت إلى "مبادرة جنيف" حيث أبدى الطرف الإسرائيلي استعداده للتسليم بكل المطالب الفلسطينية - دولة مستقلة على 97،5 في المئة من الأراضي الفلسطينية والتعويض بأراض إسرائيلية بنسبة 2،5 في المئة، والتخلي عن قسم من القدس لإقامة عاصمة فلسطينية ومنح السيادة الكاملة على الحرم الشريف. ولكنهم بالمقابل طالبوا بأن يكون عدد اللاجئين العائدين إلى إسرائيل نفسها محدوداً جداً كي يحافظوا على الطابع اليهودي والديموقراطي للدولة. فعلى أولئك الفلسطينيين الذي يصرون على "حق العودة" كحق أخلاقي وتاريخي، وحق أساسي بالنسبة للهوية الفلسطينية أن يعترفوا بأن مطالبتهم هذه ستحتم فشل أي مشروع سلام وتحكم على جيل آخر من الفلسطينيين بشظف العيش واستلاب الحقوق والبؤس. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.