لم يكن ذهابي إلى الرباط، لحضور ندوة حول "الرحالة المسلمين"، من ضمن خططي الخاصة، لكنني وجدتها فرصة مناسبة لإزالة الغموض الموروث لدي، عن العهود السابقة التي تحيط بالمغرب. ما إن انتهت أعمال الندوة، بكل ما فيها من دراسات وأبحاث وخطب، حتى اندسست داخل السيارة المتجهة إلى فاس، عاصمة مملكة الأدارسة. هناك نزلنا في فندق جميل يسمى "قصر الجامعي"، يقع بجانب إحدى بوابات المدينة العتيقة. بُنِي هذا القصر في القرن التاسع عشر، وكان سكناً لوزيرين متتاليين تحت حكم السلطان مولاي الحسن، وحُوّل إلى فندق في العام 1930. خلدنا إلى النوم بعد أن أعيتنا الرحلة، وفي الصباح الباكر دخلنا إلى المدينة العتيقة عبر سورها من باب يجاور "قصر الجامعي" بناه الأمير عجيسة في القرن الرابع الهجري وسماه باسمه، لكن مع مرور الأيام وتسهيلاً للنطق أصبح يطلق عليه "باب الكيسة". للوهلة الأولى تشعر بأنك اعتليت آلة الزمان، وعادت بك عقارب الساعة إلى الوراء سبعمئة عام. فالأزقة ضيّقة وتكاد لا تكفي لمرور بغلين. وفي "زنقة سيدي الدراس"، حيث ينتشر باعة الملابس المستعملة، لم نستطع المرور إلا سيراً في شكل جانبي بين الأجساد المتلاصقة، تماماً كما الأسهم التي تخترق البشر. ويندر ألا تصاب بصدمة من يمين أو يسار، والطريق متعرجة وملتوية، صاعدة وهابطة، أرضيتها من الحجارة الصغيرة المرصوفة. ولا شك في أنها مدينة قادرة - لقدمها - على جذب السياح إليها، من أنحاء العالم بأسره. وقد تصاب بالاستغراب، لعدم رؤيتك عسس الوالي، وستجد ساعة اليد التي في معصمك بمثابة شيء غريب في هذا العالم. في إحدى الزوايا، يجلس بائع أشعث الشعر داخل دكانه، مرتدياً "برنسه"، وكل ما يحيط به وما يستخدمه، لا يمت الى عالمنا المعاصر بصلة. ووسط الصخب المتصاعد من الباعة وأصوات مطارق الصناع التقليديين - الذين يؤمنون بالمثل الدارج في فاس: "مال الجدّين يروح، ومال اليدين يبقى" - يخرج صوت حاد مرتفع: "بالك... يرحم الله والديك". وما إن تستدير لاستكشاف ما يجري، حتى تُفاجأ بحصان يخترق الجموع البشرية محمل بالدجاج والديوك الحيّة المتدلية من الجهتين والمربوطة من أرجلها، والمتوجهة برؤوسها مذعورة نحو الأرض. وعليك أن تستغل كل لياقتك البدنية لئلا يصطدم بك. وهذا المشهد ليس حالاً فردية، بل يشكل ظاهرة لا تغيب عن أزقة المدينة القديمة التي تخترقها على - الدوام - البغال والأحصنة المحملة بكل شيء، بدءاً من أنابيب الغاز، وصولاً إلى جلود الحيوانات... كيف لا، والوسيلة الوحيدة المتاحة لنقل البضائع هي الدواب. وفي فاس، هناك - دائماً - ما يدعو الى إغناء الثقافة خلال التجوال. فهنا دار ابن خلدون الذي حُوِّل إلى محل كبير لبيع الزرابي السجاجيد. وقد وُلد ابن خلدون عام 1331 في تونس، وتربى في بيت علم. رحل أبوه عن الدنيا وهو لا يزال في السابعة عشرة من عمره، ولحقته أمه متأثرة بمرض الطاعون. وفي سن العشرين بدأ ابن خلدون رحلته في وظائف الدولة، وطاف بلاد الأندلس والمغرب كلها، إلى أن حطّ الرحال في مدينة فاس التي أقام فيها ردحاً من الزمن. وها نحن نتجول في منزله، الذي، عوضاً عن تحوّله إلى متحف، غدا حانوتاً تتعالى من أرجائه أصوات البائعين ومناوشات المشترين. وكان ابن خلدون - لفترة من الزمن - صديقاً للسان الدين بن الخطيب، وانتقل عام 1382 للإقامة في القاهرة، حيث قضى بقية حياته، إلى أن توفي ودفن فيها عام 1406. وكان فقد عائلته كلها بغرق سفينتهم التي كانت تقلّهم من تونس في طريقها إلى الإسكندرية. ويُعَدْ ابن خلدون من كبار العلماء الذين أنجبتهم الحضارة الاسلامية، وقدم نظريات كثيرة في علمي الاجتماع والتاريخ، ومن أهم مؤلفاته: "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر". وقادتنا الجولة إلى منزل موسى بن ميمون، الذي ما زال على حاله كما تركه صاحبه الطبيب اليهودي والفيلسوف الشهير. ويُعتبر ابن ميمون من أهم المفكرين اليهود الذين أنجبتهم الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، إذ تفرَّغ ثلاثة عشر عاماً لدراسة مؤلفات ابن رشد، وأقام فترة في فاس، ثم انتقل إلى مصر حيث تبوّأ منصب رئيس الطائفة اليهودية فيها. وتعتبر حياة ابن ميمون ومكانته دليلاً على سماحة الحضارة الاسلامية، ومدى إتاحتها فرص الإبداع للجميع. ووُلد ابن ميمون في قرطبة عام 1135، وتوفي في القاهرة عام 1204. واشتهر كتابه "دلالة الحائرين" بأنه من أهم الكتب التي دونها اليهود. ولأهل فاس تقاليد خاصة بهم، فمراسم العزاء تستمر عندهم ثلاثة أيام، والأرملة تلبس الأبيض حداداً على زوجها لمدة أربعة أشهر وعشرة أيام، ويحظر عليها خلال تلك الفترة أن تذهب إلى الحمامات العامة، وعليها أن تعود إلى منزلها قبل صلاة العصر، اذا خرجت لقضاء حاجتها. أما ختان الصبي، فيتم عندما يكون عمره ما بين العامين والثلاثة، وتجرى الجرالحة عقب صلاة الفجر. ثم يقام حفل بهذه المناسبة بعد الختان بيومين. وفي بعض الأحيان، يؤخذ الطفل الى جدته بحجة الرغبة في ملاعبته ومداعبته، وهناك يتم ختانه من دون علم أمه، لئلا تتأثر لمشهد آلامه. وتحمل النساء أطفالهن على ظهورهن مربوطين بقطع عريضة من القماش. وتختلف عنها طقوس الختان عند اليهود في فاس. فالجراحة تجرى عقب صلاة الصبح في اليوم الثامن من ميلاد الطفل، وتعلّق النساء حول سرير الأم التمائم، لحماية المولود من العين الشريرة. ويسمى حفل الختان ال"ملة"، حيث يؤتى من معبد اليهود بكرسي عالٍ يسمى "كرسي إيلياء"، ويختار أحدهم للجلوس عليه وحمل المولود أثناء الختان. وامتياز الجلوس على الكرسي يباع بالمزاد، لأن من يشتري هذه الميزة يمثل النبي إيلياء، أما ثمن الحظوة فيدفع للمعبد، وبعد رسو المزاد على الشخص الذي سيحمل المولود، يؤتى بهذا الأخير ويسلمه والده إلى الشخص الجالس على الكرسي، ثم يجيء "الموهيل"، وهو الذي يتولى عملية الختان ويردد الأدعية باللغة العبرية. وتتم العملية بواسطة شفرة لا مقبض لها، أما الدم النازف فيجرى لعقه من موضع الختان ثم يبصق في صحن مملوء بالرمل، ويغسل الجرح ببعض الأدوية المطهرة. وبعد عملية الختان، يعلن عن الاسم الذي سيعرف به المولود، الذي لا يمكن أن يُمنح اسم أبيه إذا كان هذا الأخير لا يزال على قيد الحياة، خشية أن يموت، بحسب اعتقادهم. يلي ذلك تقديم وجبة طعام للمدعوين. ومن عادات أهل فاس في الزواج، أن حفلة الحناء تقام قبل يوم واحد من موعد العرس، وتدعى النساء إلى مائدة عشاء. أما الأقارب من خارج فاس فيأتون قبل العرس بأسبوع. وتتداخل في عادات الختان والأعراس دوائر الطب والدين والسحر والخرافة. أما في المولد النبوي فيقدّم فطور خاص يتكوّن من الحلويات والمعجّنات، ويتم طلاء المنزل وتغيير الأثاث إذا سمحت الظروف المادية بذلك. حملتنا أقدامنا إلى ضريح سيدي أحمد التيجاني، أشهر أولياء المدينة، بعد مولانا إدريس، مؤسس المدينة. ويقصده مسلمو شمال أفريقيا للتبرك به، ولديه الكثير من الأتباع في السودان ومصر، يطلق عليهم أتباع "الطريقة التيجانية"، وهي من الطرق الصوفية المنتشرة في الأرياف. وجرت العادة في المدن الإسلامية القديمة، أن يكون الجامع الكبير هو مركز المدينة، وأن تكون أقرب الأسواق إليه أجملها، كسوق العطور. وهكذا.. كلما ابتعدنا من الجامع كنا نقترب من الأسواق الأقل شأناً. وأثناء جولتنا صدمتنا روائح كريهة، فعرفنا أننا في "حي الدباغين" الذي يعج بالمنازل التي حُولت إلى حوانيت لبيع المنتجات الجلدية، في عليّة أحدها أتيحت لنا فرصة مشاهدة الصهاريج الملونة، التي يتم فيها صبغ الجلود، وهي مبنية منذ مئات السنين، والدباغون هم الذين يعدون البضاعة للصنع من جلود الخراف والماعز والأبقار والغزلان والجمال. وعلمنا من الباعة أن أحسن الجلود هي تلك الآتية من الماعز نظراً لنعومتها. وبعد الدبغ تنتقل الجلود إلى أصحاب الحرف المختلفة كالحقائب والأحذية وغيرها. استرحنا قليلاً بعد الجولة الأولى التي دامت قرابة الساعتين، ثم استأنفنا ما بدأناه، فخرجنا من "درب اللمطي" حيث صادفنا أمامنا فرناً صغيراً يستخدم الخشب كوقود. ولأهل فاس عادة جميلة في صناعة الخبز: فبعد تجهيز العجين، يرسلونه إلى الفرن، وعند موعد الغداء يذهب الصبية لاحضاره جاهزاً ويكون لكل عائلة علامة فارقة على الخبز لمعرفة أصحابه. ارتفع أذان المغرب معلناً موعد الإفطار، فدلفنا إلى أقرب مطعم حيث تناولنا وجبة من طاجن لحم الضأن، وهم يطبخونه مع المكسرات والبرقوق، وطعمه لذيذ. ولم نستطع مقاومة إغراء الحلوى الأساسية في مائدة رمضان في المغرب، ويسمونها "الشباكية"، وهي حلوى مشبكة على شكل حلقات متعددة تشبه الحروف الصينية، صغيرة الحجم، يغمرها العسل. وقد وجدنا مثلها على حجم أكبر في مدينة دمياط المصرية. وما إن انتهينا من تناول الطعام ذي المذاق الأندلسي، حتى هممنا في استكمال الجولة، فسلكنا "درب بو طويل" الذي أوصلنا إلى جامع "القرويين"، وهو الجامع - الجامعة الذي بنته فاطمة بنت محمد بن عبدالله الفهري القيرواني، الذي جاء إلى المدينة من القيروان في العام 807. وبُني الجامع عام 859 على شكل مربع، على نحو ما عرف في المساجد الإسلامية الأولى، ثم أُدخلت عليه تعديلات عدة في أزمنة لاحقة، وهو مملوء بالثريات، وهي عبارة عن أجراس جُلبت من كنائس الأندلس عندما فتحها المسلمون وعدِّلت لتوضع عليها الشموع والسروج. وفي الجامع منبر جميل مملوء بالزخارف النباتية، وهو يعود إلى عهد المرابطين، ويعتبر تحفة فنية جديرة بالمشاهدة. ويضم الجامع خلوة، اصطحبنا إلى داخلها حارس الجامع، وهي عبارة عن غرفة مستطيلة كان يعتكف بها أولياء الله الصالحون، حيث ينقطعون عن العالم ويجلسون للصلاة والدعاء. وهناك، وقعنا على المكان الذي اعتاد أن يجلس فيه ابن خلدون في الجامع، لإعطاء الدروس لتلامذته. وعقب انتهاء "الزيارة" أعطيت للدليل بعض المال، فقال لي: "زد الخبزة يرحم والديك" من دون أن ينظر إلى مقدار ما حصل عليه، فأعطيته المزيد منه لجمال تعبيره. وخرجنا من المسجد، فمررنا بسوق العطارين، ودلفنا إلى الحوانيت المملوءة بالأعشاب التي لا حصر لها، وسأل أحدنا عن "الفاسوخ" فجاء الجواب بأنه موجود، وعندما احتدم الجدال حول السعر، قال له البائع: "تريد تشتري جمل بتمن أرنب"، وانتهى الأمر بأن اشترى صديقنا منه، وشرح لنا العطار كيفية استخدامه، مشيراً إلى أن الهدف منه طرد الجن المؤذية، ولديه لكل مرض علاج. وكبر التساؤل داخلي: فإن كان الأمر كذلك، فلماذا فاس مملوءة بالمعوقين وذوي العاهات والمحتاجين من الذكور والإناث. ولكل من البيوت في فاس العتيقة سور إلى جهة الشارع، يتوسطه باب خشب متين مزخرف برؤوس المسامير، ومقرعة تستخدم ليُعلن بها الزائر عن وجوده. ويؤدي الباب بالداخل إلى ممر ضيق ينتهي بساحة صغيرة لا سقف لها، وقد تضم في وسطها بركة ماء، ومن الممر تتفرع الحجرات على جوانب الساحة الداخلية. والممرات الداخلية مغطاة ليتمكن سكان البيت من التنقل من حجرة إلى أخرى من دون التعرض للبلل في حال سقوط الأمطار. وفي الغالب تتكون البيوت من طابقين، أرضي وعلوي. وللتعرُّف على البيت الفاسي القديم، ليس أمام الزائر إلا أن يقصد الحوانيت الكبيرة المخصصة حالياً لبيع الزرابي. ويتكون الأثاث من الوسائد التي كانت توضع بجوار الجدران، والفرش المكسوة بالقماش المطرز، وأواني النحاس بأحجام مختلفة. وشوارع المدينة القديمة عبارة عن أزقة ضيقة للغاية، على جانبيها توجد انحناءة الى الداخل واللأسفل لمرور المياه خلال فصل الأمطار. وإذا كان الشارع عريضاً، فإن تلك الانحناءة تكون في وسط الشارع، وبذلك لا تتجمع المياه وتنصرف مباشرة بمجرد سقوطها. عقب الخروج من المدينة العتيقة، ذهبنا إلى ضريح لسان الدين بن الخطيب، وهو يقع على شارع، تحيط به من الأمام والخلف مجموعة كبيرة من المقابر، يفصل ما بين الجهتين شارع عريض. ويعتبر ابن الخطيب لدى أهل البلد من أولياء الله الصالحين، ويُفتح ضريحه مرة واحدة في العام حيث تملأ النساء المكان ويبخرنه ويحنن الضريح بالكامل. وابن الخطيب من غرناطة وُلد عام 1313 وتقلد الوزارة وعندما خُلع الخليفة الغني بالله، لم يستطع لسان الدين أن يُصانع السلطان اسماعيل الثاني أبي يوسف، الذي خلع أخاه محمد الغني بالله، فنكبه السلطان وصادر أمواله، فهرب لسان الدين إلى فاس. وعندما عاد الغني بالله إلى الخلافة مرة أخرى، استدعى لسان الدين من فاس ورده إلى الوزارة، ولُقب حينذاك ب"ذي الوزارتين"، فعلت مكانته وعظم نفوذه فزاد حساده، وعلى رأسهم تلميذه وصنيعته الوزير ابن زمرك، فاتهموه بالإلحاد والزندقة، فاستأذن ابن الخطيب للذهاب إلى الحج وهرب إلى فاس، فقدم للمحاكمة غيابياً في غرناطة وأفتي بوجوب قتله وحرق كتبه. وفي فاس أعيدت محاكمته ووُجهت إليه تهمتا الإلحاد والزندقة، اعتماداً على بعض ما جاء في كتابه "روضة التعريف بالحب الشريف"، ونُكل به وامتُحن بالعذاب الشديد على مشهد من الملأ، ودس عليه الوزير سليمان بن داود بعض الأوغاد، فدخلوا عليه في السجن وقتلوه خنقاً في أوائل عام 1374. وهكذا تذهب قتلاً خيرة مفكرينا ومؤرخينا، ولا تزال كلمات صاحب كتاب "الإحاطة في أخبار غرناطة" تحملنا إلى سهول الأندلس وُرباها على صوت فيروز عندما تشدو: جادك الغيث إذ الغيث همى/ يا زمان الوصل في الأندلس لم يكن وصلك إلا حلماً/ في الكرى أو خلسة المختلس غادرت فاس والحسرة تملأني على أمة أنزلت ابن الخطيب إلى درك الزندقة والإلحاد، فيما رفعه أحفاده إلى مرتبة الأولياء. وتوجهنا إلى الدار البيضاء "كازابلانكا"، وقد عدنا إلى العصر الحديث.