في العام 818ه/ 1415م تعرضت مدينة سبتة المغربية لعدوان برتغالي مباغت أدى الى احتلالها، وكان من وراء هذا العدوان دوافع دينية واقتصادية واستراتيجية في المقام الأول. ومما سهل سقوط المدينة في ايدي المغيرين البرتغاليين - فضلاً عن عامل المباغتة - ما كان يعانيه المغرب الأقصى آنذاك من تفكُّك واضطراب في أواخر أيام دولة بني مَرين، وكذلك المنازعات القائمة بين سلاطين فاس وبين سلاطين بني الأحمر في غرناطة. تتحكم مدينة سبتة بالملاحة في بحر الزقاق مضيق جبل طارق، وكان لها دور مهم في افتتاح العرب للأندلس، وظلّت بحكم ضيق المجاز وصلتها الوثيقة بالأندلس - اندلسية الطابقع. وتكاد ان تكون جزيرة، اذ يحيط بها الماء من الجهات كافة تقريباً، مما جعل المرابطين يستيعنون على أخذها بأسطول المعتمد بن عباد صاحب اشبيلية. وقد غصت سبتة بالنازحين من الأندلس ابتداءً من القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي في ما أخذت قواعد المسلمين في الأندلس - كقرطبة وبلنسية واشبيلية - تتهاوى في ايدي صاحبي قشتالة وأرغون. وذكر أبو عبيد البكري منتصف القرن الحادي عشر ان سبتة لم تزل دار علم، وازداد علماؤها بازدياد الهجرة الأندلسية. ومن بين أبرز من انجبتهم من العلماء القاضي عياض بن موسى السبتي، والشريف الادريسي، والفقيه المحدث ابن رشد الفهري، والكاتب البارع عبدالمهيمن الحضرمي، والفقيه أبو العباس أحمد العزفي وابنه الرئيس محمد ابو القاسم العزفي الذي أقام في سبتة أسرة حاكمة منذ منتصف القرن الثالث عشر. واشتهرت سبتة في مجال التجارة براً وبحراً، وكان يقصدها تجار المدن الايطالية، وخصوصاً تجار مدينة جنوة حيث كان لهم فنادق فيها. كما كانت المدينة بدايةً لطرق القوافل المؤدية الى غانا والسودان الغربي. واشتهر أهلُ سبتة بركوب البحر وانشاء المراكب، وكانت بالمدينة دار صناعة لانشاء السفن، كما كانت القاعدة الرئيسية لأسطول الموحدين. وكان لرماة سبتة في جيوش الموحدين وفي مَرين شهرة الاعزاز من التركمان في الرماية. نبذة تاريخية بعد ان افتتح المسلمون الأندلس عن طريق سبتة، فرضة المجاز، قلما يرد ذكر المدينة في المصنفات الاندلسية الى ان مَلَكها خليفة قرطبة الأموي عبدالرحمن الثالث الناصر لدين الله العام 319ه/ 931م كحوُّطاً من خطر الفاطميين، واتخذها قاعدة للأسطول في بر العدوة المغرب لامداد حلفائه هناك، ومنها تم استيلاؤه على مليلية ونكور. وفي فترة ملوك الطوائف في الأندلس، انتزى في سبتة سقوط البرغواطي حتى قدوم المرابطين الذين تعذر عليهم بادئ الأمر أخذ سبتة الى ان أمدهم المعتمد بن عباد صاحب اشبيلية بقطعة بحرية، فتسنى لهم أخذ المدينة من العز بن سقوط صيف 1083م. ويذكر ابن بسام الشنتريني ان العزهذا كان يمارس القرصنة "فضجت منه الأرض والسماء".1 ازدادت أهمية سبتة كفرضة المجاز الى الأندلس بعد قيام دولة المرابطين وضم الأندلس الى هذه الدولة، فازداد بالتالي الاتصال بين العدوتين. وكذلك كان الحال في عهد الموحدين، فمن سبتة كان جوازَ عبدالمؤمن بن علي الى جبل الفتح جبل طارق وان المسجد الجامعة في سبتة وسور الميناء السفلي بناهما يوسف بن تاشفين،2 كما ان ابنه علي بن يوسف عمل على اصلاح سور سبتة.3 وبنى للسلطان الموحدي يوسف بن عبدالمؤمن منزل في سبتة "هو باق هناك الى اليوم 621ه/ 1224م".4 واتخذ الموحدون سبتة قاعدة لأساطيلهم الغزوانية. يقول ابن خلدون ان سبتة كانت منذ قيام دولة الموحدين "ثغر العدوة المغرب، ومرقى الأسطول، ودار انشاءة الآلات البحرية، وفرضة الجواز الى الجهاد. فكانت ولايتها مختصة بالقرابة من السادة بني عبدالمؤمن".5. ويذكر صاحب "الحُلَل الموشية" ان ثاني سلاطين الموحدين يوسف بن عبدالمؤمن بنى في سبتة دار الصناعة "على ما هي عليه الآن 783ه/ 1381م".6 ونظراً الى تحكم سبتة بالملاحة في بحر الزقاق، ونشاطها التجاري، طمح الجنويون في الاستيلاء عليها، فلجأ تجارهم الموجودون فيها الى خديعة سنة 633ه لتحقيق هذا الهدف باءت بالفشل بفضل نصرة قبائل منطقة سبتة لصاحب المدينة آنذاك ابي العباس اليَنشَتي.7 وفي سنة 647ه/ 1250م تولى رئاسة مدينة سبتة - مع ولاء للموحدين - كبير مشيخة المدينة ابو القاسم محمد العزفي. وفي عهد امارة بني العزفي، التي استمرت نحو سبعين عاماً شهدت سبتة أوج قوتها ورخائها. فقد عمل أبو القاسم العزفي على تنمية تجارة سبتة عبر البحر المتوسط، وشارك في جهاد المرينيين في الأندلس وتزويدهم بالأساطيل وبالرماة الناشبة.. وبعد وفاة أبي القاسم، سار ابنه أبو طالب على السياسة ذاتها، فظل على ولاء اسمي لبني مرين، وشارك بنشاط في عمليات الجهاد في الأندلس. وكان لأسطول سبتة دور مهم في الهزيمة البحرية التي أوقعت بأسطول قشتالة في شهر تموز يوليو 1279م عند حصار الفونس العاشر ملك قشتالة للجزيرة الخضراء. وبانتهاء ولاية العزفيين على سبتة سنة 728ه/ 1228م، آلت رئاسة مجلس الشورى في المدينة الى الشريف الحسيني أبي العباس أحمد، وكان خصماً لبني العزفي ومقرباً من السلطان المريني ابي سعيد، الذي أمر ببناء البلد المسمى آفراك على سبتة سنة 729ه. والسلطان المريني أبو الحسن هو الذي أمر بانشاء برج الماء ببحر بسول من ساحل سبتة الجنوبي "فصان ذلك البرج جمع المرسى، فلا يتهيأ لأحد من المراكب الدخول لذلك المرسى الا ان يكون صديقاً، والا فهو يُشرف على جميع ما يدخل تحته".8 ان ضعف مملكة غرناطة، والصراع على السلطة بين أبناء البيت المريني، وكذلك المنازعات بين بني مرين وبني عبدالواد أصحاب تلمسان، كل ذلك كان له أثره في مدينة سبتة التي كانت قد غصت بالنازحين من الأندلس. ونشطت حركة الغزو البحري من قبل هؤلاء النازحين ضد مراكب اسبانيا وأراضيها. ورداً على ذلك، هاجم صاحب قشتالة مدينة تطوان مغتنماً فرصة انشغال السلطان المريني بمحاصرة تلمسان سنة 1399م، ودمرها وأباد نصف سكانها واسترق النصف الآخر. وكان من نتيجة هذا الهجوم الوحشي ان ازداد نشاط غزاة البحر، وازدادت الحمية للجهاد ضد الاسبان.9 ان أعمال غزاة البحر المسلمين من قواعدهم في بر العدوة كانت احدى الذرائع التي تذرع بها البرتغاليون عند عدوانهم على مد.ينة سبتة سنة 1415م فضلاً عن عدائهم للاسلام والمسلمين، واطماعهم في خيرات المدينة وما ذُكر عن ثرائها بفضل الاتجار مع السودان الغربي. النشاط الاقتصادي اشتهر أهل سبتة - بحكم موقع بلدهم على بحر الزقاق بين المغرب والأندلس - بمزاولتهم للتجارة، كما انهم استغلوا ثروة مياه سبتة من المرجان والأسماك، وقامت في بلدهم بعض الصناعات كإنشاء السفن وعمل؟؟؟ وتصنيع المرجان والصياغة وصناعة الورق والأدوات النحاسية. ويبدو ان التجارة بين سبتة واشبيلة كانت مشكلة في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، كما يُستدل مما أورده ابن بسام الشنتريني من ان المعتضد بن عباد صاحب اشبيلية اعتقل تاجراً من سبتة، وعلى الأثر اعتقل صاحب سبتة سقوط البرغواطي عدة تجار من اشبيلية، فنشأت بينهمة وَحشة سنة 457ه/ 1065م "قامت حروب هَلَكَ فيها رجالٌ وتلفتْ أموال" 10 ويُشبِّهُ ابن سعيد المغربي اواخر القرن الثالث عشر سبتة بمدينة الاسكندرية "في كثرة الحطِّ والاقلاع" وفيها التجار الاغنياء الذين يبتاعون المركب بما فيه من بضائع الهند وغيرها في صفقة واحدة" 11. ويحدثنا ابو بطوطة بأنه اثناء وجوده في مدينة قنجنغو Fuchow بالصين، في منتصف القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي، قابل تاجراً من سبتة اسمه قوام الدين السبتي، كان قد وصل الى الصين حيث "عظمُ شأنه واكتسب الاموال الطائلة". وبعد ذلك ببضع سنوات، قابل ابن بطوطة اخاً لهذا التاجر السبتي في السودان الغربي 12. كان لسبتة منذ قيام دولة الموحدين في منتصف القرن الثاني عشر تجارة مزدهرة مع بلدان حوض البحر المتوسط، وبخاصة جنوة وجزيرة ميورقة وبلنسية، وكانت سبتة - على حد قول لسان الدين به الخطيب - "محطّ قوافل العصير زيت الزيتون والحرير والكتان" 13. وغدتْ بالتالي منفذاً لمنتجات المغرب والسودان الغربي، ومركزاً لتصريف السلع التي يجلبها تجار جنوة ومرسيليا ومملكة أرغون. وبالنسبة الى التجار الجنويين، احتلّت سبتة مكان الصدارة بين موانئ شمال افريقيا وحلّت محل بجاية، وأصبحت محطة لرحلات المراكب من جنوة الى اسبانياوفرنسا، بل - وكما يتبيّن من رحلة ابن جُبير - اصبحت سبتة نقطة البداية والنهاية للرحلات البحرية الى المشرق 14. وكان تجار مرسيليا - عن طريق وكلائهم من اليهود في سبتة - يبيعون عُملات عربية أنصاف دراهم Millaras تُضرب في مدينة مونبلييه لجنوب فرنسا 15. وفي عهد بني العزفي وَلْوا سبتة 647 - 728ه / 1249 - 1328م حظيت المدينة بفترة من النشاط التجاري والازدهار الاقتصادي، بل ان السفن كانت تُستأجر من بعض الدول البحرية لحوض البحر المتوسط. ويُستفاد من نص مؤرخ في سنة 1302م ان صاحب سبتة أبا طالب العزفي كان شريكاً في مِلكية سفينة قطلانية 16. ومما ساعد في ازدهار سبتة في تلك الفترة بُعدها عن العواصم السياسية للمغرب الاقصى وعن الفتن والقلاقل الداخلية، ما جعل تبعيتها لمراكز السلطة في الغالب تبعية اسمية 17. وفي اوج حُكم العزفيين، حظيت سبتة بقوة سياسية واقتصادية حقيقية، حتى ان صاحب ارغون جيمس الاول عقد معاهدة سلم مع صاحب سبتة شباط 1269م، فكان ذلك اول اتفاق يعقد بين صاحب ارغون وبين دولة مغربية. وفي العام 1294م عيّنت ارغون سفيراً لها لدى أبي حاتم العزفي 18. ويبدو ان تجار جنوة كانوا يجلبون الى سبتة طراف السلع، كما يتبين من حكاية القائد أبي السرور - صاحب ديوان سبتة - الذي أنعم على الأديب النحوي أبي عمران موسى الطرياني "بتحف مما يكون في الديوان مما يجلبه الافرنج الى سبتة" 19. ان السلطان المريني أبا الحسن حرص على تأمين طرق القوافل ما بين العاصمة فاس وبين مدن المغرب الاخرى كسبتة، وذلك بانشاء مراكز على طول الطرق يُجري لساكنيها اقطاعاً من الارض "ويُلزَمون فيها بيع الشعير والطعام القمح، وما يحتاج اليه المسافرون من الادم على اختلافها والمرافق التي يُضطرون اليها هم وبهائمهم، ويحرسونهم ويحوطون امتعتهم، فان صناع شيءٌ تضمَّنوه" 20. والوصف الذي تركه لنا على سبتة احد ابنائها محمد بن القاسم الانصاري في كتابه "اختصار الاخبار عما كان بثغر سبتة من سنيِّ الآثار" يدل على ان المدينة - حتى أوائل القرن الخامس عشر - كانت تنعم بالرخاء والازدهار والعمران. فالانصاري يحدِّثنا عن اسواق سبتة وحوانيتها وتربيعاتها وفنادقها فيقول ان عدد الاسواق 174 سوقاً "ومن اشرفها قدراً وأجملها وتربيعاتها وفنادقها فيقول ان عدد الاسواق 174 سوقاً "ومن اشرفها قدراً وأجملها مرأى سوق العطارين الاعظم... والسوق الكبير وسوق مقبرة زكلو من الجانب الشرقي من المدينة. ومن الاسواق المعلومة لتجارة الآنية الصفرية النحاسية سوق السقاطين، وما أدراك ما سوق السقاطين: رفاهية متجر وكثرة انواع وحسنَ ترتيب ووضع" 21. وكان بسبتة 360 فندقاً "اعظمها بناء وأوسعها ساحة "الفندق الكبير المُعد لاختزان الزرع، وهذا الفندق من بناء محمد العزفي... يحتوي على 52 مخزناً ما بين هُري وبيت...". ويليه من الفنادق المعدّة لسكن التجار وغيرهم فندق غانم، ويشتمل على ثلاث طبقات وثمانين بيتاً حجرة وتسع مصريات شُقق. ويتحدث الانصاري عن ديار الاشراف المالي فيقول انها اربع: دار الاشراف على عَمالة الديوان امام فنادق تجار النصارى - وفنادقهم سبعة، ودار الاشراف على سكة المسلمين، ودار الاشراف على شدّ الامتعة وحلِّها الجمارك، ودار الاشراف على البناء والنجارة وما يتصل بها 22.