بقدر ما كان المشهد مأسوياً وكارثياً وحزيناً وأنت تشهد رئيس دولة عربية مسلمة في قفص الاتهام الاميركي ذليلاً، حتى ولو كان عدوك. بقدر ما كان المشهد احتفالياً وابتهاجياً ومفرحاً وأنت ترى ديكتاتوراً ظالما جلس فوق صدر شعبه لعقود غصباً عنه يلقى تلك الخاتمة المتوقعة. هذا هو القدر المتيقن من نقاط الاشتراك في المشهد العراقي الغريب الأطوار في الزمن العربي والاسلامي "الرديء". غريب فعلاً المشهد العراقي النخبوي وبائس الى حد يثير الشفقة، على عكس نصاعة المشهد العراقي الشعبي الذي يدعو الى الفخر والاعتزاز. نحو 35 عاماً وهو يحكم العراق ب"النيابة" أو مباشرة وهو يدعو الى "مقاتلة العدو الاميركي الجبان"، فإذا به يجلس القرفصاء "مستسلماً لقدره" عندما تحين اللحظة المناسبة! في المقابل وبعد نحو 35 عاماً من "الدعوة" لمقاتلة "الأجنبي الكافر وزبانيته" وفي طليعتهم "صدام العفلقي" يسأله أحد "الدعاة" وهل قاتلت الاميركيين أنت؟! والجواب في الحالين واضح وبيّن للشعب العراقي الجريح والشهيد والمظلوم مثله مثل سائر "الشعوب" العربية والمسلمة بغالبيتها على الأقل. فالقائد في الحالة الأولى بنى حلمه اساساً على مهادنة الاجنبي إن لم يكن جاء بدعمه ومساندته ورعايته، على الأقل هذا ما اعتادت المعارضة على تربية كوادرها عليه، فإذا بها تتساءل فجأة، ولماذا لم يقاتل المحتلين؟! لكن الجواب الأكثر مأسوية وابلغ دلالة هو ذلك الذي وجهه الزعيم "الخائن والعميل وبائع الوطن والشرف والكرامة" الى المعارض البطل: وهل قاتلت أنت؟! وهنا الطامة الكبرى، فماذا عساه ان يقول ذلك المعارض الأبي الشهم وهو المدجج "بمشروعية" الاجنبي المحتل "التحريري"! نحو 35 عاماً عاشها العراق المظلوم والجريح والشهيد والرئيس ليس رئيساً لجميع العراقيين، بل وحتى ليس رئيساً للطائفة التي ينتمي اليها بالهوية، لا بل ولا حتى رئيساً لحزبه ولا لعشيرته ولا حتى لعائلته وأهله والمقربين، ومع ذلك رئيساً بقوة الحديد والنار وهيلمان فرعون الكاذب: "فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى". وأيضاً نحو 35 عاماً والمعارضة العراقية في وضع يائس وحزين تفتقر الى أبسط أشكال الوحدة الوطنية غارقة في بحور التجزئة الحزبية والفئوية والانانية والشخصانية كما هي حال "الرئيس القائد" على رغم ضخامة حجم التضحية والفداء التي فاقت أعرق معارضات العرب والمسلمين. بين ذلك الرئيس وتلك المعارضة، يحشر الشعب العراقي الجريح والشهيد والمظلوم في "قفص الاتهام" اليوم ليختار بالإكراه بين بوش وصدام حسين! انه ظلم ما بعده ظلم. فهل يعتبر الرؤساء، وهل تعتبر المعارضات؟! في العراق كما في ايران كما في السعودية كما في مصر كما في أي بلد عربي أو مسلم يبقى لسان حال الشعب يردد: نريد رئيساً لكل البلاد، لكل الطوائف، لكل السكان، لكل الشعب فرداً فرداً وجماعات جماعات، كما نريد معارضة عينها على الاصلاح، اصلاح ذات البين وبناء ما يتهدم، وليس عينها على السلطة والوصول اليها بأي ثمن كان حتى لو أتت بهدم كل ما بُني وبيعت مقدرات الوطن في سوق النخاسة الدولية. وهل تتعلم الشعوب بأن "الثقافة" الصدامية ليست حكراً على شخص صدام حسين أو هي وليدة هذا الرجل الغريب الأطوار بقدر ما هي مجموعة ممارسات وسياسات وتصرفات وعقليات ونفسيات قد تنشأ وتتبلور وتعيد صوغ نفسها حتى مع مناضلين سابقين ولو انتموا الى أعرق الحركات والاحزاب النضالية وألمع "العوائل" أو الطوائف أو العشائر؟! مرة قال مفتي البوسنة في مؤتمر للحوار مع مسيحيي أوروبا: يا ليت المسلمين يصمتون لمدة خمسين عاماً لعل الاسلام "يتطهر" من أعمالهم باسم الاسلام وينتصر الاسلام بنصاعة أفكاره ومبادئه بعيداً عن التسويق السيئ له من قبل المسلمين. والآن يتساءل الكثيرون: ألسنا بحاجة فعلاً الى عصر عربي ومسلم جديد نعمل فيه اكثر مما نتكلم؟! يقول الحديث الشريف: "كونوا دعاة الناس بغير السنتكم"، ويقول ايضاً: "انما الدين المعاملة". فهل فكر الرئيس وفكرت المعارضة في هذين الحديثين فقط على الأقل قبل ان ينتهي الأمر بهما الى ما انتهى اليه حال الرئيس والمعار ضة العراقية، في قفص اتهام الشعوب لها إما بالجبن والذل والبؤس فضلاً عن الخيانة والعمالة سواء كانت تلك التهم محقة أم باطلة! ان لسان حال الشعوب العربية والمسلمة اليوم يقول: نريد رئيساً للجميع، نريد رئيساً يعمل ليلا نهارا من أجل الجميع، كما نريد معارضة وطنية شريفة عينها على الاصلاح وتهذيب وتشذيب وبناء ما يهدمه الرئيس عن قصد أو عن غير قصد، وبأيد داخلية نظيفة وان عجزت عن ذلك فلتسكت الى حين، حتى لا تضطر ان تسكت على الاحتلال والغزو والعدوان أو تسكت الى الأبد! لأن ذلك في الحالة الأولى وصمة عار عليها، وفي الحالة الثانية عار عليها وعلى الأوطان التي يمثلها، وفي ذلك تتساوى مع الرئيس الذي باعها وباع الوطن. منذ اليوم الأول للقصف على بغداد، كان يجب على المعارضة ان تشكل مجلساً وطنياً للانقاذ يحضر لمهمة "المصالحة الوطنية وتقصي الحقائق" خارج سقف قوات الاحتلال والعدوان، وليس بعد خراب البصرةوبغداد، ثم ان المصالحة الوطنية المطلوبة والمتوقعة من قبل الشعوب انما تتطلب اليوم اعمالاً ملموسة اكثر مما تطلب كلاماً معسولاً وسكوتاً على ما يجري من ذبح يومي للوحدة الوطنية باسم الدفاع عن هذه الطائفة مرة أو ذاك العرق مرة أخرى في وقت نرى ونشهد بأم اعيننا كيف يحترق الوطن تحت أقدام المحتلين ونحن لا نزال نمعن في صراعات المحاصصة الحزبية والفئوية أو الطائفية المقيتة. هذا فيما الطامعون بثرواتنا ومقدرات بلادنا لا يستحون ولا يتورعون عن القول علناً بأنه لم يبق امامهم سوى سياسة فرق تسد، والتقسيم. فهل نتحرر من "الثقافة" الصدامية سواء بالبكاء عليها أو لعنها ثم إعادة صوغها بثوب جديد؟! * كاتب متخصص بالشؤون الايرانية.