أحدث انتشار محال بيع الألبسة النسائية التابعة للشركات العالمية في احياء دمشق الراقية، والتي تروج احدث "الموضة"، تحولاً في اذواق غالبية الفتيات ما ادى الى تغير في بعض العادات، وتصنيف المحافظات على الزي القديم كمتخلفات منغلقات، والمنساقات وراء "الموضة" كمنفتحات ومتحضرات. وعلى رغم عدم وجود احصاءات دقيقة، وحتى تقريبية، لنسبة الفتيات اللواتي يقبلن على ارتداء الصرعات الغربية، من بنطال "الخصر المخفوض" و"الليكرا" و"البنتاكور" الى كنزات "البادي" وال"تي شرت"، يكفي النظر الى الاسواق المزدحمة بالمارة، او التجمعات الطالبية في ساحات الكليات، لمشاهدة مدى كثافة انتشار هذه الظاهرة، ونسبة التراجع في ارتداء الزي الشامي المتمثل في "التيور" و"المانطو" و"الحجاب". في الواقع، شكلت بيروت في السنوات الماضية، المصدر الوحيد للأزياء النسائية الحديثة، بالنسبة الى السوريات المصابات بهوس "الموضة" باعتبار انها كانت اكثر انفتاحاً من دمشق في هذا المجال. غير ان ازدياد الطلب على هذه الصرعات شجع تجّار الألبسة الجاهزة على افتتاح فروع لكبرى الشركات الاجنبية، من خلال الحصول على امتيازات او وكالات لعرض منتوجاتها، ووصل عددها في دمشق وحدها الى 15 فرعاً ابرزها "كيكرز" و"بينيتون" و"بيست ماونتن" و"إم جي". وتعد أسعار هذه الماركات باهظة قياساً الى متوسط دخل غالبية الأسر السورية، الذي لا يتعدى 100 دولار اميركي في الشهر. وعلى رغم ذلك، تشهد صالات البيع إقبالاً مع ان اسعار بعض القطع تتجاوز ربع مدخول الاسرة احياناً، ويبلغ ثمن بنطال "البنتاكور" نحو 20 دولاراً اميركياً. واعتبرت أم علاء 40 عاماً ان الانفتاح الاقتصادي الذي طرأ في السنوات الاخيرة، احدث تغييراً في ميول الجيل الجديد، وقالت ل"الحياة" بعد شرائها حاجات بناتها من احدى الصالات: "ان الظروف المعيشية صعبة، ولكن ليس باليد حيلة ولا مفر من الامتثال لرغبات الاولاد في شراء هذه الألبسة مهما ارتفعت اسعارها وانعكست سلباً على مستلزمات العائلة اليومية". ومع دخول الازياء الحديثة الى المحال التجارية، وانتشارها في شكل واسع بين الفتيات، بدأت تبرز معتقدات وقيم لا تتوافق مع العادات والتقاليد السائدة في المجتمع السوري وجديدها ان مواكبة الفتاة للصرعات الحديثة تعكس مدى اطّلاعها على الثقافات الاخرى ودرجة تطورها، وان معيار الأخلاق لا يحدده اللباس، وإنما جوهر الانسان ومضمونه. وقالت ميرفت يونس 20 عاماً التي تعتبرها زميلاتها الأكثر انفتاحاً على ثقافة الموضة، في كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق: "لكل انسان طبيعته الخاصة المرتبطة مباشرة بتكوين شخصيته، وثقته بنفسه، وقناعاته، ومزاجه، لا شيء يدعو الى الاحتجاج على هذه الفتاة او تلك لمجرد انها ارتدت الموديلات هذه طالما انها لا تضر الآخرين، ولا تخل بالآداب، وعلى الفرد ان يلبي ميوله وحاجاته ورغباته ولا يكون أسير أهواء الناس". ولكن الصورة تبدو مختلفة لدى بعض الفتيات بل متناقضة احياناً مع رأي ميرفت ونظرتها الى مقياس نضوج الفتاة وسلوكها، اذ تعتقد مريم الصباغ 22 سنة ان المظهر الخارجي لم يكن يوماً عائقاً لأي تحضر او تقدم وان انتشار ظاهرة ارتداء الفتيات احدث الموديلات خرق للعادات والتقاليد. وقالت: "ان ما نشاهده يتنافى مع العادات الاصيلة التي تربينا عليها. يمكن الفتاة ان ترتدي البنطال الضيق والكنزات القصيرة داخل منزلها او اثناء الحفلات والمناسبات التي يقتصر حضورها على النساء، ولكن من غير المعقول او المقبول ان تخرج بها الى الاسواق بذريعة التحضر والرقي، والانفتاح على العلم والثقافة". وفي مقابل الارباح الطائلة التي يجنيها اصحاب محال بيع الملابس الجاهزة، يعاني اصحاب متاجر الازياء الشامية التقليدية من تراجع في مبيعاتهم، بعدما اقتصر روادهم على بعض الأسر المحافظة من اهالي دمشق القديمة: الميدان، الشاغور، العمار وأبناء الريف الذين ما زالوا متمسكين بعاداتهم وتقاليدهم الشعبية. وقال خالد الخطيب صاحب اكبر متجر في سوق الحميدية لبيع الأزياء الدمشقية: "على رغم ان محالنا تقع في منطقة تعد الأكثر ازدحاماً في المدينة، غير ان عدد زبائننا يتقلص تدريجاً في السنوات الاخيرة، بعد تحول المواطنين الى الصرعات التي تصدرها لنا البلدان الاجنبية الى درجة ان نسبة مبيعاتنا تدنت اكثر من 75 في المئة، ما انعكس سلباً على ارباحنا التي باتت لا تكفي لدفع اجور العمال، ومصاريف المحل، والضرائب، لذلك قام الكثير من اصحاب المشاغل ومحال البيع بتغيير مهنتهم". وعزا عدد من الباحثين الاجتماعيين اتساع ظاهرة الانسياق وراء الموضة الحديثة الى الانفتاح الاقتصادي والإعلامي الذي شهدته البلاد في السنوات الخمس الاخيرة، والى حدوث خلل في التركيبة الاجتماعية للمجتمع الدمشق على خلفية موجات الهجرة. واعتبر الباحث الاجتماعي الدكتور طلال مصطفى ان عدم الاهتمام بثقافة البلاد وقيمها الاصيلة، والتركيز على ثقافة تستند الى الأيديولوجيا الاشتراكية لسنوات طويلة ادتا الى "اصابة الجيل الجديد بما يسمى "الخواء الفكري" تجاه الثقافات الاخرى، وحالا دون تعمق هذا الجيل بثقافة بلاده وقيمها ما اتاح المجال واسعاً لثقافة الموضة الغربية لتغزو بلادنا وتحقق هذه الاستجابة المفرطة". وأشار الى ان "ثقافة الموضة التي تتلقاها فتياتنا، وفتنت الكثير منهن، غير متأصلة في المجتمعات الغربية، وغالباً ما ينظر اليها على انها فرعية ومختلة ومعتلة. وأراد الباحث الاجتماعي وان في شكل غير مباشر الاشارة الى خطورة ما يحدث حينما استعار المقولة الآتية لغاندي: "اسمح لجميع رياح العالم ان تدخل منزلي ما عدا الرياح التي تريد ان تقتلعه".