كتب الأستاذ أمين هويدي "الحياة" في 30/11/2003 ان "الإسلام لا يتعارض مع الديموقراطية والتحديث ليس تغريباً ولا هو اتباع الثقافة الغربية، وان شعوب المنطقة تتعطش الى الديموقراطية وتحاول تحقيقها". وهذا ما يفسر انزعاج الكاتب من سياسة بوش الحمقاء الخرقاء. ويقدم الأستاذ أمين النصح لبوش حتى تصبح قضية الديموقراطية أسهل وأقل تعقيداً بعد أن تتخلص من الارث الثقيل للسياسة الأميركية، هذا الأرث الذي أصبح عبئاً على الديموقراطية ودعاتها بعد أن قام بوش - وفريقه من المحافظين الجدد - بما يجعل "تمثال الحرية يحني رأسه خجلاً" بحسب تعبير الأستاذ أمين. وتساءل: "ما هي الديموقراطية التي يقصدها الرئيس بوش؟ وهل هي ديموقراطية الأثرياء؟ هل هي ديموقراطية أشباه الأحزاب؟ هل هي ديموقراطية القوة والسيطرة والارهاب؟". وكنت أود لو أنه أفصح لنا عن الديموقراطية التي زعم ان الشعب العربي يتوق اليها بشدة؟ فقد تشابه البقر علينا ولم نعد ندري عن أي ديموقراطية يتحدثون وما المراد بها. فبحسب علمي فإن "الديموقراطية" هي مجرد شعار خادع يقف وراءه أصحاب الرساميل الضخمة من دول الغرب، فيستخدمونها مطية لتبرر جرائمهم البشعة التي يندى لها ليس فقط جبين التماثيل المحنطة، وانما جبين كل صاحب ضمير حي يعتز بكرامته الإنسانية، ويأبى العبودية لنفسه ولملته من بني البشر. ويؤلمني حقاً أن أسمع وأرى هذا وذاك من ضحايا الاستعمار الغربي القبيح، ممن "ضبعوا" بالدعاية المضللة للغرب. نجد مثلاً أن أهل الديموقراطية ودعاتها يسارعون الى الترويج لها كونها تقدم الحل الأمثل لتمكين الشعوب من تحقيق معنى السيادة الشعبية، عبر مشاركة أفراد الشعب بآليات الحكم. فيعبرون عن رغباتهم في كيفية تصريف، وتدبير شؤونهم عبر انتخاب من يمثلهم الى مجالس الحكم - من برلمان وما شابهه - وهذه المجالس المنتخبة ينتج عنها حكومة من "الشعب ومن أجل الشعب وباختيار الشعب". أي - بعبارة أخرى - يسارع دعاة الديموقراطية الى تقديم الاختزال المخل المجافي للحق والصواب حين يقدمون للناخب - أنا وأشباهي من عامة الشعب - أحد خيارين: أما ديكتاتورية صدام حسين وأشباهه. وأما الديموقراطية الغربية فلننظر عن كثب الى مقولة "الحكومة التمثيلية" هذه لنرى مدى صحة الزعم بأن الديموقراطية المنشودة هي أمل الجماهير والشعوب المستضعفة. يقول إلفين توفلر، في كتابه "الموجة الثالثة" ص 68 - 70، ان الحكومة التمثيلية - مع ما هدفت اليه من هدف نبيل من اعطاء الناخب مساهمة فعالة في انتخاب من يمثله للمشاركة في تقرير السياسات التي تؤثر في حياته ومصيره، ما هي إلا خدعة كبرى من أرباب المجتمع الصناعي الجديد الذي قام على أنقاض النظام الاقطاعي البائد. ويذهب في شرحه الى ان آلية الانتخابات المزعومة هي في حقيقتها آلية تمكن الرأسماليين - صناع القرار الحقيقيين في النظام الرأسمالي الذي يحرص على اخفاء جرائمه القبيحة وراء سواتر من الأقنعة المبهرجة التي ما هي إلا دس للسم في العسل - من التحكم المستمر في مصير المجتمع. وبهذا فإن الوهم الذي توجده آلية الانتخابات بمساواة كافة أفراد الشعب - حيث أن لكل مواطن صوتاً واحداً - فهذا كله يوجد وهم المساواة لدى أفراد الشعب من جهة، ويوجد الوهم ان الشعب حقيقة يملك مصيره بيده، وانه يملك تنصيب وعزل الحكام بحسب سخطه أو رضاه عنهم. ولذا فإن الحكم التمثيلي ليس سوى آلية تحكم سياسية موازية للمصنع - الذي يجبر الأفراد على الانتظام عبر السلك الصناعي بكل ما يتطلبه من روتين روبوتي، مثله شارلي شابلن في فيلمه المشهور "الأزمنة الحديثة". وان المرء اليوم لينظر باعجاب الى دقة فهم توفلر وصواب ما ذهب اليه. فها المجتمعات الغربية تكاد تجمع على سقوط الحكم التمثيلي، كما يعبر عن ذلك الناخبون الغربيون بعزوفهم عن المشاركة في الانتخابات، بعد أن ظهرت لهم سماجة هذه المزحة الثقيلة، فاضحين ومعرين حقيقة النظام الرأسمالي القائم لا على "صوت واحد لكل مواطن" وانما على "صوت واحد لكل دولار واحد". فأفراد الشعب المسحوق يرجعون الى بيوتهم صرعى "سباق الفئران" - في تعبيرهم - للتمكن من دفع الفواتير، وما جبلوا عليه من نمط حياتي استهلاكي أدى - من ضمن ما أدى اليه - الى تحطيم أواصر الأسرة، ونسف القيم الأخلاقية، وتفشي الجرائم العنيفة، وازدهار صناعة السجون في بلد تمثال الحرية هناك اليوم أكثر من مليوني مواطن أميركي قابعون وراء القضبان يتعلمون دروساً في الحرية، وتعجز الولاية الذهبية، كاليفورنيا، عن اللحاق بصناعة السجون المزدهرة. طبعاً، ساهم سقوط الاتحاد السوفياتي في اطلاق الجشع الرأسمالي من كل عقال، وأدى غياب سيف البديل الأحمر الشيوعي الى سفور الرأسماليين عن حقيقة أطماعهم اللامتناهية، فحطموا ما تبقى من قيود السيادة الوطنية للدول المغلوبة على أمرها ليبرروا، تحت عنوان "العولمة" وافرازاتها، نهبهم لثروات الشعوب، واستعباد أهلها تحت شعارات ودعايات هوليوود وماكدونالد الخداعة. والديموقراطية التي يصر كثير من النخب العربية على جعلها مرادفة للعملية الانتخابية وللحكم التمثيلي، وربما يشفع لهم في ذلك شدة سطوة النظم الدكتاتورية التي دفعتهم في حركة رد فعل لا واعٍ للاتجاه نحو ما ظنوه فردوس الديموقراطية نعم كالفراش الذي يندفع في شوق الى النار المحرقة، تعكس عقيدة وديناً شاملاً يتجاوز بكثير مسألة الانتخابات. ويقدح في نبل متنوري أوروبا انهم لم يجدوا حرجاً في غض النظر عن حروب الابادة الوحشية التي رافقت سعار الحملة الاستعمارية الامبريالية الواسعة، في القرن ال19، بل وفي تبريرها، كون هذه القرابين البشرية أي ابادة ملايين من السكان الأصليين، كما يذكر مايك ديفيس في كتابه "الهولوكست المنسي" ان 60 مليوناً من سكان المستعمرات قضوا نحبهم نتيجة الموجة الاستعمارية في ما بين 1870 - 1906 ثمناً ضرورياً لبناء المستقبل الزاهر للبشرية كما ذهب داروين حين عقب على المجزرة ضد سكان تسمانيا، على يد الجيش الانكليزي، بأن المستقبل سوف يثبت احقية الرجل الأبيض في القضاء على العناصر الهمجية المنحطة، بحسب نظريته في "البقاء للأصلح". ولذا كان من المنطقي أن يجرب هاري ترومان بعض ألعابه ضد الشعب الأصفر، بإلقائه قنبلتي هيروشيما وناغازاكي، متفوقاً بذلك على هتلر الذي لم يتح له تنفيذ "الحل الأخير" القاضي بتفوق العرق الجرماني على سواه، كما كان من المنطقي تماماً تجربة أسلحة النابالم في فيتنام، والقنابل العنقودية في قانا، واهداء رجل السلام شارون مائة طائرة من اف 16، وان يدفع 500000 من أطفال العراق الثمن لتحقق مادلين أولبرايت اهداف رأسماليي "وول ستريت". من هنا نرى ان الديموقراطية المزعومة ما هي الا افرازاً نتناً لدين العالمانية الذي قام على انقاض دين الكنيسة الذي خرج عن خطه الأصيل الذي جاء به المسيح عليه السلام، حين أصر رجالات الكنيسة على اضفاء الصفة الالهية على اجتهاداتهم البشرية الخاطئة. اخلص الى ان هناك فرقاً شاسعاً بين أن يكون الإنسان عبداً لسواه من البشر، مهما حسنت نواياهم، أو يكون عبداً لخالق السموات والأرض، بحسب وحيه الثابت المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فاختم بدعوة، الأستاذ أمين وأهل الديموقراطية، ان يعيدوا قراءة الهدي الرباني الذي بلغنا اياه النبي المصطفى حتى لا تختلط علينا حقائق الأمور. فقد جاءنا من ربنا ما يغنينا عن تخرصات البشر وتناقضاتهم. بيروت - عثمان محمد بخاش [email protected]