الدراسات المقارنة تؤكد التشابه الكبير بين الأديان، خصوصاً الأديان السماوية الثلاثة، وهناك الكثير من المبادئ الإنسانية في هذه الأديان كالعدل والرحمة والمحبة والسلام تكاد تشبه ما ورد في فلسفة إيزيس ونوت، وهناك نصوص في كتاب التوراة تشبه أناشيد أخناتون ونفرتيتي، وصورة العذراء مريم تحمل المسيح تكاد تكون نسخة مكررة من صورة إيزيس تحمل طفلها حورس، وقد تحول الثالوث المقدس بعد نشوء النظام الطبقي الأبوي الى الأب والإبن والروح القدس الأم المختفية وراء حجاب بعد أن كان في الأصل: الأم والإبنة والروح القدس الأب المجهول. ... النبي موسى ... أمه هي التي أنقذته من الموت على يد فرعون وهي التي أرضعته وعلمته وجعلته نبي اليهود، والمسيح ... كانت أمه السيدة مريم هي التي انقذته من الموت وهربت به الى مصر ...، ونبي المسلمين "محمد" ص ماتت أمه وهو طفل، لكنها توقعت نبوته وهو في رحمها، وتزوج في العشرين من عمره من السيدة خديجة التي كانت تكبره بعشرين عاماً، فأصبحت له بديل الأم ربته وعلمته وأنفقت عليه من مالها وعلمها، حتى نزل عليه الوحي في غار حراء فأسرع إليها ينتفض قائلاً: "دثروني دثروني"، فأخذته في حضنها كالأم وطمأنته، وكانت أول من ناداه يا رسول الله. إلا أن مساهمة الأم ودورها في حياة الأنبياء اندثرا في التاريخ الأبوي الطبقي، وأصبح "الأب" هو الأصل وهو الأساس. .... لقد استطاع ... تقدم تكنولوجي كبير في وسائل الإتصال والإعلام أن يجعل هذا العالم بمثابة القرية الواحدة، وأصبحت الأحداث في أي مكان في العالم مقروءة ومرئية في اللحظة نفسها فوق الشاشة الصغيرة في قرية مصرية على ضفاف النيل مثل قرية أخرى على ضفاف نهر المسيسيبي وغيرهما من الأنهار والقرى والمدن في العالم شرقاً وغرباً. إلا أن هذا التقدم العلمي التكنولوجي لم يحقق السلام ولا العدل ولا الحرية ولا الحب، بل أصبح في خدمة الآلة العسكرية التي تخدم مصالح النظام الرأسمالي والأبوي الذي لا يهدف إلا إلى الربح على حساب أرواح الآلاف والملايين من البشر. وشهدتُ في حياتي منذ ولدت في بداية الثلاثينات من القرن الماضي عدداً من الحروب الاستعمارية، حرب 1948 لإنشاء دولة اسرائيل وقتل وتشريد الشعب الفلسطيني، حرب 1951 ضد الاحتلال البريطاني في قناة السويس، وحرب 1956 حين غزت مصرَ الجيوشُ البريطانية والفرنسية والإسرائيلية ومن خلفها الولاياتالمتحدة، ثم حرب 1973 حيث كاد الجيش المصري أن يسترد الأرض المسلوبة في سيناء لولا التدخل الأميركي لتدعيم اسرائيل، ثم حرب الخليج 1991 ...، وكم قتل من الشباب المصري والعربي في هذه الحروب. ونحن نشهد اليوم ماذا يفعله النظام العالمي الأميركي لإبادة الشعب الفلسطيني، وماذا فعل في أفغانستان منذ الحرب المقدسة ضد الإلحاد في الثمانينات من القرن الماضي، كيف لجأ إلى زراعة الأفيون والإتجار به لتمويل العمليات العسكرية وزيادة الأرباح الرأسمالية، إلى حد أن أصبح إنتاج الأفيون في أفغانستان يمثل ما يزيد على 75 في المئة من أفيون العالم، ويشجع هذا النظام على نشر البغاء والمخدرات بين الشباب والشابات وتحطيم حياتهم وعقولهم، ليس في أفغانستان وحدها بل في العالم كله. ونقل الاستعمار الأميركي الجديد من الاستعمار البريطاني القديم هذه الوسائل البربرية غير الإنسانية للإبادة الجماعية لأجساد البشر وعقولهم وأرواحهم. ألم يلجأ الاستعمار البريطاني إلى حرب الأفيون في الصين؟ ألم يلعب بورقة الدين لخلق الصراعات وتمزيق وحدة الشعوب من أجل السيطرة والاستغلال؟ أليس مبدأ "فرّق تسد" هو السائد في الماضي والحاضر عالمياً ومحلياً؟ ألم تلجأ الحكومات المحلية بما فيها الحكومات العربية لفرض التفرقة والانقسامات بين الشعب الواحد من أجل السيطرة والاستغلال؟ وهل تختلف الحكومات المحلية أو العربية عن غيرها من الحكومات؟ أليست هي حضارة واحدة غير متحضرة هي التي تحكم العالم شرقاً وغرباً؟ آن الأوان لإدراك أن الغرب ليس كله صليبياً مسيحياً يهودياً، وأن الشرق ليس كله إسلامياً إرهابياً عاجزاً عن التحضر، هذه التقسيمة "غرب/شرق" أصبحت مضللة مثل غيرها من التقسيمات. تتصاعد التظاهرات الشعبية في عواصم العالم غرباً وشرقاً منذ التظاهرات في مدينة سياتل في تشرين الثاني نوفمبر 1999، وتتميز هذه التظاهرات بقدرتها على تجاوز التقسيمات التي فرضت على البشر لتمزيق وحدتهم الإنسانية تحت اسم الدين أو الجنس أو الجنسية أو العرق أو اللون أو الطبقة أو المهنة أو الشهادة العلمية أو غيرها. لقد ذابت هذه الفروق المصنوعة بين الناس من أجل مقاومة الظلم الرأسمالي الأبوي الذي تجسّد في قوانين منظمة التجارة الدولية والبنك الدولي وغيرهما من المؤسسات المسيطرة على شعوب العالم غرباً وشرقاً. هذه الحركات الشعبية الجديدة في طريقها إلى النمو واكتساب مزيد من القوة والوعي والتنظيم كلما تكشفت مخاطر هذه الحضارة الرأسمالية الأبوية، واكتسبت هذه الحركات الشعبية اسماً جديداً هو "العولمة من أسفل" أو العولمة من قاعدة الهرم، لمقاومة العولمة الرأسمالية الاستعمارية القابعة فوق قمة الهرم، والتي تملك الأسلحة النووية والشركات التجارية الكبرى تملكها قلة قليلة من الأفراد يمثلون الطبقات الحاكمة غرباً وشرقاً .... ولحماية هذه القلة الثرية ينفق العالم سنوياً 700 بليون دولار على الحرب والتسليح. وهي تساوي أربعين ضعف ما ينفق على الصحة أو التعليم أو توفير الماء النقي. تعتمد الفلسفة الطبقية الأبوية منذ العبودية على ما يسمى المساعدة أو المعونة للفقراء والمعدمين واليتامى والمساكين، تحت اسم الرحمة أو الشفقة، وهي كلمات تضليلية توحي بالإنسانية وهي في حقيقتها كلمات تزيد من إذلال الفقراء فاليد العليا خير من اليد السفلى، وهي كلمات مضللة أيضاً لأنها توحي للفقراء أنهم يعيشون من فضل الأثرياء ومن كرمهم ومن خيرهم أو على حسابهم، في حين أن العكس هو الصحيح، ذلك أن ثراء الأغنياء ليس له مصدر إلا العمل المنتج الذي يقوم به النساء والرجال الفقراء. وتقوم النساء في العالم بالإنتاج الزراعي والصناعي والخدمات بما يزيد على 65 في المئة من العمل المنتج، مع ذلك لا يحصلن إلا على 5 في المئة فقط من دخل العالم، مما يفرض عليهن أن يعشن عالة على الرجال داخل الأسرة، في حين أن الحقيقة غير ذلك، لأن إنتاج النساء داخل البيوت وخارجها أكثر من إنتاج الرجال، لكن غالب الأعمال النسائية غير مدفوع الأجر. وبدأت الحركات النسائية في مختلف البلاد غرباً وشرقاً تكشف هذه الحقيقة، كما بدأ فقراء العالم في البلاد التي أطلق عليها البلاد الفقيرة في ما سمي العالم الثالث، تكشف عن زيف الحقائق التي تروجها الحكومات الرأسمالية الاستعمارية، على رأسها أن فقراء العالم الثالث يعيشون على معونات العالم الذي أطلق عليه العالم الأول، وكأنما العالم الثالث يعيش عالة على العالم الأول كما تعيش المرأة عالة على الرجل. لكن الحقيقة غير ذلك، وهي أن موارد العالم الثالث نهبت بواسطة الاستعمارين القديم والجديد، وأن هذه المعونة ليست إلا جزءاً يسيراً من الأموال المنهوبة، اضافة إلى أن جزءاً كبيراً من هذه المعونة أو القروض يعود بالفائدة على القوى المسيطرة دولياً ومحلياً، ولا يصل للمعدمين المساكين إلا الفتات. لهذا بدأت الشعوب في العالم الثالث أو ما سمي الجنوب ترفض هذه المعونات والقروض، فهي تستنزف الكرامة والموارد المادية تحت إسم تسديد فوائد الديون، وارتفع شعار "عدالة التجارة وليس المعونة Fair trade and not aid، وتزايدت التظاهرات الشعبية لإلغاء ديون العالم الثالث، وفي التظاهرات النسائية العالمية في 8 آذار مارس عام 2000 ارتفع شعار يقول: كيف نقارن ديون العالم الثالث بخمسة قرون من النهب الاستعماري وقتل الشعوب في الحروب؟ وأصبحت تظاهرات النساء المتكررة كل عام في اليوم العالمي للمرأة 8 اذار - مارس من أهم التظاهرات الشعبية، يشارك فيها النساء من مختلف بلاد العالم، وهي جزء من الحركة الشعبية العالمية التي تضرب في جذور النظام الرأسمالي الأبوي في الغرب والشرق، وتكشف عن الترابط الوثيق بين القهر الطبقي والجنسي منذ التاريخ العبودي القديم وحتى اليوم. ويلعب الإعلام الاستعماري العالمي دوراً في تضخيم حجم المعونات الى الشعوب الفقيرة تحت اسم المساعدات الإنسانية Humanitarian aid، من أجل التمويه على ما يحدث من قتل وتدمير لهذه الشعوب ذاتها. وتقود القوى الرأسمالية الأبوية حملة عالمية ومحلية تدعو إلى جمع التبرعات أو المنح المالية أو الدراسية للشعب الأفغاني، وهي حملة تمويهية تغطي على جرائم الحرب، وتعطي واجهة إنسانية رحيمة لنظام بالغ القسوة والظلم، وقد رفض بعض القطاعات الشعبية الواعية في أفغانستان هذه المعونات، وارتفعت أصوات بعض الرجال والنساء الأفغانيات يقولون: "لا نريد المعونات التي لا تفعل شيئاً سوى تصويرنا على أننا شعب من الشحاذين المتخلفين، وكل ما نريده هو أن يرحل عنا الاحتلال الأميركي العسكري الاقتصادي وأعوانه ممن يسمون "التحالف الشمالي"، أليس التحالف الشمالي جزءاً من نظام الطالبان الذي يتاجر بالدين؟ وتقتل النساء تحت اسم الشرف والأخلاق؟ لقد سمعت بأذني عبر أسلاك الهاتف هذه الأصوات النسائية الواعية في أفغانستان، إلا أن الأصوات الأخرى المسيطرة على الإعلام العالمي والعربي تتجاهل هذه الأصوات أو تفرض عليها الصمت. وأصبح الصوت مع الصورة فوق الشاشة الصغيرة أكثر انتشاراً في العالم من الكلمة المطبوعة، وأكثر تأثيراً، خصوصاً في بلادنا حيث ترتفع نسبة من لا يعرفون القراءة، وتتنافس الدول الكبرى والصغرى على إنشاء القنوات التلفزيونية والفضائية، تتغلب في هذا المضمار الدولة الأكثر ثراء وقوة وهي الولاياتالمتحدة الأميركية، وأصبحت قوة الإعلام الأميركي الأوروبي تساند قوة السلاح، وأصبح تدمير العقل لا يقل خطورة عن تدمير الجسد. وتشتد المقاومة من أجل الحياة ضد آلة الحرب والقتل، كما تزداد الرغبة في المعرفة والفهم ضد محاولات التضليل والتمويه. ونمت بوادر فلسفة إنسانية جديدة نابعة من الحركات التحريرية ضد الحضارة الرأسمالية الأبوية غرباً وشرقاً، وهي فلسفة بسيطة واضحة متسقة مع المنطق الطبيعي السليم، أساسها البديهيات التي طُمست منذ العبودية، على رأسها أن الحق فوق القوة، والشعب فوق الحكومة، والبشر في الأصل والطبيعة متساوون في الحقوق الواجبات، لا فرق بين رجل وامرأة أو أبيض وأسود أو حاكم ومحكوم أو مالك ومملوك أو غيرها من الثنائيات وأشكال التفرقة على أساس الجنس أو اللون أو العرق أو الجنسية أو الطبقة أو الدين أو العقيدة أو اللغة أو المهنة أو غيرها. سافرتُ إلى الولاياتالمتحدة قبل أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 بأسبوع واحد وعشت فيها ثلاثة شهور أقوم بالتدريس في جامعة مونت كلير، والتي لا يفصلها عن برجي مركز التجارة العالمية في نيويورك إلا نهر هدسون، أو ساعة واحدة بالسيارة، وهكذا عايشت الأحداث عن قرب، وتجولت أيضاً في عدد من الجامعات لإلقاء المحاضرات أو المشاركة في التظاهرات الطالبية الجامعية على الساحل الأطلسي في بوسطنونيويورك. إلى الساحل الباسيفيكي في أوكلاند وسان فرانسيسكو، وفي جامعة مونت كلير تكونت لجنة ضد الحرب في أفغانستان تضم عدداً من الطلاب والطالبات والأساتذة والأستاذات، وكنت واحدة من هؤلاء، وقد منحني هذا النشاط السياسي داخل الجامعة كثيراً من الأمل في المستقبل على رغم خطورة الأحداث وتزايد الصراع العسكري في أفغانستان على المصالح النفطية في منطقة بحر قزوين وآسيا الوسطى والبلاد العربية من العراق إلى الصومال. وقد أدت هذه الحركة السياسية التحريرية المعادية للحرب والتي يشارك فيها النساء والرجال والشباب من مختلف البلاد والجنسيات إلى بوادر هذه الفلسفة الإنسانية المناهضة للرأسمالية الأبوية، وهي فلسفة جديدة وقديمة قدم نشوء "الضمير الإنساني" ...، وهو الصوت العميق داخلنا الذي يحاسبنا ويرشدنا إلى العدل والحرية والحب والرحمة والجمال. أدت الفلسفة العبودية غير الانسانية على مدى قرون إلى إضعاف الضمير الإنساني الفردي والجماعي، من طريق تحويل الصراع ضد الظلم الخارجي السياسي، والاقتصادي إلى الصراع داخل الإنسان بين العقل والجسد، أو بين الجسد والروح، وأصبحت الروح تعني الفضيلة ويرمز الى الإله الذكر، والجسد يعني الرذيلة ويرمز الى الأنثى الآثمة. وسقطت الفلسفة السائدة المكتوبة في العصور العبودية صريعة هذا الصراع اللانهائي بين الروح والعقل والجسد، أصبحت الفلسفة غارقة في المجردات غامضة، أشبه بالسفسطة الفارغة داخل الغرف المغلقة بعيداً من الحياة في البيت والشارع والتظاهرات الشعبية. بعبارة أخرى انفصلت الفلسفة الرسمية السائدة منذ أرسطو وحتى اليوم عن "رجل الشارع"، أو جماهير الشعب في حركتهم اليومية الحية ونشاطهم في نواحي الحياة خاصة النواحي السياسية والثقافية. وتنطوي كلمة "رجل الشارع" على القيم السائدة التي تجعل النشاط السياسي خارج البيت أو في الشارع السياسي هو من نصيب الرجال فقط، لأن كلمة "امرأة الشارع" تعني "المومس" أو "البغي"، وليس المرأة النشطة سياسياً أو ثقافياً خارج بيتها، كأنما المرأة لا تخرج إلى الشارع إلا لممارسة الجنس، وهو مفهوم قاصر على النساء الفقيرات أو الجواري أو الإماء اللائي كن يخرجن إلى العمل لتوفير الخبز والطعام لأطفالهن، ويفرض عليهن المجتمع الطبقي الأبوي المهن السفلى ومنها الخدمة في البيوت وتلبية حاجات الرجال الجنسية في بيوت البغاء. كان العمل خارج البيت مهيناً للمرأة، فهو لا يعني أنها فقيرة وبلا رجل يوفر لها الحماية والمأوى، لكن حركة النساء التحريرية في الغرب والشرق غيّرت هذا المفهوم، وأصبح عمل المرأة خارج البيت قيمة إنسانية لا تقل كثيراً عن قيمة عمل الرجل، كما خرجت النساء إلى الشوارع في التظاهرات الشعبية والنسائية، ولم يعد الشارع مكان المومسات فحسب. نزلت المرأة إلى الشارع من دون أن تفقد احترامها، وبدأت الفلسفة أيضاً تنزل إلى الشارع من دون أن تفقد احترامها. لم يعد التفكير مهنة تمارسها قلة محظوظة من المفكرين أو الفلاسفة، وبدأت القيم الطبقية الأبوية تتساقط مع مشاركة الجماهير من النساء والرجال في الأنشطة السياسية والثقافية، وبدأت الفواصل بين الرجل والمرأة تتلاشى، ومعها تتلاشى الفواصل بين الجسد والروح وغيرها من الثنائيات الموروثة منذ العبودية. وهناك محاولات لقمع هذه الحركات السياسية والفكرية الجديدة، فالأجهزة القمعية البوليسية لا تقل شراسة وعنفاً عن الأجهزة العسكرية في العالم غرباً وشرقاً، ربما تختلف درجة القمع أو نوعه من بلد إلى بلد، أو يكون مستتراً مثل القمع النفسي الذي يمارس على النساء الثائرات، ويقود المرأة منهن إلى الانتحار أو المستشفى النفسي وليس السجن. وكشفت الحركات النسائية والشعبية الجديدة عن زيف القيم السياسية والأخلاقية للنظام الرأسمالي الأبوي، على رأسها ما سمي بالديموقراطية الليبرالية، التي صورها المفكرون في الغرب من أمثال فرانسيس فوكوياما على أنها أفضل الأساليب لتنظيم المجتمعات الإنسانية، وأنها مستقبل البشرية، لأنها تتسق مع الرأسمالية واقتصاديات السوق الحرة، وأنها تقود العالم إلى الحرية والعدالة والسلام والحب. واتضح خلال القرن العشرين أن هذه الديموقراطية الليبرالية لا تقود العالم إلا إلى الحروب والعنف والأرهاب، وأنها لا تستند على المشاركة الفعلية الشعبية للنساء والرجال الفقراء، بل على التصويت في انتخابات شكلية خاضعة لأصحاب الأموال والقوى الطبقية الذكورية في المجتمع الرأسمالي. وثبت لنا خصوصاً بعد أحداث 11 أيلول وحرب النفط والأفيون الدائرة في أفغانستان أن الحضارة الغربية التي أعطت نفسها اسم الديموقراطية الليبرالية هي في جوهرها حضارة طبقية أبوية، ولن تؤدي إلى السلام القائم على العدل ولا الى الحريات السياسية والاقتصادية لأغلب قطاعات الشعب، ولا إلى مشاركة الشعب الفعلية في الانتخابات. وعشتُ الشهور الثلاثة التي تلت أحداث 11 أيلول في الولاياتالمتحدة وشهدت كيف تراجعت هذه الديموقراطية الليبرالية لتفرض القيود على الشعب الأميركي تحت اسم الأمن، كيف اجتمع جورج بوش بالمسؤولين الكبار في أجهزة الإعلام وطلب منهم فرض الرقابة على ما ينشر ويذاع على الشعب الأميركي، كيف تنكرت الحضارة الأميركية للمبادئ الديموقراطية الليبرالية التي تشدقت بها منذ القرن قبل الماضي، كيف شرعت الحكومة الأميركية الاعتقال من دون دليل لمجرد وجود شبهات، كيف زجت في السجون أبرياء من الرجال والنساء من دون تحقيق، وتقديمهم للمحاكمة السرية أمام المحكمة العسكرية من دون أن يكون لهم حق الدفاع القانوني، كيف لجأت إلى تكنولوجيا التعذيب الجسمي والعقلي والنفسي للمسجونين والمسجونات للحصول على المعلومات، وهذا يؤكد أن هذه الديموقراطية الليبرالية هشة ومزيفة ولا تختلف كثيراً عن الفاشية ونظم الحكم الشمولية والدكتاتورية العربية وغيرها، ولا غرابة في ذلك فهي قائمة على الظلم والازدواجية، أساسها القيم الرأسمالية الطبقية الأبوية الموروثة عن العبودية. كشفت الحركات النسائية والشعبية الجديدة في الغرب والشرق أن العالم في حاجة إلى فلسفة إنسانية تقضي على القيم الطبقية الأبوية، وتبني قيماً إنسانية جديدة قائمة على العدل والسلام والحب، وإلغاء جميع الثنائيات والتقسيمات بين البشر. * كاتبة مصرية، والنص هو الورقة التي قدمتها في افتتاح المؤتمر الدولي السادس لجمعية تضامن المرأة العربية - القاهرة 3-5/1/2002.