"ويكمن مفهوم سبنسر في التطور في جذور آرائه الاجتماعية، فيما يسمى النظرية العضوية في المجتمع التي حاولت - بطريقة غير علمية على الاطلاق - تحليل الحياة الاجتماعية على أسس بيولوجية. وكان سبنسر معارضاً للاشتراكية، هو الذي كان يتصور التطور بطريقة آلية، على أنه عملية اعادة توزيع للمادة والحركة في العالم، ومن ثم فقد محا الفروق بين المجالات المختلفة للعالم المادي". "ينتمي سبنسر الى تلك الفئة الصغيرة من المعلمين المبدعين حقاً. إذ ما من أحد في عصرنا استطاع أن ينهض حقاً بمشروع مثل ضخامة مشروعه، وربما لأنه كان الوحيد القادر على تصور هذا البناء الضخم الذي سيظل شاهداً على المعارف التي اكتسبت في زماننا هذا". أولى هاتين الفقرتين جاءت في موسوعة فلسفية وضعها علماء ومفكرون سوفيات، أما الفقرة الثانية فدبجها جون ستيورات ميل، أحد كبار فلاسفة العصور الحديثة. والفقرتان، على تناقضهما، تتناولان واحداً من كبار الفلاسفة الانكليز في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: هربرت سبنسر، الذي يعرّف عادة بأنه فيلسوف وعالم اجتماع ونفس انكليزي وبأنه واحد من مؤسسي المذهب الوضعي. والحال ان تقييم سبنسر، فلسفياً، كان سجالياً على الدوام، لأن الرجل في الجزء الأكبر من مؤلفاته كان فريد نوعه في مشروع فكري كان من الضخامة الى درجة مدهشة، ولم يتمكن من أن يجاريه فيه أي مفكر من أبناء زمنه. وهذا المشروع هو الذي يحمل اسم "المبادئ" ويتألف من عدد من المجلدات حول "المبادئ الأولية" و"مبادئ علم النفس" و"مبادئ البيولوجيا" و"مبادئ علم الاجتماع". واللافت حقاً هو المدى الزمني الذي نشرت فيه أجزاء هذا المشروع، إذ تعرف ان "مبادئ علم النفس" قد صدر في العام 1855، بينما صدر الجزء الأخير من "مبادئ علم الاجتماع" في العام 1896، ليكون "بمثابة خلاصة لنظريته وثمرة ستة وثلاثين عاماً من العمل المتواصل". ولا بد أن نذكر هنا أن سبنسر، الذي كان حين بدأ في رسم هذا المشروع وتحقيقه قد تخلى عن العديد من المهن التي كان يعتاش منها من قبل، مثل هندسة السكك الحديدية، والصحافة ترأس صحيفة "الايكونومست" لفترة، اضطر الى الانفاق بنفسه على نشر أجزاء مشروعه المتتالية. وعلى الأقل منذ الجزء الأول لكتاب "المبادئ الأولية" 1860... واستند في هذا الى اكتتاب ساهم فيه العديد من أصدقائه وزملائه ومن بينهم جون ستيوارت ميل الذي كان يكنّ له محبة خاصة. على رغم ان "مبادئ علم النفس" صدر خمس سنوات قبل بدء تحقيق مشروع "المبادئ" كما اكتمل أخيراً، فإن العديد من المؤرخين يعتبرونه جزءاً من المشروع. ومع هذا فإن التأريخ للمشروع يبدأ مع العام 1859 حين خطط له سبنسر للمرة الأولى، راسماً خطوط مذهبه الذي سيظل يعمل عليه طوال العقود التالية. ومن هنا فإن "المبادئ الأولية" - أو "المبادئ الأولى" في ترجمة أخرى - يبقى العمل الأكبر والتأسيسي الذي وضعه سبنسر، وهو في دوره جاء في عدة أجزاء راح سبنسر يصدرها تباعاً بمعدل جزء كل ثلاثة أشهر حتى اكتملت الأجزاء جميعاً في صيف العام 1862، لينصرف سبنسر بعد ذلك الى وضع الأجزاء التالية من المشروع ككل. وكان ذلك بعدما حقق له كتابه الأول، في أجزائه العديدة، شهرة كبيرة وترجم الى العديد من اللغات، وتعرف عليه - خاصة - القراء الأميركيين، بفضل منحة تبرع بها له واحد من كبار معجبيه وهو الثري ليفنغستون يومانز. والحال أن سبنسر، بدءاً من النصف الأول من الستينات لم يعد في حاجة الى أي عون، وصار في امكانه أن ينصرف الى العمل الفكري... وهكذا راحت تصدر كتبه التالية، سواء أكانت داخل اطار المشروع "المبادئ" أو خارجه - وتلقى رواجاً. والحقيقة ان غرابة الأمر كله تكمن ها هنا، إذ كيف يمكن أن نفسر رواج مذهب يقوم أساساً على مفهوم "لا أدري" في زمن كان يتسم بالعقلانية المطلقة، سواء أكان الفكر المعبر عنه مادياً أو كان مثالياً؟ سؤال من الصعب الإجابة عليه، إلا إذا أخذنا في حسباننا ما يستنتجه مؤرخ الفلسفة و.ك.رايت في كتابه "تاريخ الفلسفة الحديثة" - الذي صدرت ترجمته العربية الممتازة عن "المجلس الأعلى للثقافة" في مصر، ضمن المشروع القومي للترجمة الذي يشرف عليه الدكتور جابر عصفور -. حيث ان رايت يستنتج بأن سبنسر كان، على رغم كل شيء "فيلسوف تفاؤل الى حد ما. فهو يتطلع الى عهد من السلام الشامل والجد والمثابرة، يصبح فيه كل واجب متعة، وتتحد فيه مطالب الأنانية والغيرية" انه "يتطلع الى تقدم لعصور طويلة سوف تتأتى تتضمنها عمليات التطور". هذه الفكرة الأساسية هي، بحسب رايت إذاً، الفكرة التي تهيمن على فكر سبنسر منذ "المبادئ الأولية" حيث يبدو لنا ان سبنسر يميز في هذه المبادئ بين نوعين، أولهما ايجابي والثاني سلبي: ففي الأول يبرهن لنا المؤلف على "محدودية كل معرفة انسانية واستحالة الوصول الى معرفة مطلقة. بيد اننا لكي نتطلع الى كل معرفة بوصفها - على هذا النحو - معرفة نسبية، يتعين علينا الاقرار بوجود مطلق ما. وهذا الاقرار هو الذي - بحسب سبنسر - يوصلنا الى "المصالحة بين العلم والدين" علماً بأن هذه المصالحة المنطلقة من منظومة "لا ادرية" ما، تشكل عصب التفاؤل الذي يسم أعمال سبنسر، إذ تبدو ضرورية للإنسان ولتوازن هذا الإنسان وسعادته، حيث اننا في مثل هذه الوضعية نكون قد "امتلكنا وعياً غير محدد بحقيقة مطلقة، تنتج لدينا بفعل الحاح شيء ما في داخلنا يظل حياً على الدوام على رغم تغير العلاقات والظروف"، مقابل امتلاكنا "وعياً محدداً بحقيقة نسبية، لا يتم الاحساس بنسبيتها هذه إلا في العلاقة مع مطلق ما". وهنا إذ يحلل سبنسر ما يسميه ب"الحقائق الأولية"، أي الحقائق العامة ولا سيما مسلّمات الفيزياء، يتساءل عما إذا كانت هذه الحقائق المكتسبة تمثل ذلك "التوليف الشامل الذي تبحث عنه الفلسفة عادة". لكنه لا يعتم أن يجيب سلباً، وذلك بالتحديد لأن القواعد التي يتم الانطلاق منها لا تنطبق إلا على ظواهر ملموسة، وليست في حقيقتها سوى حقائق غير قابلة للتحليل، وغير قادرة بالتالي على ايصالنا الى أي توليف فكري نهائي". ومن هنا يكون علينا أن نبحث عن صيغة تعبر عما هو مشترك بين كل الظواهر الجزئية المرتبطة بالسيرورة الكونية واضعين نصب أعيننا كل الظواهر الملموسة وعنصر تاريخها المشترك. ولكن إذ نعرف ان كل هذه الظواهر مطبوعة بعنصري المادة والحركة، فمن الواضح أننا نجد أنفسنا في النهاية أمام سيرورة تركّب وتفتّت متواصلة، يمكننا أن نفهم كيف أن سبنسر يطلع من هذا كله بنظريته الوضعية القائمة على مفهوم "تطوّري" يستند الى "لا ادرية" علمية صارمة. والحال ان هذا المفهوم هو الذي وفر لسبنسر الأساس لنظريته ولبحثه الدائم في قضية المبادئ على اختلاف مشاربها. وهربرت سبنسر 1820 - 1903 الذي عاش حياته كلها في اعتلال صحي وأوضاع مادية بائسة، اعتبر لاحقاً من أكبر فلاسفة الانكليز في زمنه... ومع هذا كان منذ صباه قد آل على نفسه ألا يخوض أية دراسة جامعية وألا يقرأ من كتب الفلاسفة ما يمكن أن يؤثر فيه. كما آل على نفسه أن يظل مستقلاً، عيشاً وفكرياً... ولقد حقق له هذا الى حد كبير، ويعتبر على الدوام حالة استثنائية في تاريخ الفكر الانغلو - ساكسوني.