سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    مترو الرياض    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجابري: الآن .. ألحظ تسامحاً «نسبياً»... إلا أن «منسوب» التعصب لم يتراجع!
نشر في الحياة يوم 12 - 05 - 2009

أسهم الدكتور محمد عابد الجابري عبر ما يزيد على 30 مؤلفاً في صناعة مشروع فكري عربي، إذ إنه يجمع بين قدرة الأكاديمي وممارسة العامل المجرّب، كما يؤكد أهمية النظرة الموضوعية والتاريخية في التحليل. ويطالب العرب والمسلمين - بقوة - بإعادة قراءة تجاربهم في الحكم والاقتصاد والاجتماع والثقافة من داخلها، مع الاستفادة من المناهج الغربية وتوظيفها في معالجة إشكالاتنا الفكرية والاجتماعية والثقافية، ويظل الجابري متمسكاً بالحوار، كونه مدخلاً إلى تشكُّل الوعي وامتلاك المصير في النظر إلى قضايانا المعاصرة.
بدأ مشروعه من قراءة التاريخ وتأمل كثيراً في وقائع وأحداث مؤلمة مرّت بها الأمة وتكررت عبر قرون من دون الإفادة من الأخطاء السابقة، فدعا إلى نقد العقل العربي وإعمال الفكر لمواجهة البؤس في التفكير والحياة وتجاوز الواقع بآلامه، تشعر بأنه يفكر وهو يتكلم ويبحث عن مقاربات تؤلف مشروع الأسئلة لا توفير الإجابات، وصفه بعضهم بالجريء، وصاحب القضية، والعالم المتواضع، والمفكِّر المستنير وهنا نص حوارنا معه.
متى بدأتْ علاقة الإنسان بالفكر والفلسفة؟
- كل إنسان مفكر، وهناك حدود ما بين العامة والخاصة، والعلماء والفلاسفة والمتصوفة في ثقافتنا يميزون بين الخاصة وخاصة الخاصة، وهذا في جميع الثقافات، والعلاقة بالفكر تدرجية، ولا أحد يستطيع أن يصل إلى مرحلة متقدمة من دون المرور بمراحل أولية. ولا فرق في نظري بين الفلسفة وبين أي تخصص علمي آخر، فالفقيه والمحدث والداعية والطبيب والمهندس كل منهم له حقل معرفي يتقنه ويتحرك من خلاله.
إلا أن الأفراد لهم قدرات في مقاربة العلوم بعضها ببعض، والفلسفة أم العلوم وأصلها «مجازاً»، والسؤال الفلسفي الأول، اعتمد رد الكون إلى مبدأ واحد، وهذا جاء في التوراة، والفيلسوف عالم ومفكر ومنفصل عن الاعتقادات الشعبية والمثيولوجيا والأساطير، ليستقل بنفسه، وسقراط أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض - كما يقال -، لأنه لم يعد يطرح أسئلة عن «الماورائيات» وأسّس مفهوماً جديداً من خلال مبدأ «اعرف نفسك بنفسك».
ما الذي أغراك بالقرب من هذا العالَم الفلسفي؟
- هناك قدر، كان لي ميول رياضية مبكرة، وكنت مرجعاً لبعض معلميّ في حل المسائل الرياضية، وبعد انتهاء الدراسة الثانوية، لم أرغب في أن أكمل في الجامعة الفرنسية فجئت إلى سورية لأكمل دراستي الجامعية، كونها تدرّس العلوم العربية وعزمت أن أسجّل في كلية العلوم وفوجئت باختلاف الأرقام العربية التي درسناها في المغرب عن الأرقام المستعملة في دمشق وهي الهندية، وكذا العبارات إذ إن في لغتنا المغاربية تعريباً عن الفرنسية، ما أوقعني في حرج مع نفسي، فقررت خوض تجربة دراسة الحقوق.
وبدأت باقتناء كتب الحقوق والقراءة فيها، ووجدتها بحاجة إلى حفظ، وأنا لست من هواة الحفظ علماً بأنني حفظت القرآن وعمري عشرة أعوام، إلا أن ما يحفظ سريعاً ينسى سريعاً، فقررت مرة أخرى تغيير التخصص والذهاب هذه المرة إلى الفلسفة ووجدت أني أفهم نوعاً ما، وبعد السنة الأولى التحضيرية وهي من أصعب السنوات إذ بنهايتها يتم الفرز والتصفية، فاجتزتها بنجاح وتفوق، ورجعت إلى المغرب في فترة الصيف فوجدت كلية الآداب قد افتتحت وكان اسمه قبلاً المعهد العالي للدراسات العربية أسسه الفرنسيون ودرس فيه المستشرقون، ثم حولته الحكومة المغربية في الخمسينيات إلى كلية آداب عربية على غرار الكليات الأخرى، وبدأنا في شعبة الفلسفة أربعة طلاب.
ما أبرز المغريات لمواصلة المشوار؟
- الجغرافيا أدت دوراً في علاقتنا بالفلسفة، فالثقافة الفرنسية منتشرة بشكل واسع، ومراجعنا معظمها فرنسية، إضافة إلى تواصلنا مع مصر وبلاد الشام فما يكتب يصلنا ونقرأه بعناية، وأكثر ما تأثرت به في تلك المرحلة هو كتاب خالد محمد خالد (من هنا نبدأ) و(لكي لا نحرث في البحر) ومعها كتابات سلامة موسى علماً بأنا لم نكن نعرف توجهات الكاتبين ولا خلفيتهما ولا انتماءهما، إذ كل ما نعرفه أنهما وطنيان مصريان.
العقل العربي والنفعية
هل تقوم علاقة العقل العربي مع الآخر على النفعية والمصلحة المادية من دون اهتمام بالفكر أو المعرفة؟
- ماذا نعني بالآخر، فمفهوم الآخر أوروبي حديث، فالآخر من حيث الترتيب فقط لا على أنه عدو.
ألا تلحظ أننا نستريب من الجديد والمحدث؟
- هذه طبيعتنا، وقديماً لم يكن هناك تواصل لُغوي، والآن دخل العامل الإيديولوجي في فرض مفهومنا للآخر وعلاقتنا به، ما دفعنا إلى النظر إليه مستعمراً ومهيمناً وعدواً وأن كل مشاريعه ضدنا.
هل الفلسفة صناعة المعتزلة؟
- هذا من الأخطاء الفادحة، التي أوجدها المستشرقون وغيرهم من الكتاب، فأعدى أعداء الفلسفة هم المعتزلة، لأنهم قاموا ضد الفئات والأفكار والفلسفات المعادية للإسلام، فهم حاربوا المانوية وضربوا الفلاسفة في مفاصلهم، لأن فلسفة اليونان تقوم على فكرة الطبع، فالنار تحرق لأن من طبعها أن تحرق، والمتكلمون ومنهم العلاف وواصل بن عطاء أنكروا الطبع، لأنه يتعارض مع فكرة الخلق.
وامتص «الأشاعرة» منهجهم واختلفوا معهم في بعض العقائد، ولما جاء الغزالي أدخل الفلسفة والمنطق في مذهب «الأشاعرة»، فالغزالي أول من أسس لمفهوم الفلسفة الإسلامية.
أليس المعتزلة عقلانيين؟
- هم عقلانيون على منهجهم الخاص المستنبط من علوم اللغة والفقه، ومنها قياس الغائب عن الشاهد والفرع على الأصل والتقسيم والسبر، بعيداً عن فكر أرسطو وغيره من الفلاسفة.
أين يقف المفكر من تفعيل النظريات على أرض الواقع؟
- المفكر في الأصل والفيلسوف هو الذي يطلب المعرفة من أجل المعرفة فقط، لا من أجل التطبيق التقني أو التفعيل العملي، ولكن غاليليو وديكارت فيما بعد وغيرهما من الفلاسفة المحدثين بدأوا العلم بمحاولات صنع أدوات لتحقيق بعض الأفكار، ومن هنا نشأت التقنية وظيفة للعلم وآلة من آلات العلم، وتطور الأمر لتصبح التقنية متحكمة في العلم لا العكس.
ألا يطمح المفكر إلى الإسهام بأفكاره في إسعاد البشرية؟
- هذا منهج الفارابي، إذ حاول أن يؤلف ما بين الدين والفلسفة ويوفق بينهما ويحقق المجتمع الفاضل، وبعده ابن سينا الذي حوّلها إلى مشرقية وصوفية، إلا أن الفلسفة والفكر يعنى بها من ناحية معرفية فقط.
من خلال تجربتك... ألا يمكن أن نحقق بعض الأفكار في الواقع؟
- نظرياً يمكن، فالفلسفة أم العلوم، إلا أن العلوم انفصلت عنها فيما بعد لوجود التخصص الدقيق، وهو ما يؤسس لأفكار جديدة وتولد منهجيات وأدوات وتقنيات انطلقت من الفلسفة أولاً، وانفصلت عنها لاحقاً علماً بأن التقنية عند البعض تمثل عائقاً وعبئاً كونها تحكم الجميع.
هل يعني أن الفكر حالُ ترف؟
- هذا قليل ونادر، فالمشروع الفلسفي عرقله الترفُ، والتقنية حرمت الإنسان من تطلعاته وغدا ذا بعد واحد فبدلاً من أنسنة الأشياء، تمكن الإنسان وغدا عبداً للتقنية والآلة التي أقحمته في أزمات لا متناهية، إلا أن بعضهم ولا سيما في الغرب له منحاه التصوفي والفلسفي الخاص.
هل يخاف الفقهاء من المفكرين؟
- الفقهاء لا نستطيع أن نضعهم في سلة واحدة، فالفقيه له مجاله الخاص، وبعضهم يتجاوز إلى الفكر والفلسفة، ومنهم الفقيه ابن رشد صاحب كتاب «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» وهو كتاب فقه مقارن سابق لعصره وتعتد به جميع المذاهب وأبوه وجده وليَا منصب قاضي القضاة.
ألا يرى الفقهاء أن من تمنطق تزندق؟
- ليسوا سواء، فالغزالي أسس منهجاً منطقياً في أصول الفقه، لكي يسحب المناهج المعتزلية، وقال في مقدمته المنطقية من لا يعرف هذه المقدمة لا يوثق بعلومه، وابن تيمية خاصم المنطق لعداء مع بعض المذاهب ومنها الإسماعيلية، ولكنه رجع إلى درء تعارض العقل والنقل ونفى الصراع بين صريح المنقول وصحيح المعقول، والمنطق يقرر أن العقل أسبق من النقل.
العالم الإسلامي والعقل
كيف ترى عالمنا العربي والإسلامي بين العقل والنقل؟
- عالمنا يتأرجح بين نقلي أحياناً، وربما لأهداف ومصالح وعقلي أحياناً أخرى أيضاً لأهداف ومصالح ومنافع.
هل أسهم المفكر في إنقاذ الساسة من ورطة القرارات غير المدروسة؟
- لا أظن، فالقادة والساسة عندنا وعند غيرنا أرباب مصلحة ولا يسمعون ولا يقربون إلا من يقول لهم ما يريدون، أما من يقولون الحق أو ما هو مظنة الحق فيظل خارج الحاشية إن لم يطارَد ويحاكَم وربما يؤذَى.
أين وصلت بمشروعك الفكري والفلسفي؟
- لا بداية ولا نهاية لمشروعي، ولا حدود له أسعى للوصول إليها، بدأت ولا أدري أين سأنتهي، ولم يكن يرِد في خاطري إطلاقاً أنني سأفسر القرآن وأدخل هذا الموضوع، ولكني رأيت الناس يختصمون على النص القرآني، وبعضهم يقف على (ويل للمصلين) ويتبعون الروايات والتعصب والمذاهب والروايات والقرآن ينبغي أن يفهم كما هو وبحسب ترتيب النزول والتساوق بين السيرة ونزول القرآن، أما أخذ آية وتأويلها وكتابة إنشاء حولها فهذا شأن آخر.
هل أغراك المشروع بعد ما يزيد على 30 مؤلفاً بالالتفات إلى الوراء وإعادة قراءة المشروع؟
- عندما أقرأ ما كتبت منذ عام 1959، من مقالات سياسية وفكرية أتعجب مما كتبت، إذ كأني كتبتها أمس فكرةً وأسلوباً.
كيف تقرأ المفارقات بين مشرقنا ومغربنا؟
- لا مفارقات ولا فروق كبيرة ولا انفصال بيننا، فاللغة والاقتصاد والتضامن واحدة، إلا أن المغرب لبعده الجغرافي واستقلاله منذ 12 قرناً لم يدخل في إشكال مع دول المشرق العربية، ومشكلتنا الوحيدة ربما مع الجزائري.
هل الفكر ابنك البار، والسياسة ابنة عاقة؟
- لا، السياسة ممارسة عملية للحياة، وهي نفعتني أكثر مما تتصور، لأني من خلالها تعمق الحس السياسي الذي أقرأ به المأمول وأتحفز به للكتابة الفكرية والفلسفية، فالقرب من السياسة مريح كونها تطلعك على خفايا الكواليس وكيف تدار الأمور، فالممارسة السياسية مكنتني من قراءة أرسطو وابن رشد، ولا سيما أني تدرجت في الحزب منذ الشبيبة، وشاء الله أن أكون محل ثقة من دون أن أسمى قيادياً، وتجربتي غنية في هذا المجال وأعد كاتب الحزب.
كيف ترد على من يصفك بالمستقل؟
- منذ عام 1981، وجدتُّ نفسي أمام خيارين، إما الاستمرار في العمل السياسي وإما الانصراف إلى المشروع الفكري، وبما أن وضعية الحزب تغيرت، وصحتي لم تعد تحتمل آثرت، وربما ارتأى رفاقي أن أكون خلفاً في رئاسة الحزب، إلا أنني لس لي طموح سياسي، فاضطررت صحياً وسياسياً إلى أن انصرف إلى الثقافة مع بقاء ارتباطي بأصدقائي من الساسة والقادة والحزبيين كما كان الأمر من قبل، لكن من دون لقاءات أو اجتماعات، لأنها صاخبة باللجج وملوثة بالتدخين وصحتي لا تحتمل.
كيف ترى لو غدا المفكرون ساسةً وأصبح الساسة مفكرين؟
- أفلاطون تبنى مثل هذا المشروع وفكّر وأسّس مدينته الفاضلة، وانطلق من البداية يربي الناس ويعلمهم وانتهى إلى نتيجة محبطة، جعلته يقتنع بأن المدينة الفاضلة مكانها في السماء.
أين تضع نفسك وأنت مثالي الفكر ممارس للسياسة؟
- مارست السياسة بأخلاق أيام الملك الحسن الثاني، وطنية لا تساوم على مقاعد ولا على مكاسب مادية، وسميتُها «سياسوية» السياسة من أجل السياسة والمبادئ الوطنية، فالغاية لا تبرر الوسيلة، بل نطوع الوسائل النبيلة لخدمة غايات نبيلة.
استقلالية المثقف
ما ثمن استقلالية المثقف؟
- أنا شخصياً مستقل وباختيار، ويعرفني الحكم أني معني بكرامتي مهما كانت الظروف، ولست ممن يتملق أو يجامل، ولكني لا أستفز أحداً، ولا أعتدي ولا أستثير جهة ضدي ولا مصلحة لي في ذلك، وربما لذلك كنت الوحيد في الاتحاد الاشتراكي التقدمي الذي لم أُمَسّ بسوء لا في راتبي ولا وظيفتي، علماً بأني كنت أكتب كل ما يُنسب إلى الحزب.
فالمثقف متى مارس السياسة بأخلاق احترمه الجميع، ومن أمثالنا الدارجة في المغرب (من مد خطوته الأولى إلى الحاكم ستمد الثانية)، ولا سيما أني لا أطلب من الدنيا سوى خبز وزيتون ومغفرة من رب كريم.
هل تشكلت الدولة في العالم الإسلامي بمفهومها الحضاري؟
- لا، فالدولة لم تتشكل، باعتبار أن المجتمع العربي مجتمع قبلي، ولذا نشأت الدولة القبلية، ونزاع الصحابة كان مرده القبيلة وبنو أمية حكمت بالقبيلة وبنو هاشم، والشقاق التاريخي أصّلته القبيلة.
الإسلام والمستقبل
كيف ترى الإسلام بعد 14 قرناً؟
- الأديان جميعاً بعد مرور وقت طويل، تنشأ حولها أفكار وتيارات ومذاهب، فالإسلام في البدء لم يكن فيه شيعة وسنة، وموالين وخوارج ولا مذاهب فقهية، وحتى رموز المذاهب الفقهية، كل منهم وجد في بلده ما يغاير ما هي عليه الأحوال في بلد إسلامي آخر فجاءت التعددية وفق رؤى متعددة، فالإسلام - بكونه نظام حياة - يعترف بالحياة كما هي.
ما أسس الدولة الحديثة للقيام بمشروع نهضوي؟
- الدولة إما أن تكون مثالية كدولة أفلاطون في السماء، أو دولة دنيوية تخضع لمعايير كل بلد بحسب موقعه وسياسته وقدرته على التحكم والمقاومة، ولكن من أهم الأسس الإفادة من تجارب الآخرين وإقامة مجتمع مؤسسات ذات قيمة وتحريرها من يد السيطرة الفوقية، وكل مؤسسات المجتمع المدني جاءت وسائل لتحرير الإنسان من تبعية العبد والسيد، واحترام الفرد هو الأصل حتى في الشريعة الإسلامية.
هل ترى انفصالاً أم اندماجاً بين الدين والسياسة في الإسلام منذ الهجرة إلى المدينة؟
- في أوائل الثمانينيات كتبت في مجلة مقالة، ذكرت فيها أن العوض عن العلمانية المختلف عليها، في الديموقراطية والعقلانية، وعندما فكر الغرب في الثورة على الكنيسة تمكن من ذلك، لأنها أشخاص ومؤسسات وإقطاعيات وبناءات ونفوذ أمكن مقاومتها، لأنها مشخصة، استثناء الإسلام كونه موجود في كل فرد طبيعة، والنزاع السياسي يتبنى تيارات حتى لو دينية لإنضاج وتسويق مشروعه، ولكل عصر أزماته ومشكلاته.
أين تكمن أزمة عالمنا العربي؟
- الأزمة تراكمية، تبدأ من الأخلاق إلى السياسة إلى العلم إلى الاقتصاد، ومنذ القرن الثامن عشر والعالم يتقدم ونحن نتأخر، لأن الآخر بوجوده ولّد أزمات، إذ اعتنى بنفسه ومصالحه فقط، ونحن بين موالين لمشروعه ومعادين له بكله ومقاومته.
كيف يكون المخرج من الأزمات؟
- كل فصيل منا يمثّل جزءاً من واقع، وكل مشاريع النهضة التي قدمها مفكرون ومصلحون لم تثمر شيئاً ملموساً، ومن هنا يجب على كل التيارات تأجيل مشاريعها الأيديولوجية، لأن كل مشروع بمفرده لن يحقق لا نهضة ولا مقاومة، والبديل في تشكيل كتلة تاريخية واحدة تتحكم فيها المبادئ وحين نحقق المشروع فلنختلف، والثورة العباسية قامت على شعار ذكي (نبايع من ارتضيناه من آل محمد)، وهو ما جمّد الصراع وحقق قيام الدولة، بدعم وحدة في جوفها تعدد، إذ لا وحدة في جوفها وحدة، بل وحدة بين التعدد، فالله واحد والعالم متعدد دينياً، أما السياسة فتقوم على الشراكة.
أين رابطة المفكرين العرب؟
- هناك جمعيات فلسفية، واتحادات كتاب من بينهم مفكرون، ولكن مثل ما يصعب جمع شعراء ليكتبوا قصيدة، كذلك جمع المفكرين واتحادهم لن ينتج فكراً، فكل واحد منهم مدرسة بذاته، فالساسة أولى بالاجتماع والتوحد والكذب على النفس من أجل التجاوز، والسياسة فن التحايل لتجاوز أزمة.
كيف ينظر إلينا المفكرون المستغربون من العرب المقيمين في الغرب؟
- كل مفكر مشروط بالشروط التي نشأ فيها، وبالواقع الذي عرفه وإن ارتفع عن القطرية والتعصب، ويمكن تجاوز الواقع بالكتابة، ولا يصح أن تطلب من أركون أن ينطلق من تجربة الجابري أو حسن حنفي، فلكل تكوينه ورؤاه مع الاتفاق على القضايا الإنسانية والمشترك العام.
ألا يمكن أن يرانا من ينظر إلينا من الخارج بشكل أوضح وأدق؟
- المسألة نسبية، ومن الطبيعي أنه لا بد من مسافة بين العين وبين الشيء لتراه، إلا أن المسافة وتحديدها تختلف من شخص إلى آخر وهي اجتهاد اختياري.
التحولات السعودية
كيف وجدتَّ مستوى التحولات في السعودية منذ أول زيارة لك في أواخر الثمانينيات؟
- دعيت للمرة الأولى في أول افتتاح لمهرجان الجنادرية الأول 1989، ومن ثم أتيت مرة أخرى في المهرجان الرابع، وفي المهرجان الأول كانت القاعة مزدحمة بشباب من التيار الديني المتعصب مجندون للتشويش وتوزيع أشرطة كاسيت ضد الجابري، والآن ألحظ تسامحاً نسبياً إلا أن مستوى التعصب لم يتراجع.
هل يقلقك ما يكتب عنك من تكفير واتهام بالزندقة والردة؟
- لا تقلقني، لأني غير متحزب، ومن يتهمني مثل هذه الاتهامات جماعة متحزبة، ومن حقها أن تتحزب لنفسها، لكنها ليس من حقها أن تفرض عليّ ولا على غيري تحزبها، وهناك ما يجمعنا، وهو الإسلام الذي هو فوق كل شيء. أما موقفي من قضايا فكرة وكيف أطرحها فهذا حق خاص.
كيف قرأت فتوى استتابتك؟
- من قواعد الإفتاء أنه لا يدخل في مسائل تتعلق بالرأي، والإفتاء متخصص في العبادات فقط والمفتي يشترط أن يسمع كلام من يفتي بحقه، ويسمع كلام مفتٍ آخر، وهنا صدر قذف، وتكفير، وإن كان من أصدر الفتوى وهو رجل حديث يؤمن بحديث (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) فأنا أقول لا إله إلا الله.
بماذا تصف الحراك الثقافي في السعودية؟
- ألحظ حركة حداثية شبابية منذ التسعينيات، والمد المتشدد في أوجه، ومن حسن الحظ أنني وضعت أمام متشددين يكفرون بالبنيوية في قاعة وعلى أحد جدرانها آية قرآنية فانطلقت من الآية مفسراً ومحللاً وحين انتهيت سألتهم ما رأيكم فقالوا: جميل جداً، فقلت ما سمعتموه هي البنيوية التي تكفرون بها.
ما مدى صحة مقولة أحد الفلاسفة (تزوج فإما أن تغدو سعيداً أو تصبح فيلسوفاً) من خلال تجربتك... هل عشت الحب وشعرت بالسعادة؟
- طبعاً، ولي أربعة أولاد من زوجة واحدة، ثلاثة منهم أطباء منهم أستاذة طب أسنان، وأخرى رئيسة قسم التشريح في مستشفى حكومي، وابن طبيب أسنان والصغير رجل أعمال، تزوجتها في سن الشباب واستقرت الحياة، والزواج العقلي له شروط، والحب يأتي بعد الزواج، لأنك لن تتزوج من تكرهها.
هل تعاملت مع أولادك بصفتك مفكراً أم أباً؟
- أباً، من دون شك وتركت لهم حرية الاختيار في الدراسة والتحصيل والقراءة، ولم أجبر أحداً على شيء، إلا أنهم سعداء جداً بأبيهم ومشروعه الفكري، ولا سيما حين تكريمي أو خروج كتاب لي أو مشاركتي في مناسبة ثقافية أو ورود اسمي في وسائل الإعلام.
وهل ذقت لوعة الفراق؟
- نعم، ولا سيما أني من طبقة متوسطة، وكنت أحببت فتاة من طبقة برجوازية أيام التعليم وتركتني وتزوجت.
أطْلعنا على برنامجك اليومي؟
- لست على مستوى «كانط» في انضباطه، إذ كان الناس يضبطون ساعاتهم وقت خروجه من منزله، وأنا أنام عند التاسعة، وأفيق بعدها بساعة لأسمع نشرة الأخبار المطولة، وأعاود النوم لاستيقظ باكراً، وافتتح اليوم بالأخبار ثم الإفطار وفي الثامنة والنصف أكون في مكتبي، لأعود للمنزل للغداء والنوم لساعة ثم أعود للمكتب إلى السابعة والنصف، وفي المكتب معظم وقتي للقراءة للكتابة، وتقاعدت منذ 2002، وكنت أدرس أربع ساعات في الدراسات العليا في جامعة الرباط، ومعظم طلابي يحضرون معي حتى في المنزل، ومن مزايا التدريس عندنا أن الأستاذ يضع منهج طلابه بنفسه من دون تدخل من أحد.
هل من قلق؟
- في الكتابة أحياناً، وللعلم لا أكتب موضوعاً لا على الورق ولا على الحاسب إلا بعد كتابة الموضوع في دماغي، ولحظة التوتر هي وقت الخروج من حال القراءة والاستكشاف إلى حال الكتابة.
ما الذي يربطك بالحياة؟
- كل ما أنا فيه يربطني بالحياة، وأحمد الله أني لست من ذوي المال الكثير، وإلا لكنت مرهقاً، والسفر لا يكون إلا للمشاركة في المؤتمرات والندوات.
ما أكثر كتبك إسعاداً لك بردود أفعال القراء والنقاد حوله؟
- أنا سعيد كون كتبي في موضوع العقل العربي أثارت أصداءً جيدة وسجالات، وعبارة «العقل العربي» لم تكن منتشرة كما أن التقسيم الذي اعتمدته، أي «بيان البرهان» و«بيان العرفان»، باتا متداوَلين اليوم، ومن المهم أن تبقى الفكرة حيَّة، بصرف النظر عن تأييد فريق ومعارضة آخَر، والأهم أن تبقى شغل الجميع، وهو أمر مهم لي، ويعني أن الكتاب لم يولد ميتًا، وأكبر ما يطمح إليه الكاتب أن يُشرِك معه الآخرين في همِّه، وأعتقد أننا جميعًا نحمل هماً واحداً واليوم، خصوصاً بعد مرور ما يقارب عقدين على صدور أول كتاب في المشروع، وهو تكوين العقل العربي، وأعد المغامرة مستمرة، وبعدما لقيتْه الأجزاء السابقة من قبول.
ماذا عن طرح بعضهم فكرة الصراع بين الأفكار؟
- أنا رددتُ على هنتنغتون في قضايا عدة عبر مقالات متعددة متفرقة، وعلى أية حال، خلاصة المشكلة في ذهن الأميركيين وسواهم أنها مشكلة المصالح الأميركية ليس إلا، وإذا كان الأمر كذلك - وهو صحيح - فعلينا أن نفكر في توازن المصالح، مصالح النهضة أو سواها، على أن يؤخذ في الاعتبار هذا الأمر الجوهري في العلاقات. أرى أن الأميركيين يختبئون خلف خيالهم بالقول بأنه «صراع حضارات» إنه توازن مصالح، لا صراع حضارات.
طرحت مفهوم الأسئلة الزائفة... ما مرد هذا التوصيف؟
- الأسئلة أهم من الإجابات، والعالم يقوم على السؤال لا على الإجابات، وحوار العلماء وأئمة المذاهب والمفكرين يدور حول الأسئلة المولدة أكثر من سؤال، أعني الأسئلة النابضة بالحياة والمحفزة لاشتقاق أسئلة أخرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.