لم نكن بحاجة لتقرير التنمية الإنسانية العربية الثاني لنتعرف على الحال التي وصل اليها العرب ونتأكد من نقاط الضعف ومواطن العلل في مجتمعاتنا ومواطن الشكوى والعذابات في حياتنا اليومية، لأن كل شيء واضح لا لبس فيه وأمورنا مكشوفة وأوضاعنا مفضوحة للقاصي والداني، ومشاكلنا يتحدث عنها الكبير والصغير ويشكو منها الجميع من القمة الى القاعدة. هذه المقدمة لا تهدف للمشاركة في موضة "جلد الذات" والاكتفاء بالنقد السلبي والندب واللطم على الخدود بل للتمهيد لمناقشة هذا التقرير الدوري الذي ينشر للعام الثاني على التوالي من قبل برنامج الأممالمتحدة الإنمائي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي الذي شارك في إعداده عدد من المثقفين والمفكرين العرب تحت شعار "نحو إقامة مجتمع المعرفة". للوهلة الأولى يمكن القول ان هذا التقرير مثل التقرير الذي سبقه لم يكتشفا البارود ولم يتضمنا أموراً جديدة لا نعرفها ولا نتحدث عنها كل يوم في مناقشاتنا اليومية وفي مقالاتنا ودراساتنا، فكل ما فيهما يدخل في خانة "البديهيات" وتفسير الماء بعد الجهد بالماء. ولكن من يتمعن في البنود ويقرأ ما بين السطور يعترف بأننا كنا بحاجة الى من يجمع الهموم ويفرز المشاكل ويضعها أمامنا على الورق لعلها تلفت أنظار "من يهمه الأمر" فيسعى جاهداً لفتح باب الحوار الصريح والسعي لمعالجتها بجدية وحزم، ولتدلنا على معالم الطريق ولو من باب التنظير وإطلاق الشعارات البراقة في مجتمعات منكوبة صارت المعرفة فيها مجرد كماليات وأصبح رغيف العيش هو الغاية والمرتجى والهدف. وجاءت أحداث العام الحالي لتصب الزيت على النار وتزيد هموم العرب هماً أكبر وتدفعهم للضياع وتوقعهم فريسة للرعب والقلق لا سيما بعد احتلال العراق، وبطريقة مهينة، وبعد الظلم المضاعف الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني والانهيارات المتلاحقة مع طغيان الهواجس الأمنية على ما عداها بحيث لم يعد يعلو صوت فوق صوت المعركة ضد الإرهاب مع تزايد العمليات الإرهابية واكتشاف المزيد من الخلايا والكثير من الخلل. ولهذا يمكن اعتبار تقرير التنمية الانسانية العربية ناقوس خطر وجرس انذار يدق للمرة الثانية خلال عام، وما أسوأ أن يدق الجرس مرتين من أجل تنبيهنا الى بديهيات في حياتنا ومسببات معاناة مجتمعاتنا من دون أن نستفيق من غفوتنا أو ننهض لننفض غبار التواكل واللامبالاة ونعمل على وضع النقاط على الحروف والاستفادة من النواقص لردم الهوة والسعي لتحقيق مجتمع المعرفة كما يشير أحد واضعي التقرير الدكتور كلوفيس مقصود. هذه البديهيات التي تضمنها التقرير اخترت منها على سبيل المثال لا الحصر: الحاجة الماسة لإجراء إصلاحات اقتصادية واجتماعية والتواصل مع دول العالم حتى لا نغرق في رمال التخلف المتحركة، بسبب عدم مواكبة روح العصر. التأكيد على أن أحد الأسباب الرئيسية لسوء الأحوال تدهور الحريات المدنية والسياسية لا سيما بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن وزلزال 11/9 وما جر علينا من ترددات وأهوال ومفاعيل وانعكاسات. تخلف مناهج التعليم وعدم المسارعة الى تعديلها وتنقيتها وإصلاحها لتتماشى مع روح العصر وتأمين مصلحة العرب ومستقبل الأجيال وليس نتيجة للخضوع لإملاءات خارجية تدس السم بالعسل وتنطلق من غايات مشبوهة لأهداف خبيثة حاقدة. وجوب تعميم الاستفادة من ثورة التكنولوجيا وايجابياتها الكثيرة والمتعددة ورفعها الى أعلى سلم الأولويات بدلاً من وضعها في قاعة. والتركيز على الاستيعاب وليس مجرد الاستيراد والتوجيه الصحيح من أجل تصحيح المسار بعد أن انحرف البعض عنه واكتفوا بتعميم السلبيات والاستخدام السيئ للانترنت وغيره كما جرى من قبل بالنسبة لثورة الاتصالات والبث التلفزيوني عبر الأقمار الاصطناعية. إن جرس الانذار الذي دق مرتين لم يسجل سوى بعض أوجه الواقع المرير للأوضاع، أو حتى ما هو أقل من الواقع في أكثر من مجال لا سيما المجالات الاقتصادية حيث يشير الى أن اجمالي الناتج المحلي للدول العربية مجتمعة بلغ 604 بليون دولار بينما بلغ في اسبانيا وحدها حوالى 559 بليوناً، وأزيد بالاشارة الى أن نسبة البطالة في العالم العربي بلغت أكثر من 25 في المئة من عدد السكان وتجاوزت نسبة السبعين في المئة في كل من العراق وفلسطين. إن التذرع بالعوامل الخارجية قد يفضي الى التهاون في واجب التطوير الذاتي العربي والقعود عن انجاز ما ينطوي عليه من مهمات. ان النظم الاقتصادية، مثلها مثل النظم السياسية، تحتاج الى تحديث وتطوير لتتماشى مع روح العصر والمتغيرات العالمية حتى لا تغرق الاقتصادات العربية في مستنقعات التخلف وتموت وحيدة بعيدة عن الركب العالمي. ان سلسلة الأخطاء والخطايا التي ارتكبت على امتداد السنوات الماضية خلفت سلبيات قاتلة وخطيرة أبرزها ضرب الطبقة الوسطى وتقليص دورها الرائد في المجتمعات وبالتالي ضياع موقعها كصمام أمان وعامل توازن يحسب له ألف حساب في المجتمعات المتقدمة. وكان من نتيجة هذا التغييب تدهور الأوضاع وازدياد الهوة بين أبناء المجتمع الواحد فازداد الغني غنى وازداد الفقير فقراً. ان التركيز على الجانب الاقتصادي ضروري ومهم إلا أنه يجب أن يتزامن مع التركيز على الجوانب الفكرية والعلمية والتعليمية والثقافية والمعرفية والمعلوماتية والاعلامية لأنه لا يمكن بناء الاقتصاد القوي من دون بناء الانسان المحصن فالاقتصاد السليم في الانسان السليم مثل العقل السليم في الجسم السليم، لأن التركيز على الحجر قبل البشر كان من أسباب هذا التدهور الحاصل والشكوى المتصاعدة من الأوضاع المريرة التي يعيشها العرب. فالاستثمار المكثف في مناهج التعليم ومستوياته يعتبر من بديهيات تدعيم البنى التحتية للمجتمع، وعندما يوصي التقرير بذلك يحذر من الاستمرار في الخطاب اللغوي العربي الذي يعاني من أزمة في المناهج والمنهجيات كما يكشف انه على رغم ان عدد سكان العالم العربي بلغ أكثر من 270 مليون انسان في 22 دولة فإن الكتاب العربي يعاني من أزمة حقيقية بحيث ان الكتاب الذي تباع منه 5 آلاف نسخة فحسب يدخل في باب الكتب الأكثر رواجاً كأنه يستعيد المقولة التي روجها الأعداء عنا بأن "العرب أمة لا تقرأ". إن القراءة وحدها لم تعد المصدر الوحيد للمعرفة بل صارت جزءاً من منظومة معقدة تقوم على استخدام موارد التقنية واستيعاب كنوزها والمساهمة في انتاجها بالاستعانة بالخبرات العربية الى جانب الخبرات الأجنبية لخلق بيئة مواتية لانتقال الثقافة وتوطين المعرفة والاعتماد على الذات في المستقبل بدلاً من الاستيراد والاستهلاك وانتظار الجديد الآتي من الخارج الذي يأتي متأخراً على الدوام! هذه البديهيات التي دق فيها تقرير التنمية الانسانية العربية ناقوس الخطر للمرة الثانية تحتاج الى اعتراف وجدية وهجمة شاملة مضادة لتعويض ما فات والانطلاق بخطى ثابتة من أجل انقاذ ما يمكن انقاذه وتدارك اخطاء الماضي وخطاياه وإطلاق حملة مكثفة للبحث والحوار ليس على مضمون التقرير فحسب بل بشأن مجمل الأحوال والمشاكل والقضايا المثيرة للجدل من دون تجاهل ما طرحه واضعو التقرير الذين نجلهم ونحترم عقولهم من رؤية استراتيجية لمجتمع المعرفة تدعو الى "إطلاق حريات الرأي والتعبير والتنظيم والنشر الكامل للتعليم الراقي النوعية، وتوطين العلم وبناء قدرة ذاتية في البحث والتطوير في كل النشاطات المجتمعية، الى التحول الحثيث نحو نمط انتاج المعرفة في البنية الاجتماعية والاقتصادية العربية". ولا يجوز ايضاً تجاهل ما ذهب اليه التقرير في الدعوة للانفتاح على الثقافات الانسانية الأخرى والتفاعل معها عبر حفز التعريب والترجمة الى اللغات الأخرى والنهوض باللغة العربية من خلال اطلاق نشاط بحثي ومعلوماتي جار وإثراء التنوع الثقافي في داخل الأمة العربية واستحضار اضاءات التراث المعرفي العربي في شكل يتجاوز التفاخر الأجوف، والعودة الى أصول الدين وصحيحه وتحريره من التوظيف المغرض وحفز الاجتهاد وتكريمه وتفعيل فقهه والعودة الى الرؤية الانسانية والحضارية والأخلاقية لمقاصد الدين الصحيحة. وكما ذكرت في البداية لم نكن بحاجة لهذا التقرير لاكتشاف ما آلت اليه الأوضاع العربية ولكنه جاء في وقته كضرورة ملحة لتذكيرنا بالذي مضى وبما نحن فيه وبالذي هو آت، ويا حبذا لو اعتبره المعنيون ناقوس خطر لم يدق مرة بل دق مرتين وبقوة نأمل أن لا يصم الآذان فلا يستمع اليه أحد، وندعو ان يفتح الآذان لتستمع، والعقول لتخطط، والقلوب لتحث على العمل وتتوافر النوايا الحسنة والرغبة الصادقة في تصحيح المسار وإصلاح الأوضاع. وليكن جرس الانذار هذا مناسبة لفتح باب حوار هادف يشارك فيه أصحاب القرار وأصحاب الرأي ورجال الفكر والإعلام والسياسة والاقتصاد من أجل وضع استراتيجية متكاملة للتنمية الانسانية العربية وبناء المجتمعات الصحية السليمة الواعية القائمة على أولوية "البشر... قبل الحجر". * كاتب وصحافي عربي.