كان تشرين الثاني نوفمبر 2003 من أسوأ شهور حكم شارون، إذ توالت خلاله الانتقادات لسياسته في الداخل والخارج، واعلان ان الرأي العام الأوروبي يعتبر اسرائيل أكثر دول العالم تهديداً للأمن والسلام العالميين، ونجاح فريق عمل اسرائيلي فلسطيني مشترك في التوصل الى صيغة حل شامل للصراع يتناقض مع أهداف شارون وحزبه الحاكم، واتخاذ أميركا قراراً بالبحث عن استراتيجية للخروج من العراق. وتشكل هذه التطورات حالاً جديدة غير معهودة بالنسبة لشارون، خصوصاً اذا أضيف اليها استمرار تدهور الأحوال الاقتصادية في اسرائيل وقيام بعض الجنود والضباط والطيارين الاسرائيليين برفض الخدمة في الأراضي الفلسطينية وعمليات قصف المناطق الفلسطينية الآهلة بالسكان تحت غطاء اغتيال العناصر القيادية في حركات المقاومة الفلسطينية. ان من شأن هذه الأوضاع تصعيد الضغوط على حكومة شارون، والتسبب في تدهور الحالة النفسية لليهود وتحسن الحالة النفسية للفلسطينيين. وعلى رغم أهمية حركة الجنود والطيارين اليهود، فإن التصريحات التي جاءت على السنة قادة جهاز الاستخبارات الاسرائيلية الشاباك السابقين كانت الأكثر اعترافاً بالواقع المرير الذي تعيشه اسرائيل، وتحذيراً من المستقبل المظلم الذي ينتظرها اذا ما استمرت الأمور على ما هي عليه اليوم. قال الجنرال امي ايالون "اننا نخطو خطوات مؤكدة نحو نقطة تكون اسرائيل فيها قد تحولت الى دولة غير ديموقراطية وغير صالحة لأن تكون وطناً للشعب اليهودي". اما الجنرال يعقوب بيري فقد قال "اننا نسير نحو الانحدار لدرجة تقترب من الكارثة"، وذلك على كل المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية. وأضاف: "اذا لم يحدث تغير في هذا التوجه فإننا سنستمر في العيش بحد السيف، ونستمر في الغوصض في الوحل، ونستمر في تدمير أنفسنا". اما رئيس أركان الجيش الاسرائيلي فقد سبق رؤساء "شاباك" بقوله ان سياسة شارون "كارثية" بالنسبة لاسرائيل. جريدة "يديعوت أحرونوت" التي أجرت المقابلة مع الجنرالات الأربعة وقامت بنشرها وضعت المقابلة تحت عنوان: "اسرائيل في خطر محدق". والى جانب نقد سياسة شارون بوجه عام والتركيز على ما تعيشه اسرائيل من مخاطر، دعا الجنرالات الى حل سلمي تفاوضي مع الفلسطينيين ووصفوا السياسة الاسرائيلية والأميركية التي دعت الى عزل الرئيس عرفات وعدم التعامل معه بأنها كانت بمثابة "أم الأخطاء". وبالنسبة لجدار الفصل العنصري قال الجنرال افراهام شالوم "انه يزرع الكراهية ويصادر الأراضي ويؤدي الى استيعاب مئات الآلاف من الفلسطينيين في دولة اسرائيل، وهذا يعني ان الجدار يقود الى نتيجة تتعارض تماماً مع ما ننوي التوصل اليه". الملفت للنظر في تصريحات الجنرالات وأسباب اعتراض بعض الطيارين على ضرب المواقع المدنية الآهلة بالسكان، ومبادرة جنيف الاسرائيلية الفلسطينية المشتركة هي ان تلك التطورات جميعاً جاءت لتؤكد ان اسرائيل في ورطة وأن خروجها من تلك الورطة، أي حل المشكلة الاسرائيلية لن يتم الا بحل المشكلة الفلسطينية. اذ بينما وصف الطيارون قصف المنازل بأنه عمل "غير أخلاقي"، وصف الجنرال أيالون بعض الأفعال الاسرائيلية بأنها في "منتهى اللاأخلاقية". وفي سياق الاعتراف بأن المشكلة في فلسطين هي مشكلة مشتركة، وان حل جانب منها لن يتم من دون حل الجانب الآخر، قال الجنرال شالوم "يجب علينا أن نعترف وبشكل قاطع ان هناك طرفاً آخر له مشاعره ويعاني، وأننا نتصرف بشكل مخزٍ". عندما ندرك ان كل هؤلاء الذين ينتقدون شارون الآن كانوا في الماضي القريب أو لا يزالون حتى الآن يعملون في الجيش الاسرائيلي وفي جهاز الاستخبارات الأكثر اجراماً والمسؤول عن اغتيال آلاف الفلسطينيين، ندرك أيضاً انهم لا ينطلقون من إيمان بعدالة القضية الفلسطينية، أو من تعاطف انساني مع الشعب الفلسطيني، أو من احترام لحقه في الحرية والاستقلال. انهم ينطلقون من ادراك لما تعيشه دولتهم العنصرية من أزمات قد تؤدي لهزيمة الفكرة الصهيونية والقضاء على الحلم اليهودي بدولة مستقلة يشكل اليهود فيها غالبية الى الأبد. قبل ثلاثة أشهر تقريباً كتب ابراهام بورغ رئيس الكنيست سابقاً مقالاً حذر فيه من الوصول الى هذه النتيجة، مشيراً الى أن سياسة شارون تقوم بتمزيق المجتمع الاسرائيلي وهدم أسسه الايديولوجية والأخلاقية. اما جريدة "نيويورك تايمز" التي تتحكم في ملكيتها وادارتها عائلة يهودية، فقد قالت يوم 16 تشرين الثاني 2003 انه إذا لم تعمل اسرائيل وبسرعة على اقامة حدود لدولة فلسطينية فإن حدود اسرائيل ستتلاشى وتختفي معها الهوية اليهودية للدولة العبرية. وإذا كانت حكومة شارون واسرائيل في أزمة، وان الأزمة تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، فإن ذلك لا يعني ان علينا ان ننتظر حتى تتفاقم الأزمة قبل أن نتحرك لاستغلال الفرصة السانحة اليوم. ان الظروف قد تتغير بشكل يخفف حدة الأزمة الشارونية أو قد تتبدل بشكل يضعف الموقف الفلسطيني بقدر اضافي. وإذا كان لا بد من القبول بمبدأ التفاوض مع شارون فيجب أن لا نعطيه ما يكفي من الاعذار والمبررات ليدعي تحقيق انجازات على الأرض تسحب البساط من تحت أقدام المعارضة الداخلية، وتقود الى تخفيف حدة الانتقادات الخارجية وتحسين صورة اسرائيل في أوروبا. وفي اعتقادي، يجب على القيادة الفلسطينية التحرك في اتجاهات ثلاثة، هي: 1 وقف العمليات الفدائية حتى لو كان ذلك من طرف واحد ولمدة لا تقل عن ستة أشهر لتصعيد حملات المعارضة لشارون وتعميق التوجهات الاسرائيلية نحو السلام، واحراج ادارة بوش وحرمانها من ورقة "الارهاب" وضرورة "تفكيك البنى التحتية للمنظمات الارهابية". 2 اعلان فلسطيني رسمي بالترحيب بمبادرة جنيف كأساس لحل سلمي شامل ينهي الصراع الفلسطيني الاسرائيلي ويعيد الأمن والسلام للأراضي المقدسة. 3 القيام بحملة اعلامية واسعة في أوروبا واميركا تشمل عرضاً وثائقياً لجرائم شارون وحكومته وبرنامجاً سلمياً لحل النزاع مع اسرائيل يقوم على الاعتراف بوجود وحقوق متبادلة للشعبين. * استاذ الاقتصاد السياسي الدولي، جامعة الاخوين، افران، المغرب.