العدوان على التراث الحضاري العراقي تمّ خلال فوضى عارمة أعقبت اجتياح الجيشين الأميركي والبريطاني العراق والقضاء على نظامه الصدّامي. ولما كان هذا التراث يخصّ البشرية كلها تعالت أصوات تحمّل الجيشين المحتلين، خصوصاً الأميركي، مسؤولية ما حدث، وجرى اهتمام متفاوت بالكارثة، واسترجعت آثار مسروقة داخل العراق وضبطت أخرى مع مهرّبين عند معابر حدودية في الشرق العربي وأوروبا، لكن القضية لم تنته فصولاً وإن غابت عن اهتمام الاعلام في الفترة الأخيرة. القضية هي موضوع كتاب للدكتور خالد الناشف لم ينشره بعد، عنوانه "تدمير التراث الحضاري العراقي - فصول الكارثة"، وننشر منه اليوم وغداً عدداً من المقاطع. مع ازدياد المؤشرات بأن العدوان الأميركي على العراق اصبح وشيكاً بدأت، في كانون الثاني يناير 2003، مجموعات من الآثاريين ومديري المتاحف تجري لقاءات مع الادارة الاميركية، لتنبيهها الى ضرورة حماية الأماكن الحضارية والآثارية في العراق، واستمرت هذه اللقاءات حتى وقت قصير قبل بداية العدوان في العشرين من آذار مارس 2003. واللافت للنظر ان الادارة الاميركية في ذلك الحين هي من بادر الى طلب الاجتماع، ليس فقط مع "الرابطة الاميركية للأبحاث في بغداد"، التي يترأسها ماغواير غيبسون المعروف بمواقفه النزيهة والايجابية من العراق والتراث العراقي، بل ايضاً مع "المجلس الاميركي للسياسة الثقافية" الذي يحمل أجندة مختلفة. وعبر غيبسون عن الموقف الصعب الذي واجهته "الرابطة الاميركية للأبحاث في بغداد"، بقوله: "لقد أسقط في يدنا، فإما ان نشارك ويكون لنا صوت، او يتم تجاهلنا في شكل كامل". وفي الاسبوع الاول من كانون الثاني 2003 قام جوزف كولينز، نائب مساعد وزير الدفاع ل"العمليات الخاصة/ النزاع المخفوض الحدة"، بالاتصال بهاوكنز معبراً عن رغبته بلقائه، او لقاء اي شخص آخر، لوضع خطة لحماية التراث الآثاري في العراق. وأخيراً، تم اللقاء في الرابع والعشرين من كانون الثاني وضم كلاً من أشتون هاوكنز، رئىس "المجلس الاميركي للسياسة الثقافية"، ونائبه، أرثور هوتون المدير السابق ل"متحف غيتي" لوس أنجليس، ماكسويل ل. أندرسون، مدير "متحف ويتني للفنون الاميركية" نيويورك، وأخيراً غيبسون، ومن الجانب الحكومي حضر الاجتماع، إضافة الى كولنز، أربعة مسؤولين من البنتاغون. وفي هذا اللقاء عبر كولينز عن رغبة البنتاغون بتوسيع قائمته بالمواقع الأثرية من "حرب الخليج" لعام 1991، التي تشمل 150 موقعاً. وأثير موضوع ما ينبغي عمله للتأكد من ان قوات التحالف ستحمي الممتلكات الثقافية وتحافظ عليها. وأكد كولينز للمجموعة انه سيصدر امراً للقوات حتى تعرف كيف تتصرف. ولم يجب كولينز على مكالمات تطلب التعليق على اللقاء. وفي اتصالات لاحقة مع البنتاغون، شدد غيبسون على ضرورة نشر قوات خاصة بسرعة بعد سقوط "نظام صدام" لحماية المواقع الحضارية والآثارية من التعرض للنهب والتخريب من اللصوص. ويقول: "كنت فعلاً آمل بأن تقوم القوات الاميركية باحتلال المتحف العراقي وتقوم بحمايته. لقد كنت ساذجاً، اعتقد ان ما كنا نتكلم عنه يقع في أسفل قائمة أولويات القيادة العسكرية". ويتذكر ماغواير غيبسون انه في احدى المقابلات أوضح للمسؤولين موقع المتحف على الخارطة، قائلاً: "انه هنا"، ويتذكر: "طلبت منهم التأكيد بأنهم سيقومون بجهود لمنع النهب وقالوا انهم سيفعلون ذلك. وظننت اننا حصلنا على تأكيدات، غير انها كانت من دون فائدة". كان الاميركيون على اطلاع بأن المتاحف في العراق قد تتعرض للنهب بعد "عملية عسكرية بهذا الحجم"، ففي مؤتمر صحافي عقد في الكويت في الخامس من نيسان ابريل قال المايجور كريستوفر فارهولا، الخبير في الأنثروبولوجيا الثقافية، امام "مسؤولين مدنيين تابعين للجيش الاميركي": "قضية اخرى هي النهب، وخصوصاً في غياب القانون والنظام ونظراً لما تفرزه عملية عسكرية بهذا الحجم من عدم استقرار اقتصادي. في جميع انحاء العراق هناك متاحف، خصوصاً المتحف الوطني في بغداد، الذي يحوي مواد لا تقدر بثمن. الجيش الاميركي يرغب بالتنسيق مع اي منظمة تعمل على الحفاظ على المواقع الحضارية بما يتجاوز ضرورات العمليات العسكرية". ركزت وجهة النظر الرسمية الاميركية في شكل عام على نهب المتحف العراقي، وكيف ان القوات الاميركية لم تتمكن من حماية المتحف بسبب المقاومة المسلحة التي واجهتها في محيطه، فاللصوص استغلوا هذه الظروف ليقتحموا المتحف ويعملوا على نهبه. وبناء على الرواية الرسمية الاميركية استخدم المتحف والمنطقة المحيطة به كموقع دفاعي. وفي نهاية المطاف قاموا بحمايته بعد "ان هزموا آخر بقايا قوات صدام في المنطقة"، اي بعد ستة ايام من بداية عمليات النهب. يقول القائد العسكري جيسون كونروي: "كانوا يقاتلون من داخل، لم يكن الامر انك حضرت الى مكان لا يوجد فيه اعداء. المنطقة كانت تعج بمواقع العدو. وهم لم يلتزموا بالقواعد التي التزمنا نحن بها". ولا يمكن اختزال الموضوع في حماية او عدم حماية المتحف، ذلك ان هذه الرواية تتناقض مع تقارير صحافية تشير الى انه لم يكن في محيط المتحف في الايام الاولى بعد سقوط بغداد غير اللصوص، وربما بعض العاملين في المتحف كالآثاري محسن عباس، الذي لا يتذكره، او يذكره، كونروي او اي من رجاله، عندما مشى باتجاه دبابة اميركية في العاشرة من نيسان حاملاً راية بيضاء للطلب من الاميركيين حماية الموقع من النهب. ومثلما وضعت مصداقية هذا الشاهد على المحك، كذلك شكك بما لمحت اليه نوالة المتولي، مديرة المتحف، من ان الخنادق الموجودة امام المبنى والمحفورة تحت الارض لم تكن مستخدمة. واذا كانت المعارك محتدمة على النحو الذي وصفه القائد العسكري الاميركي، على الاقل حتى الثاني عشر من الشهر، فكيف تمكن موظفو المتحف في هذا اليوم من العودة اليه؟ وتقول الرواية الرسمية الاميركية إن القوات الغازية كانت في الايام الاولى لسقوط بغداد مشغولة بالقضاء على المقاومة ولهذا لم تقم بحماية المراكز الحضارية العراقية، وهذه الرواية وجدت من يروج لها حتى من الناحية القانونية. يقول يوجين ر. فيديل، رئىس "المعهد القومي للعدالة العسكرية" واشنطن: "القانون لا يقول ان عليك ان تهيئ قوة شرطة قوامها 20 ألف فرد لتتحرك وراءك. هذا شيء سخيف يبعث على السخرية... انا لا اعرف اي سلطة في العالم سبق لها ان هيأت نفسها لانهيار خصمها. وتصبح السخرية لا معنى لها، اذا علمنا، وفيديل يعلم ذلك من دون ادنى شك، ان الولاياتالمتحدة وبريطانيا لم تصدقا على "ميثاق هاغ لحماية الممتلكات الثقافية في حال نشوب نزاع مسلح" لعام 1954. "قارورة ممتلئة بالإحباط" يقول الرئيس الاميركي جورج بوش عندما سأل عن النهب الذي تعرضت له المستشفيات والمتاحف: "لم يعجبني ذلك الجزء... المتحف كان حادثاً رهيباً وأتفق مع الاشخاص الذي يعبرون عن اسفهم لحدوثه. وبالمناسبة، نحن على وشك المساعدة في البحث عن الكنز كذا وترميمه وسنقدم الخبرة والعون لاقامة المتحف وإعادة تشغيله. لكنني لم افاجأ، انه عمل انتقامي كما لو اننا فتحنا غطاء قارورة ممتلئة بالاحباط. انهم اشخاص تعرضت اسرهم للضرب والتعذيب والصدمة والقتل لأنهم عبروا عن آرائهم بصوت عالٍ ولأنهم لم يكونوا متفقين مع صدام حسين. والتاريخ سيثبت كم كان هذا الرجل طاغية، هو وأولاده وحكومته. ولهذا لم أفاجأ عندما انتقم الناس من مخافر الشرطة، وخرجوا ليخربوا المباني الحكومية. وأنا راضٍ عن مستوى هذا الشغب، او سمه كما تشاء، لأن فيه تفريج عن النفس". ولم يستطع الرئىس ان يذكر صراحة لماذا وجه هؤلاء انتقامهم الى متحف لا علاقة له في شكل مباشر بالنظام السابق ولا يوجد فيه اي تمجيد لرموز النظام. فهو مجرد مكان حفظت فيه ووثقت المقتنيات الأثرية العراقية، ولا يذكر بوش تدمير ونهب المكتبات، وكما قال جو بوب بريغز، فإن "صدام حسين لا علاقة له بأي المكانين المتحف العراقي والمكتبة الوطنية، سوى انه كان حارساً اميناً عليهما افضل منا نحن الاميركيين. فكلاهما كان موجوداً قبله. واذا قبلنا بوجهة النظر هذه، فإن الانتقام من مخافر الشرطة والمباني الحكومية يبدو مبرراً، بينما لا يمكن تفسير نهب المتاحف وحرق المكتبات، وعلى رغم ذلك فالرئيس الاميركي "راضٍ عن الشغب"، الذي حصل، لأن فيه تفريج عن النفس". وفي الاتجاه نفسه نرى ماثيو بوغدانوس، رئىس فريق التحقيق الاميركي، يقول: "التحدي الذي واجهناه هو ان المتحف العراقي ارتبط في شكل وثيق بالنظام السابق وحزب البعث. الجميع يقولون ان النهب كان غضباً على النظام". ويعتبر مارتن بايلي ان "التخريب المنفلت" هو رد فعل محموم لأقلية بعد اكثر من عقدين "من الديكتاتورية". وان "البعض رأى في المتحف ببساطة مبنى حكومياً آخر، وان صدام حسين استغل الماضي العظيم للعراق لدعم نظامه". ويستشهد جوناثان ستيل بما قاله آثاري عراقي من ان اللصوص كانوا بالمئات بما في ذلك "النساء والأطفال والمسنين". وتبدو الصورة وكأننا امام اقتحام سجن الباستيل، وليس المتحف العراقي المسكين. ولا يتردد ستيل بالتأكيد ان هؤلاء "لم يكونوا لصوصاً محترفين يفكرون بأسواق الفن العالمي بمزاداتها وانما اناساً خرجوا يبحثون عن اي شيء يضعون يدهم عليه، وان كان كبيراً وغير قابل للحمل حطموه للتنفيس عن كبتهم"، في اشارة الى تحطيم التماثيل في قاعات عرض المتحف. واذا كانت التماثيل الكبيرة حطمت لأنهم لم يقدروا على حملها، فلماذا احرقت الكتب التي كانت في المكتبات، كالمكتبة الوطنية ومكتبة الأوقاف، وهي قابلة للحمل بسهولة؟ تصب هذا الآراء في خانة حملة الإدانة التي تقودها الولاياتالمتحدة بشراسة لتبرير عدوانها على العراق ممثلاً بالنظام الذي اطاح به الغزاة. ولا يجد حاملو هذا التبرير غضاضة في التعبير عنه، لأن اصحاب العلاقة غير موجودين للدفاع عن انفسهم، وان وجدوا، فهم، كمحمد سعيد الصحاف، وزير الاعلام العراقي، في اول ظهور له في وسائل الاعلام بعد التاسع من نيسان، لا يجرؤون عن البوح برأيهم إما لأنهم خائفون الى حد الرعب، او ربما لأنهم ما زالوا تحت وقع الصدمة من هول ما حدث في الايام الاخيرة قبل سقوط بغداد. وفي شكل عام يمكن القول إن عمليات النهب لا يمكن ان يكون قد قام بها لصوص جائعون "يسرقون الطعام"، او عراة "يسرقون الملابس"، لأن هؤلاء "لا يدمرون الجامعات والمتاحف والمستشفيات والمكتبات العامة والمراكز الثقافية والعلمية ومقار الوزارات والدوائر". وفي شكل يتماشى مع حملة التمويه لتبرير العدوان الاميركي على العراق، هناك من يرى أن عمليات سرقة المتحف هي تغطية لإبعاد كثير من القطع الأثرية من "النظام... قبل السقوط بشهر او اقل بأسبوع"، بحسب احمد كمال الدين الغريفي، من دون ابراز اي دليل على هذا الادعاء. وبالاتجاه نفسه كتبت صحيفة لوس انجليس تايمز" أن الجهات التي اوكلت اليها حماية القطع الاثرية هي نفسها المسؤولة عن أسوأ عمليات النهب لها"، بالاعتماد على من تدعي بأنهم أثاريون عراقيون. فأحد الآثاريين ادعى انه عثر على كنز ملكي آشوري "كان مدفوناً في بئر في احد القصور الملكية" في الموقع الأثري نمرود. هذا الكنز المفترض يتألف من قطع ذهبية وعاجية ثمينة الى جانب 400 هيكل عظمي يقول الآثاري انها لملك آشوري وأتباعه ألقيوا في البئر بعد تصفيتهم. بعد انتشار أنباء السطو على المتحف العراقي مباشرة برزت آراء تلمح الى ان عمليات النهب كانت مدبرة، وهو ما اسرع الى استبعاده، جون و. ليمبرت، الذي عين في البداية مستشاراً ثقافياً لدى قوات الاحتلال، قائلاً: "اذا اعجبتك نظرية المؤامرة، فبامكانك الحديث عنها الى الأبد". غير ان كثيرين "أعجبتهم" نظرية المؤامرة كروبرت سبرينغبورغ، مدير قسم الشرق الاوسط في "مدرسة الدراسات الشرقية والافريقية"، جامعة لندن، عندما ذكر ان المسؤولين الاميركيين والبريطانيين علموا أن المتاحف كانت معرضة للخطر. وقال ان ما حصل لم يكن "نتيجة عدم المعرفة". فإما ان تكون الاتصالات بين المسؤولين في واشنطن والجنود في الميدان غير فاعلة او انه حصل "شيء غير مفهوم"، مشيراً الى ان من بين اللصوص اشخاصاً عرفوا ماذا يريدون. وذكر احد موظفي المتحف انه رأى رجلين "اوروبيي الشكل" يدخلان المتحف مع "الرعاع" ليشيروا الى تحف مختلفة، ثم غادروا المكان. وقد قيل ان جانباً من عمليات النهب قامت بتدبيره جماعات تجار التحف القديمة بالتعاون مع مهربين. والدليل الى ذلك ان "الأبواب الحديد الثقيلة" لم تقتحم، ما يشير الى ان المخازن فتحت بواسطة مفاتيح. كذلك، ان تدمير احد كاتالوغات البطاقات يشير الى ان هناك محاولة للتغطية على عملية السرقة. اضافة الى ان بعض القطع ظهرت في اسواق التحف القديمة في طهران وباريس. وكما قال مايكل روف، الآثاري البريطاني، انه "لا يمكن اعتبار عمليات النهب بأنها فقط تخريب متعمد، اي شكل من اشكال العصيان المدني، وإنما هي اعمال اجرامية منظمة. ان الكلام الكثير عن تجار التحف القديمة وخططهم في اخراج ممتلكات العراق الثقافية من موطنها يحجب الضوء عن دور الوسطاء الذين يقومون بتهريب هذه القطع الى الغرب، وقد يكونون من المهربين المحترفين. فقد أشارت الكثير من التقارير الى تورط افراد عاديين بتهريب القطع، كالصحافيين الذين يعملون في العراق، وضبطت في حوزتهم قطع مهربة اثناء خروجهم من البلاد. وربما اكثر ما يلفت النظر في هذا السياق هو تورط جوزف براوده، الذي ألف كتاباً بعنوان "العراق الجديد: اعادة اعمار العراق من اجل شعبه، الشرق الاوسط، والعالم" صدر في آذار 2003 وبسبب هذا الكتاب اصبح جوزف براوده مرجعاً يستشهد به بالنسبة لمستقبل العراق. هذا الرجل، الذي يهمه اعادة اعمار العراق ليس من اجل الشعب العراقي فحسب بل ايضاً من اجل "الشرق الاوسط" اي جزء من هذا الشرق الاوسط؟ ضبطت في حوزته ثلاثة اختام اسطوانية من العصر الأكدي. وفي اطار "عملية التراث العراقي"، التي اطلقها "مكتب الهجرة والجمارك" الاميركي، كشف النقاب ايضاً عن تورط عدد من الصحافيين والعاملين في وسائل الاعلام الاميركية في تهريب قطع مختلفة الى داخل الولاياتالمتحدة. ومن الجدير ذكره ان سلطات المطارات لم تستنفر الا بعد ضبط مسروقات مع فني يعمل في "أنباء فوكس" في مطار دولس الدولي" فرجينيا في السابع عشر من نيسان والمعلومات التي حصلوا عليها منه أوصلتهم الى ضبط قطع في "مطار لوغن الدولي بوسطن، في حين اقتصرت بقية العمليات على المطار الأول. ويشار الى ان الجنود كانوا ايضاً متورطين في عمليات السطو في احدى الحالات كما اظهرت تحقيقات المكتب المذكور و"قسم التحريات الجنائية" التابع للجيش الاميركي. ان ترك المراكز الحضارية من دون حماية جاء ايضاً نتيجة تباطؤ قوات الاحتلال في توفير الخدمات الاساسية، ومن بينها "الأمن"، وليس فقط لأن الولاياتالمتحدة وبريطانيا لم توقعا على "ميثاق هاغ لحماية الممتلكات الثقافية في حال نشوب نزاع مسلح" لعام 1954. وهناك تقارير تشير الى ان القوات الاميركية شجبت عمليات النهب في شكل مباشر. وقد استمرت الاوضاع الامنية والمعيشية السيئة فترة طويلة بعد سقوط بغداد. اذ استمرت اعمال النهب والسلب للأماكن العامة، وخصوصاً القصور الرئاسية، حتى بعد نشر رجال الشرطة في بداية أيار مايو. ويشير مايكل جانسن الى ان استهداف مراكز الاتصالات بالقصف زاد من صعوبة عودة العاصمة بغداد الى وضعها الطبيعي. وكما لاحظ باتريك كوكبورن، باستغراب، فإن سلطات الاحتلال لم تبدأ بوضع خطة لاستعادة الكهرباء والماء وخدمات الوقود الا في الاسبوع الاخير من نيسان، عندما عقد اجتماع للمسؤولين عن المرافق العامة، مقارناً هذا الوضع بالخطوة الاستباقية للجنرالات السوفيات لدى احتلال برلين عام 1945، عندما استدعوا المسؤولين الألمان عن قطاعات الكهرباء والماء والصرف قبل سقوط المدينة بستة ايام للتنسيق. وثمة غموض يحيط بالدور الذي لعبه "مكتب الهجرة والجمارك"، التابع ل"وزارة الأمن القومي"، فبناء على تصريح رسمي للقائم بأعمال السكرتير المساعد للمكتب مايكل ج. غارتسيا فإنه و"قبل بداية المعارك" جرى نُشر عملاء خاصون من المكتب في الشرق الاوسط، وذلك بناء على طلب من "القيادة المركزية"، وألحقوا بالوحدات العسكرية الاميركية ل"يقوموا بتحقيقات متنوعة في المنطقة". وعندما انتشرت للمرة الأولى انباء نهب المتاحف العراقية اقترح عملاء المكتب في العراق القيام، مباشرة، بمحاولة استعادة المسروقات بالتعاون مع الجيش الاميركي. ولا يشير البيان متى وصل الفريق الى المتحف ليبدأ العمل مع الموظفين في وضع قائمة بالقطع المفقودة، ولا متى بدأوا بالمبيت في المتحف ليبدأ العمل مع الموظفين في وضع قائمة بالقطع المفقودة، ولا متى بدأوا بالمبيت في المتحف لمساعدة الجيش على حمايته من عمليات نهب جديدة. "مكتبة توراتية تحترق" إن أبلغ دليل على التخطيط المسبق، الذي يبدو جلياً في عدم تدخل القوات الاميركية، هو نهب وحرق المكتبات، كالمكتبة الوطنية ومكتبة الاوقاف. فعندما رأى روبرت فيسك ان مكتبة الاوقاف تتعرض للحرق، وهي تقع على بعد 100 قدم من المكتبة الوطنية التي كانت تحترق ايضاً، سارع الى مكتب "الادارة المدنية" التابع لقوات الاحتلال، واعطاهم تحديداً دقيقاً للموقع والاسم بالعربية والانكليزية، وأخبرهم انه يمكن رؤية الدخان على بعد أميال، وأنهم لا يحتاجون الا لخمس دقائق للوصول الى هناك. فما كان من احد الضباط الاميركيين الا ان صاح باستخفاف مخاطباً زميلاً له: "هذا الرجل يقول ان مكتبة توراتية ما تحترق". وبعد نصف ساعة كانت النيران ترتفع الى 200 قدم وتلتهم المكتبة. وأشار فيسك الى ان المحفوظات والملفات القديمة في المكتبة الوطنية كانت في الطوابق العلوية، التي كانت تلتهمها النيران ايضاً، ما جعل فيسك يتأكد ان البنزين قد استخدم بدراية لتوزيع الحريق في كل مكان. وكذلك تشير الأدلة عن عملية السطو على المتحف الى ان هناك استهدافاً لمقر هيئة الآثار والمتاحف بكل ما فيه من وثائق وكتب. فقد لوحظت في مكاتب الدائرة أكوام من الاوراق جمعت لاضرام النار في المبنى، وفشل العمل، ربما عندما فوجئ أولئك بمجموعة اخرى من النهابين. ويعتقد ان النار اضرمت في الكثير من المؤسسات العامة بعد الانتهاء من النهب بفترة. الشعور بأن القوات الغازية كانت ترغب، وعلى الأرجح شجعت، في ان تسود الفوضى في العراق، وخصوصاً في المدن، هو ما أجمع عليه المواطنون العاديون في بغداد. فبحسب احد التقارير كانت هناك اشاعات يرددها تقريباً كل البغداديين بأن "النهب، الذي مزق المدينة كان يقوم به كويتيون او غير عراقيين بتشجيع من الولاياتالمتحدة. وقال احد المواطنين وهو يجوب سوق الجمعة ويرى ما فيه من معروضات للبيع، كمعدات جراحية جديدة وأدوية سرقت من المستشفيات، فيما الأميركيون لا يفعلون شيئاً ويكتفون بالنظر والضحك: نشعر أحياناً انهم يشجعونهم على القيام بكل هذا لكي يقولوا للعالم هذا هو شعب العراق: مجموعة من اللصوص. وترددت انباء ان قوات الاحتلال أحضرت بنفسها مجموعات من اللصوص الغوغاء غير المنظمين ليقوموا بعمليات سرقة وتخريب لاخفاء السرقة المنظمة التي حصلت مباشرة بعد سقوط بغداد. وهذا يتفق مع نتائج فريق التحقيقات الاميركي الذي لاحظ وجود ثلاث مجموعات من اللصوص، الأولى "كانت تعرف ما تبحث عنه واختارت قطعاً من قاعات العرض. والمجموعة الثانية دخلت المخازن وكانت تعرف المتحف وطريقة عمله، والمجموعة الثالثة هي من اللصوص العشوائيين". وهذا يتفق مع شهادة استاذة في جامعة الموصل عبر الفضائيات وهي تقسم بأنها شاهدت بأم عينيها الحافلات الاميركية وهي تنقل اللصوص والرعاع الذين جاءت بهم من خارج الموصل لتدمير متحف الموصل. وبحسب شهادة صباح العمري متحف الموصل كانت هناك مجموعتان من اللصوص، الأولى من "المتخصصين" والثانية من العوام. يظهر التركيز على تدمير الآثار، الممثلة بالمتاحف، والتاريخ، الممثل في المكتبات، كمحاولة للقضاء على الهوية الحضارية التي كانت الحكومة العراقية تعمل على تنميتها بكل الامكانات المتاحة. حتى ضمن ظروف الحصار المفروض على البلاد منذ عام 1991. فقد رفعت الحكومة العراقية رواتب الآثاريين من اربعة دولارات في أوائل التسعينات الى 18 دولاراً شهرياً في عام 2002، ومنحت علاوات كل ثلاثة اشهر، واقتنيت سيارات وأجهزة حاسوب جديدة، وازداد عدد طلاب الآثار في الجامعات. وتمكنت هيئة الآثار والمتحف من اصدار مجلة "سومر" بانتظام، وهو ما يعكس ببساطة وجود سياسة واعية تدرك أهمية الابحاث وتعميمها. يتطلب تطوير هوية قومية وعياً بالجذور التاريخية والحضارية، ولا يمكن لهذا الوعي ان يتحقق من دون الابحاث ووسائلها الممثلة بالكتب المحفوظة في المكتبات سواء كانت هذه مخطوطات او كتباً مطبوعة. ليست هذه نظرة جان - ماري أرنو، الذي جاء الى العراق لمعاينة اوضاع المكتبات بعد عملية التدمير. ففي تقريره يكتب خبير المكتبات الى ان مخطوطات "مركز صدام للمخطوطات" سلمت من الدمار والنهب، ليستنتج انه، بالنسبة الى المكتبات العراقية ككل، "لم تقع كارثة رئيسية". ولا يهم الخبير كثيراً تدمير او فقدان 30 في المئة من مقتنيات المكتبة الوطنية، اي نحو 450 ألف مجلد، و90 في المئة اكثر من 90 ألف مجلد من الكتب المطبوعة لمكتبة الاوقاف، التي يصفها بأنها "دينية"، وليست "عامة" كبقية المكتبات. ان خسارة هذا الكم الهائل من المراجع يعني عملياً تعطيلاً جذرياً لعملية الابحاث، ومكتبة الاوقاف لم تكن تحتوي على "الكتب الدينية" فحسب، او المخطوطات، بل شملت ايضاً الدراسات ونشرات التراث العربي الصادرة عن المراكز الاكاديمية في أوروبا. ومثال "مكتبة الاوقاف" يعكس سياسة واعية وصحيحة لبناء الهوية القومية للعراق الحديث، وهو عملياً ما كان يستهدفه العدوان على العراق، وبخاصة المراكز الحضارية، كالمكتبات. فالقول إن في هذا المجال "لم تقع كارثة رئيسية" مضلل الى حد بعيد. ويعكس ربط المستقبل السعيد للمكتبات العراقية ب"الديموقراطية" خطاباً لا يختلف كثيراً عما نسمعه من مروجي العدوان على العراق، الذين يريدون، في الحقيقة، ان تحكم العراق الشركات الاميركية وليس الشعب. * أكاديمي أردني.