لم يحتجْ إرهابيو "الحالة" المناهضة للغرب حين ضربوا حيث ضربوا، لذريعة تتجاوز عدَّ بعض اليهود والأوروبيين والأميركيين وربما بعض "الصليبيين" من المسيحيين العرب، إذا تعذر غيرهم في الضحايا المحتملين والمقدرين. فعلى هذا جرت أفعالهم الأخيرة، من اغتيال وعمليات "استشهادية"، بين المشرق والمغرب. ولا تشذ استانبول عن هذا "التعليل". وليس جوار العراق، وهو اليوم المسرح الأثير والمقدم في خطط اصحاب "الحالة" وبعض أصدقائها، إلا ذريعة تشفع بالذرائع الأخرى وتقويها. ولكن الذريعة الأعظم - على مثال "المشرق الأعظم" الذي ينتسب اليه "فرسان" إحدى المنظمات الإسلامية التركية الصغيرة - هي، على الأرجح، السياسة العامة التي ينتهجها منذ انتخابات تشرين الثاني نوفمبر 2002، حزب العدالة والتنمية، المتحدر من حزب نجم الدين أربكان الفضيلة الإسلامي، وقبله حزب الرفاه الذي أنشأه أربكان نفسه وقبله أنشأ حزبيه: الخلاص الوطني، والنظام الوطني في 1970. فقصف استانبول الأعمى مرتين في أسبوع واحد إنما يتوجه، أولا، على السياسيين الجدد الذين يحاولون الجمع بين الدولة الوطنيةالأتاتوركية وبين احتياجات المجتمع التركي السياسية والاجتماعية والثقافية. وذلك غداة تغلب الأولى على الانفصال الكردي، وسقوطها في امتحان إعمال هذا الانتصار في انتزاع المجتمع التركي من نزعات العنف، والاحتكام اليه في المنازعات الداخلية. ولعل أشد ما يقلق أهل "الحالة" المناهضة للغرب في تركيا تسعى في دخول الاتحاد الأوروبي، هو تولّي هذا الدخول قيادة حزب العدالة والتنمية هذا. فهي قيادة سياسية لا تتستر على تحدرها من التيار الإسلامي المناهض الوجه الاداري القمعي من الكمالي الأتاتوركية، من وجه، ولا على اندراجها في التحديث الأتاتوركي وورثتها، فعلاً وعملاً، ثمرات الدولة والمجتمع "الكماليين"، من وجه آخر. ولا ريب في أن التجديد الأبرز لقيادة الحزب الوسطي يظهر على أجلى وجه في وراثتها الدولة العلمانية وداعية الأوروبية أو التحديث من غير انقطاع ولا انقلاب على الهيئات السابقة. فولَّت الحزبَ قيادةَ الدولة انتخاباتٌ نزيهة وعادية، أقرها البرلمان السابق في أوائل آب أغسطس 2002 حين اقترع على حل نفسه تلقائياً. وأرفق قراره هذا بإلغاء عقوبة الإعدام، وإجازة تعليم اللغة الكردية، وطوى الإجراءات الجزائية في حق منتقدي الجيش والهيئات الرسمية الأخرى. ولم يتلكأ البرلمان السابق في استخلاص بعض نتائج قراراته. فبدَّل الحكم بإعدام عبدالله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني السابق وزعيم حركته الانفصالية 1984 - 1999، حكماً بالسجن المؤبد. وأبقى على قانون انتخابات أكثري وليس نسبياً يتيح للحزب الذي يجمع نحو ثلث الأصوات وحصل حزب العدالة والتنمية على 3،34 في المئة منها الحصول على ثلثي مقاعد البرلمان عاد 64 في المئة منها الى حزب أردوغان وغول. واحترم الحزب، ورئيس الجمهورية أحمد نجدت سيزير العلماني الكمالي، مراسم الانتقال الديموقراطي. فلم يلح الحزب في رفع الحظر القضائي عن ترشيح زعيم الحزب، طيب رجب أردوغان، من غير إبطاء. ولم يؤخر الرئيس التركي رفع الحظر الى أبعد من الثلث الأخير من كانون الأول ديسمبر، بعد شهر ونصف الشهر على اقتراع الكثرة الجديدة عليه. فانتظر اردوغان انتخابه نائباً قبل تولي رئاسة الوزارة، في آذار مارس 2003، على رغم الظروف والحوادث الداهمة التي لابست الشهور العصيبة هذه. ولم تحل موازنة المصالح بين الكثرة النيابية الجديدة وبين التصدي الحازم والسريع لبعض ركائز السيطرة البيروقراطية والسياسية الكمالية. فأقر مجلس النواب اجراءات يترتب عليها تضاؤل ثقل الدولة، معقل المحافظة الاتاتوركية العسكرية والمدنية، في الحياة العامة. فنَقَل البرلمان بعض السلطات والصلاحيات الى الادارات والمجالس المحلية، وابتدأ اصلاح التعليم العالي بإرخاء قبضة الادارة السياسية والايديولوجية عنه، وعجَّل اجراءات الخصخصة أو التخصيص. وفي كانون الأول، رفع حال الطوارئ عن محافظات الجنوب الشرقي، وتسري احكام الطوارئ فيها منذ 1978. وكانت المطالبة السياسية والصحافية بإجراء واحد منها تعرض المطالب، فرداً أو جماعة، للملاحقةالقضائية، وتهمة العمل على إضعاف الروح الوطنية، والردة على وحدة الدولة، والتشكيك في الجيش. ولم تتجاوز مصالحة العلمانية والقيم الاجتماعية أي الاسلامية الغاء الحظر على ارتداء الطالبات الجامعيات غطاء الرأس أو المنديل في الحرم الجامعي، من غير أن يتعداه الى احتفالات الدولة. ووضع زوجات المسؤولين المنديل على رؤوسهن في المناسبات الرسمية لا يزال موضع خلاف. ورضي الجيش - وكان ممثلوه يتقاسمون مناصفة5/5، عضوية مجلس الأمن الوطني، الهيئة السياسية النافذة الكلمة في قرارات الهيئات الأخرى المنتخبة - اقتراع البرلمان، في كانون الثاني يناير 2003، على زيادة عدد المدنيين في المجلس، وترجيح كلمتهم على كلمةالعسكريين. ورعت حكومتا غول وأردوغان السياسة الاقتصادية المتقشفة التي اضطرت اليها حكومة أجاويد السابقة في الحقل الاقتصادي، غداة الأزمة المصرفية والنقدية في أواخر 2001، وكان ثمنها خسارة تركيا 7 الى 10 بلايين دولار. فلقاء قرض 16 بليوناً من صندوق النقد الدولي أقنعت الكثرة البرلمانية الجديدة العمال والمستخدمين، ومن يتقاضون أجراً ثابتاً عموماً ومعظمهم قاعدة حزب العدالة والتنمية الانتخابية والبلدية، بالتقيد بالغاء حمل الرواتب والزيادات على مؤشر التضخم، وربطها به. وأدخل هذا الربط الاقتصاد التركي في دوامة مفرغة من زيادات الأسعار والأجور. فأضعفت الدوامة هذه الإقبال على الاستثمار، وسممت العلاقات الاجتماعية، وفاقمت الاجحاف في توزيع عائد العمل، ونشرت الفساد في ثنايا الاقتصاد. وكان تدني نسبة التضخم، من 86 في المئةالى 45، في 2002، من ثمار التقيد هذا. وتقيدت الكثرة الجديدة بالسياسة الخارجية التقليدية التي تنتهجها الدولة التركية، الغربية المنزع. فانتقلت قيادة القوة الدولية في أفغانستان، في حزيران يونيو 2002، الى الفوج التركي. فخلف الفوجَ الألماني على هذه القيادة. ونهض هذا قرينة على اضطلاع السياسة التركية، على المسرح الدولي، بتبعات تتولاها الدول الأطلسية، وتحجم معظم الدول "الإسلامية" عن توليها، حين لا تعمل قصاراها على مناوأتها والتنديد بها ومحاربتها. وامتحنت حرب العراق السياسة التركية التقليدية. ولكن الحزب الأكثري لم يقسر برلمانييه، ولا قاعدته الانتخابية المتحفظة، على قبول قرارات القيادة الديبلوماسية والعسكرية في شأن العراق وحربه الوشيكة يومها. فاقتصر الأمر على الإجازة للقوات الأميركية التحليق في المجال الجوي التركي، على ما كان الحال عليه منذ 1991، واجراء رعاية الحظر الجوي شمال خط العرض 34 حمايةً للمنطقة الكردية العراقية. ولم يخالف التخلي عن ارسال عشرة آلاف جندي تركي، في تشرين الأول المنصرم، نزولاً عند رغبة عراقية، النهج نفسه. وهو نهج يرعى مصالح ومنازع متباينة، وربما مختلفة، ويحاول الموازنة بينها من غير تعسف، أو تقديم مصلحة على أخرى. والتزام المضي على تنقية العلاقات التركية واليونانية والمسألة القبرصية عنصر من عناصرها، بين عدوين سابقين لدودين، قوميين ودينيين، وجه من هذا النهج. وتندرج العلاقات التركية والاسرائيلية فيه. ومن الجلي أن ناظم الاجراءات والمبادرات هذه، في السياسات الداخلية والاقليمية والدولية على حد واحد، هو ما يسميه المراقبون "الدينامية الأوروبية". والخروج من المنازعات الأهلية والقومية، وطي انتهاك حقوق الانسان والمواطن في الرأي والتجمع والاعتقاد والتعبير والملكية، وموازنة هيمنة الدولة والبيروقراطية بالحقوق الفردية والجماعية المشتركة والقضاء المستقل، وبعث النشاط في الانتاج وإرساء التوزيع على موازين عادلة - هذه كلها شرطها الأول، وجزاؤها، دخول أوروبا. ومعظم الاجراءات التي سبقت حكومة أجاويد اليها، وتلك التي أقرتها حكومتا "العدالة والتنمية"، إنما أقرت تقييداً بالاشتراطات الأوروبية. وجزء لا يتجزأ منها حرية الاعتقاد والتجمع، والمساواة بين المواطنين، وبين الأقوام، فلا يتقدم العسكريُّ المدنيَّ، ولا التركيُّ الكرديَّ، ولا الكماليّ الأتاتوركي المحافظَ أو اليساريَّ... والدولة التركية التي تخطو هذه الخطوات في إطار قريب من الإجماع الوطني - وهو إطار تخطى على الأرجح الانقسام الذي ولدته الكمالية والمنازع الانفصالية والمحافظة "الإسلامية" المنكفئة الأربكانية - هذه الدولة انما تستجيب دعوات المجتمع التركي واحتياجاته الناشئة عن أطواره في العقود الثلاثة الأخيرة. ففي العقود الثلاثة الأخيرة بلغ أحفاد وحفيدات أتاتورك الرشد، وهاجر ملايين الأتراك الى أوروبا واستوطنها شطر منها وعاد ويعود شطر آخر، وانهزمت محاولات الانفصال، والتأمت الجروح القديمة، ومضى نصف قرن على دخول تركيا حلف الأطلسي، واستنفدت سيطرة البيروقراطية أغراضها وانقلبت معوقاً يحول بين معظم الأتراك وثلثاهم لم يبلغوا الثلاثين وبين تلبية احتياجاتهم الجديدة، وانحسرت المخاطر الاقليمية والدولية الداهمة... وبناء على هذا كله جاز أن يتولى انتقال تركيا الى الديموقراطية، والى الاتحاد الأوروبي، من قدموا من أطراف السياسة التركية وحواشيها. ولكنهم قدموا من قلب المجتمع التركي، وطبقته المتوسطة المتعاظمة الأثر. واعتذار أردوغان عن "ثغر" ربما في عمل الأجهزة الأمنية قرينة لا تخطئ على مدنية السلطة الجديدة. واستانبول بمنزلة القلب من المنازع الجديدة. ففي غضون السنتين المنصرمتين ساوى القانون الجزائي التركي النساء بالرجال في الزواج وتبعاته، واجتمع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي بوفد من أمانة المؤتمر الإسلامي لمناقشة صدام الحضارات وحوارها باستانبول، وأقيم مهرجان السينما الدولي فيها، وشارك 180 شريطاً في المباراة... واستانبول كانت إحدى عاصمتي الهلِّينية والأخرى أثينا، وملجأ اليهود المنفيين من اسبانيا قبل خمسة قرون، واحدى حواضر الارثوذكسية "الفنارية". وفي منازعة معنوية ورمزية - وإرهاب "القاعدة" وأقرانها يغلب منزعه المعنوي والرمزي منازعه الأخرى - تنهض استانبول، وارثة بيزنطية والقسطنطينية، من غلاطة سراي الى حي بيوغلو، عَلَماً على مدنية رحبة وقوية من غير تعسف. * كاتب لبناني.