بعد نحو قرن على سفور القومية الطورانية (1908م)، وثمانية عقود ونيف على هيمنة الأتاتوركية التي أمعنت في التغريب وفي الاستعلاء على الشرق كانتماء حضاري، وعلى الإسلام كهوية تاريخية، بدت تركيا مطلع القرن الحالي وكأنها أعادت اكتشاف نفسها كدولة قومية نعم، ولكنها جزء من جغرافيا الشرق الحضاري، وامتداد للهوية الإسلامية التاريخية، حيث تجاوزت تجربة العدالة والتنمية ذلك المفهوم الأحادي للهوية والذي ساد سواء في الحقبة الأتاتوركية ك «أصولية علمانية» ادعت حق تمثيل الهوية الثقافية لتركيا معظم القرن العشرين، أو إبان حقبة «العثمانية التقليدية» طيلة أربع قرون سابقة على القرن العشرين، إلى مفهوم جدلي وانتماء مركب للهوية صاغ «عثمانية جديدة» تصالح داخلها الإسلام مع الحداثة، عند نقطة توازن لا تتنكر لقوة الحضور الغربي في العالم، ولا لجاذبية قيمه الفكرية والسياسية، ولكنها في المقابل تضع هذا الحضور في موضعه، ولو ثقافياً فقط، باعتباره تجربة في التاريخ وإن كانت زاهرة، وليس وصفة سحرية للتقدم كما تصورتها النخبة الكمالية. هذه الصياغة كانت نتاجاً لعمليتين جدليتين متكاملتين: العملية الأولى داخلية، جرت وقائعها في إطار الصحوة الإسلامية نفسها، وفي اتجاه إعتدالي من مرحلة جبهة «الشرق الأعظم» بقيادة نسيب فاضل في الستينات والذي حاول تنهيج دعوته الى إعادة بناء «إمبراطورية الشرق الإسلامي» ولو من خلال العمل السري بل والمسلح، ما كان يعني أن وجهته كانت الى الماضي، أكثر مما هي الى العصر، وتخاطب العثمانية التقليدية، بأكثر مما تخاطب الروح القومية الحديثة. وبدافع من ماضويتها، كان فشلها حيث انسلخ عنها نجم الدين أربكان، تلميذ نسيب فاضل، والذي دشن المرحلة الثانية فى مسار «العثمانية الجديدة» إبان الثمانينات والتسعينات تحت مسمى «النظام العادل» الذي تم تركيبه على أكثر من حزب سياسي بدءاً من «السلامة الوطني» أوائل السبعينات، وصولاً الى «الرفاه» الذي دخل باسمه، منتصف التسعينات، في ائتلاف حاكم فشل في الحفاظ على قيادته تحت ضغوط العلمانية والجيش. وبعد فترة اضطراب قصيرة داخل الحركة الإسلامية، شهدت صراعاً على قيادة حزب «الفضيلة»، ثم انقسام الفضيلة بين حزب «السعادة» ذي النهج الأكثر محافظة، وبين حزب «العدالة والتنمية» بزعامة رجب طيب أردوغان، بدأت المرحلة الثالثة الأكثر اعتدالاً ونجاحاً في حياة العثمانية الجديدة، بصعود العدالة والتنمية الى موقع السلطة منذ عام 2002، ونجاحه في تعزيز مواقعه في انتخابات 2007، ثم في 2011. وهكذا أثبتت العثمانية الجديدة قدرة هائلة على التطور حيث سارت في اتجاه اعتدالي تجاوزاً للمنهج الثوري، والعنيف لفاضل في جبهة الشرق الأعظم، وللنزعة الحضارية الإنكفائية لدى أربكان في النظام العادل والذي أراد إستقلالاً اصطناعياً واقتصادياً لتركيا عن الغرب، يوفر لها نوعاً من الاستقلال الحضاري، حتى بدت، مع العدالة والتنمية، قادرة على التطبيع مع الإسلام، رغم ما أثارته النخبة العلمانية من حساسيات تجاه بعض القضايا الفرعية من قبيل حجاب المرأة في المؤسسات العامة، والمدارس الدينية، أبدى الحزب تفهماً لها في البداية، وتمكن بسلاسة من تهيئة المناخ العام لقبولها، إلى درجة جعلت بعض المتشددين يتهمون أردوغان آنذاك ب «التواطؤ مع العلمانية»، والى التشكيك في «ضميره» الإسلامي. وأما العملية الثانية فخارجية دارت بالأساس بين التيارين الإسلامي والعلماني في مسار توازني، يبدو محكوماً بمفهوم الجدل الهيغلي بين النقائض الموجبة والسالبة، حيث كانت الخلافة العثمانية تمثل الصورة الأولي/ الأصلية أو الموجبة للهوية التركية، والتي استمرت قائمة نظرياً حتى إعلان الجمهورية عام1923 وسقوط الخلافة رسمياً عام 1924. ولكن المنطق الجدلي يؤكد على أن الصورة السالبة / الأتاتوركية كانت تخلق في رحم العثمانية التقليدية القائمة على الإقطاع الديني العسكري، ومع زحف العصور الحديثة على أنقاضها، وهي العملية التي تسارعت إبان عصر التنظيمات منذ 1839، ثم تنامت مع إعلان أول دستور عام 1876، مروراً بتكوين جمعية الاتحاد والترقي التي أجبرت السلطان عبدالحميد على إعادة العمل بالدستور عام 1908، ثم الحرب التحريرية التي قادها كمال أتاتورك انطلاقاً من فضاء الدولة الوطنية وليس الإمبراطورية التاريخية كزعيم وطني حرر الأرض التركية في مواجهة المحتلين الفرنسي والإنكليزي بعد الحرب العالمية الأولى، وهي اللحظة التاريخية نفسها التي شهدت انقلاباً في اتجاه الجدل بين طرفي الصورة فباتت العلمانية الأتاتوركية بمثابة الصورة الأصلية أو القطب الموجب للجدل بديلاً للعثمانية التقليدية التي أخذت في التواري تحت سطوة عملية التغريب العنيفة التي قامت بها النخبة الأتاتوركية عبر الجيش والقضاء والبيروقراطية، فحاولت إلغاء رموز الهوية الإسلامية، كالخلافة نفسها عام1924، وإلغاء الطربوش وحل الطرق الدينية عام 1925 وتبني القانون السويسري عام1926، وإلغاء اعتماد الإسلام كدين رسمي للدولة عام 1928، وتغيير حروف الكتابة من العربية إلي اللاتينية عام 1928، ورفع الأذان بالتركية عام 1932. غير أن سطوة التغريب من خلال علمانية متطرفة، لا تأخذ الموقف المحايد من الدين كما في السياق التاريخي/ الغربي بل تعاديه على المستوى الاجتماعي والطقوسي، استفزت في مواجهة العلمانية الأتاتوركية، كصورة «موجبة» للهوية، نزعة عميقة وإن خافتة لإحياء الإسلام الذي كانت عملية التغريب قد قمعته فقط دون قدرة على اقتلاعه من وجدان الإنسان التركي، باعتباره معيناً للهوية والخلاص الفردي والروحي في مواجهة قسوة عملية التحديث وتعثرها في الوقت نفسه. بالطبع لم يكن الإسلام المنبعث من جديد هو الإسلام الموروث بمكوناته ومقولاته ومفرداته التقليدية، بل إسلام حديث ينطوي على عمق وطني وقومي، وروح أكثر ديموقراطية، وتوجهات اجتماعية تقدمية واقتصادية متحررة، وهي المقومات التي جعلته منذ تسعينات القرن الماضي، طرفاً قوياً في الجدل حول الهوية، سرعان ما تحول مع حزب العدالة والتنمية إلى الصورة الموجبة، باعتباره حزباً علمانياً لا يعادي الإسلام في المجتمع ولكن لا يسعى إلى فرضه على الدولة. ومن ثم فهو ينتصر للعلمانية في تقاليدها الأوروبية الراسخة، على حساب الكمالية كصيغة أصولية منها، ترفض الدين في السياسة والمجتمع معاً. هذا التطور التاريخي في الهوية الثقافية، رافقته صياغة استراتيجية لدور تركي جديد في الإقليم، اتخذ مواقف مغايرة من قضايا المنطقة لا يمكن إدراك حجمه الحقيقي إلا بالقياس مع المواقف السابقة للنخبة الأتاتوركية، التي ارتكزت على التحالف الإستراتيجي مع إسرائيل وتأييدها تأييداً أعمى في جل صراعاتها مع العرب. كما وجدنا تحولاً جذرياً عن الخطاب السياسي المتمركز حول الانتماء الحضاري لأوروبا، والإستراتيجي لحلف الأطلسي، إلى خطاب يؤكد على الانتماء الحضاري للعالم الإسلامي، وإنصاف الحق العربي، الأمر الذي جعل من الحضور التركي الإستراتيجي، لنحو عقد تقريباً، قوة استقرار، وجسراً للتفاهم بين العرب والغرب. غير أن فترة الولاية الثالثة لحزب العدالة والتنمية، شهدت تآكلاً غير مبرر في الصيغة التوازنية بين العلمانية والديموقراطية داخل تركيا، رافقه تآكل آخر في علاقتها الخارجية بالمشرق العربي، تغذى على هزات الربيع العربي، وما تلاه من صعود سريع، ثم هبوط زاعق للإسلام الإخواني، الذي تبناه أردوغان، والذي بدا هو نفسه، وحزبه، متقدمين عليه داخل تركيا في السنوات الثلاث الماضية، خصوصاً في ظل العداء الشخصي المتنامي مع فتح الله غولن، وحركة «الخدمة» التي طالما مثلت قاعدة لإسلام حضاري يتجذر في الروحانية الصوفية لدى سعيد الزمان النورسي، وهي نفسها القاعدة التي انطلق منها حزب العدالة والتنمية وتأثر بقيمها العديد من قادته ورموزه، ما يعني نوعاً من العطب في آليات اشتغال النموذج، وابتعاده عن منطلقاته التأسيسية، عبر عن نفسه بقوة مفرطة في الموقف التركي من تنظيم «داعش»، ومن الصراع في سورية، وبالأحرى في العلاقة المتوترة مع مصر، بدافع من سوء القراءة وخلطه بين الإسلام الحضاري المفترض أن حزبه يجسده، كما تجسده مصر أصلاً، وبين الإسلام السياسي الذى جسده الإخوان. انعكس هذا التآكل المزدوج في تراجع التصويت له من نحو 50 في المئة إلى 40 في المئة في انتخابات 2015، واضطراره لإجراء انتخابات مبكرة مكنته من تشكيل حكومة ولكنها حرمته من النسبة المطلوبة لتعديل الدستور، على طريق صياغة نظام رئاسي، يحوز فيه رئيس الدولة سلطات فعلية موسعة، تجعله حاكم البلاد الفعلي وليس رئيس الوزراء كما هو الشأن الآن. وبدلاً من أن يبدأ الحزب مساراً تصحيحياً لاستعادة حضوره في الساحة السياسية، والذي كان تشوه كثيراً منذ أحداث تقسيم، وما رافقها من تباطؤ نسبي في معدلات النمو الاقتصادي، إذا بقائده يدخله في أزمة تلو أزمة، بهدف فرض النظام الرئاسي واقعياً، بغض النظر عن الدستور، حيث أصر على التحكم في تشكيلة الحكومة وفي سياسات الحزب، وبخاصة في ما يتعلق بالتصعيد ضد الأكراد، وعلى حصار الصحافة والإعلام في الداخل، والتردد في التعاطي مع الاتحاد الأوروبي في مشكلة اللاجئين السوريين، والمبالغة في العداء مع مصر، وهو ما أدى إلى صدام ناعم بين الرجلين، تم على أثره إبعاد داود أوغلو، رفيق درب أردوغان لنحو العقد ونصف العقد، مستشاراً له، ثم وزيراً لخارجيته، ثم رئيس للوزراء وزعيماً للحزب الذي ظل هو قائده التاريخي، بعد أن كان قد أزاح رئيس الجمهورية السابق عبدالله غُل، صديقه ورفيقه أيضاً في الحزب والحكومة، ما يكشف عن قدرة أردوغان الكبيرة على السيطرة على مقاليد الحزب. غير أن ما لا يدركه أردوغان هو أن تلك السيطرة على الحزب لا تعني السيطرة على الدولة، بل إن البقاء في وضعية الحزب المهيمن على النظام السياسي باتت مهددة بالتحولات شبه الانقلابية ضد العلمانية التركية المعتدلة، والديموقراطية، التي لم يكن لينجح في حكم البلاد من دون التأكيد عليها، وإبداء احترامه لها، وأما السير فى الطريق العكسي، حيث المزيد من الأسلمة والمزيد من التحكم في الاعلام، والمزيد من التدخل في القضاء، والمزيد من حصار الأنصار والتنكيل بهم، جميعها أمور تفضي إلى سقوط النموذج، ولعل هذا هو الدرس الأساس الذي يجب تعلمه من الإنقلاب العسكري الأخير، حيث خرج أردوغان شبه منتصر بقوة المجتمع المدني الذي أبدى تماسكاً في مواجهة الإنقلاب حفاظاً على مكتسباته الديموقراطية، التي كان قد حاول هو نفسه التقليل منها، وأيضاً بقوة وسائط التواصل الإجتماعي التي استخدمها هو نفسه في حشد مناصريه، بعد أن أفرط في حصارها ومنع بعضها. وأخيراً بقوة الطبقة السياسية المدنية، التي طالما عارضته وطالما سعى إلى تهميشها خصوصاً النخبة العلمانية المتمحورة حول حزب الشعب الجمهورى، ولكنها سرعان ما تجاوزت خلافاتها معه، وأعلنت منذ اللحظة الأولى رفضها الإنقلاب ودعوتها الجيش للعودة إلى ثكناته. لقد انتصر المجتمع التركي لنفسه، ولديمقراطيته، وانتصرت الطبقة المدنية لوجودها ودورها الطبيعي، ولم ينتصر هؤلاء لأردوغان، أو لحزبه، أو لميوله الاستبدادية، ومن ثم يتعين عليه قراءة الرسالة جيداً، بغية التحرك في الاتجاه الصحيح، نحو مزيد من التصالح مع معارضيه، خصوصاً من النخبة العلمانية والأكراد، وهنا نصبح أمام إمكانية لاختراق سياسي يصالح نهائياً بين العلمانية والديموقراطية، ويجعل هذا الإنقلاب هو الأخير في التاريخ التركي الحديث. وربما في اتجاه سلبي جداً إذا ما أساء قراءة الانتصار باعتباره نتاجاً لقوة حزبه، أو زعامته الكاريزمية، أو تفويضاً لممارسات أكثر إقصائية للنخبة العلمانية، وانتقامية من الجيش والقضاء، فهنا يتعمق الإنقسام المجتمعي، وتزداد الإضطرابات حتى يفقد الرجل وحزبه كل المتعاطفين معهم، ما يمثل إفلاساً لنموذج العدالة والتنمية برمته، وقد يمثل مقدمة لانقلاب مدني عليه، من أولئك الذين دافعوا عنه، بعد أن غادر مربع الإسلام الحضاري إلى دائرة الإسلام السياسي.