لم يكن الحصول على "الخبز الحافي" بالأمر الهين، كان يشبه مغامرة في البحث عن صندوق مقفل لا تدري أين خبئ، وشهوة فتح قفله تتقد في داخلك. تدور الأحاديث عن هذا الصندوق وتكثر الهمسات والضحكات بين الأصدقاء، وكل ذلك يزيدك رغبة في أن تذوق طعم هذا "الخبز" عله يشفي بعض نهمك. وتظل تبحث عن هذا القرص المتخيل مستجدياً الحصول عليه من صديق، أو تصوير نسخة منه، أو شراء نسخة أصلية بثمن باهظ، لكن كل ذلك لا يهم، لأن الوهم هو أن تظفر بهذا القرص من "الخبز" الساخن والخارج لتوه من "التنور". هكذا كان "خبز" محمد شكري في ذاكرة الشباب الخليجيين، وكأن شكري خباز "هوليّ" تصطف على باب دكانه طوابير من الناس بغية الحصول على عدد من الأرغفة الطازجة والساخنة لموائد طعامهم. ل"الخبز الحافي" طعمه الخاص، بل وتاريخه، ومغامراته، فما إن تقتنيه، حتى يحرقك بسخونته، لتتناوله قطعة قطعة، وكأنك بالفعل تحمل رغيفاً ساخناً لا تستطيع ان تمسكه بيدك من شدة سخونته، كما انك لا تستطيع أن تأكله دفعة واحدة وبسرعة. كان الشباب يقرأون "الخبز الحافي" بالتقسيط، فترى الواحد منهم يقرأ جزءاً ويعود فيغلق الكتاب، يستغفر الله تارة، ويستلذ بما تحكيه الرواية تارة أخرى. تتنازعه نفسه بين أن يكمل رواية "فاجرة"، سيكون "مأثوماً" بسببها، وأن يضيع على نفسه متعة "التخييل"، والعيش في جو مختلف لم يُعهد بهذا الشكل والصراحة في الخليج. كثرٌ من تركوا الرواية جانباً لكي يستوعبوا المفاجأة، وكثرٌ من دسّوها تحت "منامه" أو في مكان "آمن" لا تصله يد الأهل وخصوصاً الأم أو الأخوات، وقلّة من وضعوها في المكتبة في مكان ظاهر، وكأن هذا الرغيف له طاقة جوانية تجعله ساخناً باستمرار، فهو لا يبرد أبداً. أتذكر المرة الأولى التي حصلت فيها على الرواية عندما جلبها لي أحد الأصدقاء من البحرين، قرأتُ منها أربعين صفحة ولم أكملها ووضعتها جانباً في مكان آمن. لم أستطع في البداية استيعاب عالمها، فيما أخبرتني صديقة انها دست جسدها ووجهها تحت الفراش خجلاً من الرواية! لعل هذه الرواية جسر نقطعه الى عوالم روائية أوسع وأكثر فسحة وجرأة. كان محمد شكري عبر "الخبز الحافي" و"الشطار" "نافذة للتلصص" يبصر الشباب من خلالها عوالم كانت بعيدة عنهم، بعضها محرم عليهم، والبعض الآخر غير متخيل بتاتاً. كانت نافذة سحرية، تدخلك في مربعها السحري، لا تمهلك إلا أن تطل من خلالها، تطل في خفية من أهلك ومن الناس، جابرة إياك على أن تكرر النظر والتلصص عبرها مرة تلو أخرى، بعد أن تضع روحك مزهرية على شرفتها.