نشر للدكتور هشام شرابي، الاستاذ المرموق في جامعة "جورج تاون" في واشنطن، مقال مدهش في ملحق "آفاق" في جريدة "الحياة" 21 نيسان/ ابريل 1999 بعنوان "محمد شكري في طنجة"، عن لقاء له مع الكاتب المغربي المعروف صاحب رواية "الخبز الحافي" التي أحدثت في الآونة الأخيرة ضجة كبيرة في القاهرة واعتبرها بعضهم منافية للآداب العامة، ومن ثم لا يجوز تدريسها للطلاب. ووجدت المقال مدهشاً لأن جوهره الإشادة والثناء على الكاتب المغربي، وكنت قرأت الرواية في مناسبة الضجة التي ثارت حولها، وكان رأيي فيها سلبياً تماما، ووجدتها فعلا تخدش الحياء بلا مبرر، ومن ثم لا يجوز تدريسها للطلاب، صغاراً أو كباراً، وأنها، فضلا عن ذلك، لا تتضمن أي قيمة فنية عالية تبرر التغاضي عن نقائصها الاخلاقية. وتعجبت بعد قراءة هذه الرواية من هؤلاء الكتاب الذين اشادوا بها في مصر، وأثنوا على كاتبها، وقالوا إنها لا بد ان تكون رواية عظيمة مادامت ترجمت الى لغات اجنبية عدة وبيع منها هذا العدد الكبير من النسخ، ونشرت بعض الصحف في مصر، مع بعض هذه المقالات التي اشادت بالرواية، صورة لمحمد شكري وهو واقف بجوار قبر الكاتب الفرنسي الشهير جان جينيه، تأكيداً بالصورة لما ذكروه بالكلمات عن أوجه الشبه بين الكاتب الفرنسي والكاتب المغربي. أعتقد انه اذا كره امرؤ كتاباً او رواية يجب ألا ينخدع بكثرة عدد من اعجبهم الكتاب أو الرواية، بل ولا بعدد اللغات الاجنبية التي ترجم الكتاب اليها. فقد تكون للأمر اسباب خفية لا تتعلق بالقيمة الحقيقية للكتاب. ومن حق المرء ان يشك في المعايير التي تحكم اختيار ما يترجم وما لا يترجم من المؤلفات العربية الى لغات اجنبية. المهم عندي الآن ما كتبه الدكتور هشام شرابي عن محمد شكري. ذلك أني عندما ادركت ان للدكتور شرابي مقالاً عن هذا المؤلف المغربي، لم استطع مقاومة الرغبة في أن اعرف رأي هذا الاستاذ المرموق في هذه الرواية التي ذكرت للقارئ رأيي فيها، مستعداً لأن اقرأ رأياً قد يثنيني عن رأيي، مع أمل ضعيف بسبب كثرة ما قرأت في الثناء على الرواية، في أن أقرأ شيئا يتفق مع رأيي. ولكن الواقع ان املي خاب بشدة في المقال، إذ انني وجدت ثناءً عاطراً من دون أي سبب مقنع أو دليل ناصع يؤيد هذا الثناء. يبدأ الدكتور شرابي بالمقارنة بينه هو نفسه وبين محمد شكري. وهذا قد يكون جائزاً ولا غبار عليه، يقول: "كان العالم الذي عشت فيه عالم المحظوظين، وكان عالمه عالم المسحوقين والمهمشين. كتب عن الفقر والقهر والجوع الجنسي، وكتبت عن الفكر والسياسة واشكالات التغيير الاجتماعي". كل هذا صحيح ولكنه لايتضمن أي شيء يتعلق بالطريقة التي كتب بها محمد شكري عن عالمه "عالم المسحوقين والمهمشين"، فهناك بالطبع طرق عدة، كما لمحت للكتابة عن هذا العالم أو ذاك، وقد ينجح بعضهم في ذلك ويفشل آخرون. وإنما كان اول ما أدهشني في مقال الدكتور شرابي، هو ما أتى بعد هذه المقارنة مباشرة، إذ يقول: عندما تطرقت في "الجمر والرماد" وفي "صور الماضي" الى موضوع الجنس، كنت عاجزاً عن الكتابة الصريحة، اما محمد شكري فيكتب عن الجنس كما نتحدث عنه في جلساتنا الخاصة، بصراحة، ومن دون تورية او خجل انه الكاتب العربي الوحيد الذي يتحدث في الممنوع والمحجوب واللا مقال بصدق وصراحة، ويكشف عما نحجبه في ما نكتب وما نقول ونعمل، محمد شكري هو جان جينيه العرب، ربما جاء قبل أوانه. عندما اقارن اسلوبه بأسلوبي في "الجمر والرماد"، حيث احاول تناول موضوع الجنس، اكتشف معنى شجاعة الكلمة التي لا تساوم". وتصادف انني كنت اقرأ قبل مطالعة هذا المقال بأيام في المجلد الأخير للأعمال الكاملة لذلك الكاتب السوري الفذ "سعد الله ونوس" الذي احتوى على وصف طويل للقاء وحوارات جرت بينه وجان جينيه نفسه، الذي يقال ظلما ان محمد شكري هو شبيهه وقرينه، فوجدت جان جينيه في احد هذه اللقاءات يوجه اللوم الشديد الى المثقفين العرب بسبب ما يبدونه من عقدة نقص ازاء الغرب مع ان الحضارة الغربية على حد تعبيره "تمت وانتهت، إنها الآن في طور الاحتضار او الموت، فماذا يمكن ان تتعلموا من حضارة تحتضر او تموت". ثم يستطرد جان جينيه مخاطباً المثقفين والسياسيين العرب معاً: "أنتم تتخبطون في لعبة مرايا شبيهة بشباك العنكبوت... انظر الى اهتمام زعماء المقاومة ومثقفيها بما تكتبه الصحف الاوروبية عنهم. احياناً أحس انهم يتصرفون وفقاً لما يمكن ان يرضي هذه الصحف وقراءها". وهكذا كان شعوري بالضبط عندما قرأت كلام هشام شرابي وهو يلوم العرب لأنهم لا يتكلمون على الجنس بالصراحة نفسها التي يحب الغربيون ان يتكلموا بها. وبقدر ما عجزتُ عن التعاطف مع هشام شرابي في هذا الشأن، تعاطفتُ مع والدته، التي يقول هشام شرابي انها عندما قرأت سيرته الذاتية: "اعترضت... على مشهدين، مشهد "البي هايف" ومشهد "الستيربيتيز" اللذين تناولت فيهما من بعيد، موضوع الجنس. قالت: كتابك حلو كثير، بس لو حذفت ها الكلام الذي لا ضرورة له". واعطى هشام شرابي تفسيراً عميقاً لهذا الموقف الذي ابدته والدته، فقد رأى انها "بهذه الكلمات تختزل الرقابة الابوية التي تنفذ الى الاعماق عن طريق الام التي تحرّر منها محمد شكري". كم كان اجدر بالدكتور شرابي هكذا قلتُ لنفسي ان يقنع بالمعنى البسيط والمباشر لنصيحة أمه، ويحذف هذين المشهدين، مشهد "البي هايف" ومشهد "الستربيتيز". يقول الدكتور شرابي، اثناء مقارنة كتابته بكتابة محمد شكري: انه أي شكري لا يستعمل فعل "كان" الا عند الضرورة، معتمداً صيغة الحاضر لسرد الماضي بادئاً جملة في معظم الاحيان بالفاعل لا بالفعل، على النمط اللاتيني، فيأتي نصه ديناميكي، متماسك التركيب، يتحدى المحرّم ويسخر من المباح. وانها لغة نحسنها جميعاً ولكننا نخاف استعمالها ونكتبها في خطابنا العام. كلماتنا تُضجر القارئ، في حين كلمات محمد شكري تدوّي في أذني القارئ مثل رصاصات مسدس تطلق عن قرب... هذا هو الابداع الفني، هكذا يصنع الادب الرفيع من الكلام المحرّم والممنوع". احترت حيرة بالغة امام هذه الفقرة، فالأول لم يكن واضحاً تماماً امامي، ما هو الابداع في عدم استعمال فعل "كان" أو في استخدام صيغة الحاضر لسرد الماضي، أو في بدء الجمل بالفاعل لا بالفعل". ولماذا يجعل هذا النص "ديناميكي الحركة"؟، فهل تكون الحركة ديناميكية عندما نبدأ بالفاعل، وتكون الحركة "استاتيكية" عندما نبدأ بالفعل؟ ولماذا اقحام "اللاتيني" في هذا؟ إن عامة الناس ومنهم اقل الناس ثقافة وأقل الناس معرفة باللغة العربية الصحيحة، ناهيك عن معرفتهم باللاتينية كثيرا ما يبدأون كلامهم بالفاعل بدل الفعل من دون ان يجعل هذا كلامهم بالضرورة من الادب الرفيع. وبالعكس لا اظن ان مأثورات الشعر والادب العربي فقدت شيئاً من جمالها أو "ديناميكيتها" بتقديم الفعل على الفاعل، كذلك فإني لا أدري ما هو الرائع بالضبط في "تحدي المحرّم" وفي "السخرية من المباح". أراهن ان هناك اشياءً محرمة في نظر محمد شكري وهشام شرابي مما لا يحبان ان يتحدياه كالاعتداء على الام أو الاب بالضرب مثلا، ولا بد ان هناك في نظرهما كثيرا من الاشياء المباحة التي لا تستحق السخرية بل الاحترام، كاختلافي في الرأي مثلا مع هشام شرابي أو محمد شكري. اما تفسير الدكتور شرابي للنجاح الباهر الذي حظيت به رواية محمد شكري "الخبز الحافي"، اذا قسنا النجاح بدرجة الانتشار وتفسيره لما يسببه بعض كتابات الدكتور شرابي من ضجر، على حد قوله، فليسا تفسيرين مقنعين تماما. اما "نجاح" رواية "الخبز الحافي" فالأقرب الى التصديق تفسيراً لها، هو ما قاله جان جينيه في حديثه مع سعد الله ونوس الذي سبق لي اقتطافه، لا عن اعمال محمد شكري بل عن بعض اعمال جان جينيه نفسه. فعندما اشار سعد الله ونوس اليه "اي الى جان جينيه" بأنه كاتب له وزن كبير وشهرة واسعة سأله جينيه. "تقول إني كاتب له وزن.. هل انت جاد". وعندما رد عليه ونوس قائلا: أتريد ان تتواضع؟، كم مرة اعيدت طباعة مؤلفاتك؟، والى كم لغة ترجمت؟، اجابه جينيه: "هذا صحيح. ولكن هل تعرف لماذا يشتري القراء مؤلفاتي، أو ماذا يهمهم فيها؟ سأقول لك .. ما يهمهم هو سيرتي الذاتية، الوجه الفضائحي في حياتي هو الذي يشغل فضولهم، ويدفعهم لشراء كتبي". أما الشعور "بالضجر" الذي اشار اليه الدكتور شرابي، فالارجح ان سببه ليس هو بالضبط، ان كتاباته تتجنب "تحدي المحرم والسخرية من المباح"، فكم قرأنا اعمالا جذابة للغاية لا تتحدى المحرم ولا تسخر من المباح. بل لعل السبب هو ان بعض هذه الكتابات لا يتوخي الدقة الكافية، كالزعم مثلا أن لفظ "كان" يجب الا يستخدم الا عند الضرورة، أو كالزعم أن تقديم الفعل على الفاعل اسوأ دائما من تقديم الفاعل على الفعل، إن هذا او ذاك يجعل "حركة" الكتابة "غير ديناميكية". على رغم كل اعتراضاتي السابقة فقد شاقني ان اعرف ماذا حدث في طنجة بين هشام شرابي ومحمد شكري، اثناء حضورهما مع صفوة من المثقفين العرب "مهرجان اصيلة" في حزيران "يوينو" 1994، أي منذ نحو خمس سنوات، إذ كان املي ان يأتي في المقال من اقوال محمد شكري أو آرائه أو مواقفه ما قد يجعلني افهم سر الشهرة التي حظي بها، وقد يلفت نظري الى اوجه قوة في ادبه لم ألحظها من قبل، ولكن خاب املي هنا ايضا. فما يذكره هشام شرابي. في هذا المقال عن محمد شكري لا يتعدى الأمور الأربعة الآتية: 1 - عندما دخل الدكتور شرابي المقهى الصغير في طنجة الذي غاب عنه اسمه فلم يذكره ولكنه لا يبعد كثيرا عن "كافية دوباري"، وكان مع الدكتور شرابي بعض زملائه من اعضاء المؤتمر، وذلك ليحتسوا شاياً مغربياً، رأوا محمد شكري وكانت امامه كأساً من النبيذ الابيض، جرعه وطلب كأساً اخرى. كان في مسلكه وحديثه يبدو كما هو في كتابته لا يتصنع ولا يضرب بوزات"، هذه هي اذن اول صفة من صفات محمد شكري يذكرها الدكتور شرابي مما يتعلق بشخصيته لا بأدبه، انه يشرب النبيذ الابيض كأساً وراء كأس، وكذلك انه "لا يتصنع ولا يضرب بوزات" وهما صفتان يعتبرهما الدكتور شرابي، مما يتعلق بشخصيته لا بأدبه: وهما صفتان يعتبرهما الدكتور شرابي في ما يبدو، من الاهمية والندرة بحيث يستحقان ان يلفت نظر قراء "الحياة" اليهما. 2- التقى به مرة اخرى في حضرة الكاتب الفلسطيني اميل حبيبي، وكان محمد شكري في هذه المرة يحتسي الويسكي. 3 - اثناء نقاش بين محمد شكري واميل حبيبي قال شكري لحبيبي: "أنتم - الفلسطينيون - تريدون العودة، أتدري ما نريد نحن؟ نحن نريد الهجرة". واحترت في مغزى هذه المقولة وفي سبب حرص الدكتور شرابي على ذكرها في مقاله، هل هو طرافتها؟ أم تصويرها لدرجة الالتزام الوطني أو الحس الاخلاقي التي يتمتع بها محمد شكري. ولم يسعن الا ان اتذكر الموقف النبيل الذي عبر عنه جان جينيه ازاء القضية الفلسطينية كما جاء في حواره مع سعد الله ونوس الذي سبقت الاشارة اليه. 4 - اما الواقعة الاخرى الاكثر اهمية، فالاجدر بي ان اذكرها بنصها كما رواها الدكتور شرابي. "من نافذة السيارة، عند خروجنا من ساحة الفندق بعد القيلولة، رأيت محمد شكري للمرة الثالثة والاخيرة، كان ينزل درج الفندق وحيدا، يسير بتأنٍ نحو الحافلة المخصصة لنقل المشاركين في المهرجان. اخبرني حسونة في ما بعد انه وجد محمد شكري يسير هائماً في شوارع اصيلة لا يجد مكاناً يأوي اليه، يتجاهله الذين يعرفونه لأنه كان سكران، فأخذه الى بيت احد معارفه حيث قضى ما تبقي من الليل". ولا ادري بالضبط اي اجزاء هذه الفقرة اهم من الأخرى؟، هل نزول محمد شكري درج الفندق وحيداً وبتأنٍ ام انه كان يسير سكران في شوارع اصيلة؟ قد يكون الاهم من هذا وذاك ما جاء في الفقرة الاخيرة من المقال: "التقيته مرة اخرى صباح مغادرتنا طنجة... فتحت باب السيارة وأسرعت نحوه، تصافحنا بحرارة، سألني متى سأعود الى طنجة، قلت في وقت قريب أعدك وعداً قاطعاً". وهكذا يستطيع القارئ الذي لازال متشوقاً الى معرفة المزيد عن محمد شكري ان يطمئن الى ان الدكتور شرابي سيعود الى طنجة مرة اخرى، وربما التقى محمد شكري من جديد، وربما كتب عنه مقالاً آخر من النوع نفسه.. * كاتب وجامعي مصري.