تعرفت إلى محمد شكري في زوبعة السبعينات، فبدا لي حينذاك انه يعيش هدوءاً لا يمت للوقت بصلة، كما اذهلتني تلك المفارقة الكبيرة بين عدوانية "العالم السفلي" التي شكلت خلفية لكتابته وحياته، وبين اناقة شخصيته التي تشبه شخصية نبيل طنجاوي من نبلاء القرن الماضي. وقد توطدت علاقتي به فيما بعد عبر الأدب، وعبر التواطؤ الإنساني الذي تهبه الصداقة المتحررة من اثقال الحسابات. وإذا كان لي ان أختصر شكري فإنني سأفعل ذلك من خلال نافذتين: النافذة الأولى تتعلق بطنجة التي سافر بها سفراً عميقاً، فحررها اولاً من الأسطورة، عندما ازاح الأستار عن قسوتها وحنوها، عن "واقعيتها الشعرية وعن مهارة يوميتها كمدينة متوسطية مفتونة بالناس والعالم، ثم اعاد أسطرتها من جديد عبر رؤيته هو، بعيني طفل ريفي تطارده المجاعة والخوف فلا يعبأ بهما ويمضي في محاولته الجريئة لاستعادة طنجة من رؤى المستشرقين والرحالة المبهورين، ليؤسطرها بحسب هواه وبحسب حاجته... وأظن انه نجح في إنقاذ اسطورة طنجة من سطحية الذين لم يروا فيها سوى سلعة رقيقة للمبادلة. ولم يفعل ذلك من دون ثمن، بل انه دفع في مقابل ذلك ثمناً باهظاً عندما قطع حبل الحنين مع الريف. ففي رحلة الى مسقط رأسه وصفها بقسوة وببراءة ايضاً، لم يتردد في القول إن تلك الأرض لم تعد تعني بالنسبة إليه اي شيء. قالها بثقة الذين عاشوا مع "مكان آخر" تجربة حاسمة لم تدع في القلب متسعاً لأي مكان. اما النافذة الثانية فلها علاقة بالكتابة... وهنا تحضرني تلك الصورة التي شاعت - خصوصاً في الشرق العربي - وتلقفتها جمعية محلية ذهب بها السخف لحد استصدار منع "الخبز الحافي" بعد طبعتها الرابعة، وهي الصورة التي صنفت ادب شكري في خانة الإباحية والجرأة الجنسية، بينما لم يفعل شكري في الحقيقة سوى إعادة الاعتبار للكتابة باليومي وبتفاصيله عوض الكتابة باللغة او بالأفكار او بالقيم. إن صورة الأب الذي يخنق طفله في لحظة يأس قاتلة كانت اكثر اللحظات عراء في "الخبز الحافي" وليست صورة المراهق الذي انساق في مغامرة جنسية عابرة ومربكة. وأظن ان الكتابة باليومي لم تكن عند شكري مجرد رغبة في التأريخ، او في الانتقام الشخصي من الذين نهشوا طفولته، بل كانت إحساساً أدبياً عميقاً تجلى بقوة في إنجازاته الأدبية الخادعة ببساطتها وتلقائيتها والتي تفاجئ القارئ حيث لا يتوقع مطلقاً بكثافات شعرية تلتمع هنا وهناك... كما تلتمع عينا هذا الصقر الريفي الذي يحلق بهدوء خارج زمنه فوق سماء طنجة. وزير الثقافة المغربي