من حق أصدقاء محمد شكري، مغاربة كانوا ام غيرهم، أن يفخروا بمنجزه الحياتي، الذي كان عزفاً لا يقيم لقوانين الايقاع المألوفة وزناً، ولا للظهور المحتشم الذي لم يفرط به الكاتب العربي على رغم صراخه المزمن على الورق بأن الخروج على السائد هو مقصده الذي لا يزاحمه عليه اي مقصد آخر. ومن حق المغاربة وغيرهم ان يفخروا أكثر بمنجزه الابداعي، الذي بان للبعض في سنواته الأولى ولاحقاً أيضاً، مجرد عربدة أدبية مثل عربدته الحياتية. ومن حق شكري، في الآن ذاته، أن يعتب على الكثير من المغاربة لأنه وصلهم أول الأمر على شفاه الجيران، الذي لم تعطل حساسيتهم وحسن استقبالهم للأخر المرايا الخادعة التي تناسخ قبالتها حشد من الكتاب المملين. أحقاً إن من تعلم الكتابة بعد العشرين ونام في المقابر وباع السجائر وعاشر اللصوص ودخل مستشفى الأمراض العقلية، يصبح كاتباً عالمياً محترفاً بحجم شكري؟ يجيب شكري بنفسه في "زمن الأخطاء" فكرت: ابن الكوخ والمزبلة البشرية يكتب أدباً وينشر... ابن البراكة وعشير الفئران يتأنق. يتحضر، يتطور، يخرج من جلد خشن ليدخل في جلد ناعم. والألهام...؟ آه لا بد من مُلهمة، ابن الوحل يستلهم.... بعد ان نشرت له "العلم" للمرة الأولى في حياته قطعة نثرية بعنوان "جدول حبي" مع صورة بالفراشة وسط العنق دوخني الفرح وسكرت احتفالاً بموهبتي الأدبية الدفينة. اشتريت أعداداً كثيرة وزعتها على رفقائي المتدربين لأشعرهم بأهميتي بينهم. ولكي أزكي نفسي المتبجحة اشتريت سترة وبنطالاً فاخرين، وربطات الفراشة، وسلسلة يد زائفة مذهبة. تملكني الزهو والرفعة فتخليت عن المقاهي الشعبية في الفدان، والترانكات، وباريو مالقة وصرت ارتاد قاعة فندق ناسيونال، ومرقص المارفيل ليلاً. صار عندي مقهى كونتينتال من الدرجة الثانية، وحانة لابارا من الدرجة الثالثة. أحلق وجهي مرة أو مرتين في اليوم الى حد البرنزة. أتعطر حتى صرت أحمل في جيبي قارورة صغيرة من عطر الجيب "زمن الأخطاء" ص 130. وسط تدافع بشري لا يرحم، انصرف شكري الى اجتذاب مكانة مفقودة، غذتها من دون شك حاجة دفينة للكتابة، يبدو انها كانت كامنة فيه. غير أن سنوات الفقر الأولى كانت ميكروباً أراد أن يقتل الموهبة وتجلياتها التي حافظ عليها بطريقة تشبه المعجزة. انطلق شكري في الخامسة والعشرين كاتباً، بعد رؤيته الأديب محمد الصباغ محاطاً بمعجبيه في أحد مقاهي طنجة اذا كان الناس يحترمون من يكتب مثل هذه الأشياء، انا استطيع ان اكتب مثلها أو أفضل منها. الكتابة إذاً امتياز "زمن الأخطاء" ص 128 لهذا السبب، إذاً، سيقتني شكري كتب الصباغ ويلتهمها في ليلة واحدة، ليجد انها مجرد أدب غراميات "حوار مع الكاتب الكاتلاني جوري استيفا، نقلته اليومية المغربية "الصباح" في 19/4/2000. غير ان شكري سرعان ما سيصاب بالإحباط، على رغم أن مكتبته ضمت في فترة قياسية أكثر من ألف كتاب. هكذا يقرر في لحظة هياج أن يبيع كتبه واحداً تلو الآخر ليشتري بثمنها شراباً، عدا كتاب روزاليا دي كاسترو. وذات يوم يذهب الى أحدى الحانات ويهدد صاحب المحل بأنه سيهشم كل شيء إن لم يحضر رجال الاطفاء، وانصاع صاحب المحل للتهديد، لكن رجال الاطفاء لم يحضروا وانما سيارة اسعاف نقلته الى مستشفى الأمراض العقلية. وهناك قضى شكري أربعة شهور، ليدهشنا بنسيج سردي متقن عن تلك الفترة في "زمن الأخطاء". في طنجاه، طنجة التي كان بعض الأجانب لا يصدق انها تقع في المغرب، مدينة الذكريات القديمة، هونغ كونغ شمال افريقيا كما سماها شكري في "السوق الداخلي"، يكتب ثلاثيته الروائية سميتها ثلاثية بحسب اجتهاد خاص مني "الخبز الحافي"، "زمن الأخطاء"، "السوق الداخلي". والثلاثية تبدو لي استدراجاً ملهوفاً للسيرة الشخصية، هي خاتمة نزهة في الشمال المغربي، أو بتعبير جغرافي هي أطلس لمدن الشمال طنجة، العرائش، القصر الكبير، أصيلة، اثنين سيدي اليماني، ثلاثاء الريصانة. كما أنها من دون ان تقصد ذلك مباشرة، تدوين ممتع لتاريخ المغرب بعد الاستقلال، فالمشاهد التي تصلح ان تصبح شريطاً سينمائياً عن قتل العبد رايح في زمن الأخطاء، هي مرجع عفيف ونبع صاف لمن يريد ان يقرأ تاريخ البلاد آنذاك. ولا نعرف تحديداً هل التمعت هذه الحيلة في خيال شكري وهو يكتب الثلاثية، أم أنه لم يستطع التخفف من اندفاع المكان وهو ينقض عليه جارحاً؟ وحينما اندفع النقاد العرب، في التسعينات خصوصاً، للحديث عن قتل الأب من الناحية المجازية، أي كما استنشقوا الفكرة في فضاء النص الغربي، كتب شكري مباشرة عن رغبته الراسخة لقتل حدو بن علال الشكري في "الخبز الحافي" و"زمن الأخطاء". كان عاكفاً على استنطاق روحه المقهورة التي فصلها عقاب الأب عن زمنها المقرر والده لم يكن يضربني كوالده - والحديث هنا عن بول باولز - كان يأخذني مثل أرنب ويربطني الى شجرة ثم يجلدني بحزامه الجلدي الذي احتفظ به منذ خدمته في الجيش الاسباني. يخطئ من يظن ان صدر شكري ينبض بالكراهية وحدها ضد العامة بسبب اصراره على الحديث عن النمل البشري، انه كمن يصب ماءً ساخناً ليسلخ الجلد اليابس، الذي أكله المكر والنحس وبخل العواطف. هي محاولة، اذاً، لكي تظهر الثمرة من رقادها. فهو لا يكف افتراقاً عن الألوان البشرية الباهتة، ولا يكف، في الكفة الثانية عن تمجيد اناسه الذين تدفقوا بين يديه نهراً من المحبة والأخاء. وهو، في هذا السياق، ينتقد بصورة ساخرة ومؤثرة مظاهر القمع البوليسي "ضحكت في خيالي. حين لا يعثرون على العراة يقصدون اللابسين. اذا فشلوا مع الهاربين يقصدون الجالسين" ثم يواصل في السوق "الداخلي" "بل هم يهمهم كل ما يفعله الآخرون. ان لديهم دائماً أسئلة كثيرة باطلة. ان شغلهم ان يحرسوا حرية الآخرين". ويزيد في "السوق الداخلي" أيضاً "تعال هنا، تمش الى جانبي. ارفع يديك. تكلم. ماذا تعمل؟ هل أنت مسرور؟ ما يبقى لهم أن يسألوا عنه هو: ماذا فكرت أمس؟ ماذا حلمت؟ ما معنى هذا الحلم في رأيك؟ فيم - فكرت هذا الصباح؟ والآن فيم - تفكر؟ ماذا انت فاعل غداً؟ متزوج؟ من هذه التي معك؟ أرنا عقد زواجكما. أرنا تواصيل الضرائب. أعطنا أسماء الذين قابلتهم هذا اليوم. أذكر لنا أسماء الذين تفكر أن تقابلهم. هل هناك أشخاص تحبهم؟ ماذا يعملون؟ هيا، أذكر لنا كل ما في رأسك. أذكر لنا ما تعرفه وما تحاول أن تعرفه". هكذا كتب شكري بلا صخب يوم كان النقد للخروقات مثل نظرات فتى خجول الى فتاة، وأحسب ان من الواجب ان يلمع برق اعتذار على جبين من كانوا لا يجرؤون على ما فعله شكري لكنهم تمرسوا في التنقيب عن هفواته. تاخمت رياح الموت شكري بين فترة وأخرى، فقد انقلبت السيارة التي كانت تقله الى سبتة مرتين، عدا عن القبور الكثيرة التي كاد أن يدخل أحدها في رحلته الحياتية المدوية. غير ان شكري يلخص موقفه من الموت في سبع كلمات راصدة ثاقبة "فتفاهة الحياة عندي أفضل من تفاهة الموت". هكذا ببساطة يرى الأمر من دون الحديث عن الثنائيات الفلسفية وما وراءها، فهو لم ينزلق الى هيجان التنظير حول الموت، ربما بسبب هيجان أعماقه وغناها. التشرد هو الحجرة التي ستجمع شكري وجينيه بين جدرانها، يقول شكري في الحوار المشار اليه آنفاً "كنا لصين، بوهيميين. جان كان رجلاً بسيطاً يكره ما كنت اكرهه أنا أيضاً، لهذا كان هناك دائماً تيار يسري بيننا نحن الاثنين". وقد أفضى جينيه لشكري "لأني كلب قذر. أنا أنزل في المنزه أو في الهيلتون لأني احب ان أرى هؤلاء الأنيقين يخدمون كلباً قذراً مثلي". من كتاب شكري "جان جينيه في طنجة". نلاحظ في هذا المقطع ان شكري استخدم الفعل كره وليس أحب، وربما ثمة من يريد ان يتوصل الى ان الاثنين كرها أكثر مما أحبا، وهو رأي يستند الى بعض الوجاهة من الناحية السيكولوجية. لكننا لو أردنا ان ندخل من الباب نفسه، فإننا سنقول كيف ننتظر الحب ممن لم يلتقه في حياته إلا نادراً. فالاثنان عوملا ربع قرن بوحشية وصلتنا من كتبهما. ولا يصلح الحديث، في أي تحليل، عن محبة الضحية لمن أذاها. العدمية المعفاة من الضوابط الأخلاقية هي أجنحة جينيه التي طار بها، وهي الأجنحة نفسها التي طار بها شكري أيضاً في أعماله المنشورة. ولا يخفي كذلك ان ما يجمع الاثنين أيضاً النبرة المعادية للأغنياء، أو بتعبير أدق البلادة عند بعض الأغنياء وخصوصاً عند جينيه، الذي يضيف اشارات متواصلة تعتبر نوعاً من الاستراتيجية في معاداة الأميركيين "الانسان الأميركي الطيب هو الذي ليس غنياً. أنا أعرف جيداً الأميركيين. أنا أؤيد كل لصوص العالم ضد الأميركيين الأغنياء". "انهم يمنعونني، مثلاً، من الدخول الى الولاياتالمتحدة بسبب شذوذي ولأنني أيضاً لص سابق". وأضاف بسخرية "كأن ليس في الولاياتالمتحدة جنسيون مثليون ولصوص قدماء مثلي". ربما هذا بعض ما يفسر انضمام جينيه الى المقاومة الفلسطينية في السبعينات، وتبنيه طفلاً كان يقول إنه فلسطيني، وهو في الحقيقة عزالدين ابن محمد القطراني من مدينة العرائش الذي تعرف إلى جينيه في السبعينات في طنجة، فتصادقا ولم يتحمل موت جينيه، فجن ثم مات في حادث سير قرب مدينة أصيلة كما أوضح شكري في ما بعد. ورد في "جان جينيه في طنجة" ما يأتي: "في المرة التي زرت فيها قبر جينيه بصحبة القطراني قال لي: انني أزور قبره ثلاث أو أربع مرات في الأسبوع. أجلس هنا، وحدي أو مع عزالدين، عندما يكون في عطلة مدرسية، وأتأمل البحر مستعيداً ذكرياتي مع جان، في المغرب أو خارجه. عندما يكون معي جان أنسى كل شيء ما عداه. إنه يملأ حياتي بأجمل ما أحب أن أعيشه. أما اليوم فقد تركني وحدي. لا أعتقد أني سأعثر على صديق مثله. إن الحقيقة التي كنت أعيشها معه قد انتهت الى الأبد". مع تنيسي وليامس ستأخذ العلاقة بعداً آخر. فعلى رغم ان "شكري مثلما هو تنيسي، كلاهما هارب من ماضيه، كلاهما غير مكترث بكل شيء، وكلاهما متوحد" بحسب جافن لامبرت. وعلى رغم أنهما ولدا في الشهر نفسه بفارق يوم واحد "شكري في 25 آذار/ مارس ووليامس بعد يوم واحد" "الا ان كليهما يملكان مزاجاً متناقضاً في مظهرين مهمين: إن دعابة تنيسي فجائية ومتفجرة، ودعابة شكري خفية وممتنعة". ويبدو لي من خلال كتاب شكري عن تنيسي وليامس، أن الأخير جاء الى طنجة لوحده من دون ملمح خاص مثير، بل ان حياته كاملة لم تحمل اي ملمح للإثارة على غرار مجايله همنغواي مثلاً. كان همنغواي ذا قلق كياني عميق ولم يكن يرحل من مكان لآخر إدماناً على الرحيل فحسب، وانما لأنه كان يبحث بحمى روحية لا ترى عن اجابات عن الأسئلة الكبرى التي شغلته. لهذا السبب، كما يبدو، لم تترك زيارته الى طنجة أثراً فيه كما كانت الحال مع جينيه أو بول باولز أو غيرهما. مع بول باولز سيختلف الأمر. فطريق شكري الى سيرة باولز كانت مثقلة بحساسيات خاصة. ذلك انه شطره في كتابه الى باولزين، الأول هو المواطن الأميركي المنعم في طنجة، والثاني هو المبدع "على رغم ان اشارات شكري في هذا الصدد مبهمة" الذي نقل شكري بحس المسؤولية الأدبية من الظل الى الضوء. يقول شكري في حواره مع جوري استيفا "بول لم يعلمني كيف أكتب، مع انه يجب ان اعترف ان حضوره كان دافعاً لي للاستمرار في الكتابة" وهي على أي حال لغة اكثر اعتدالاً من تلك التي تضمنها كتابه. من الضروري أن نشير الى أن بول باولز "ثمان وثمانون عاماً حينما توفي في العام الماضي" كان واحداً من كبار المبدعين الأميركيين في القرن العشرين، ويعتبر تنيسي وليامس زوجته جين التي ماتت قبله اكبر كاتبة نثر في القرن العشرين. استقر في طنجة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. بدأ حياته مؤلفاً موسيقياً يكتب موسيقى رقصات الباليه وموسيقى المسرحيات والأفلام. له خمس روايات وحوالى ثمانين قصة قصيرة وديوانان من الشعر اضافة الى عشرين كتاباً في الترجمة من الاسبانية والفرنسية والدارجة المغربية. انها محاولة من طرفي للتعريف بانجاز باول. فحسب، ولا يعني ذلك أنه فوق النقد أو الحق والعدالة. غير انني أتساءل هل كان كتاب شكري عن باولز توثيقاً لحياة بول باولز في طنجة، أم انه توثيق لوجدان المؤلف وحده؟ ظلت فكرة الزواج خارج المنزل الذهني أو العاطفي لشكري، لم تبلبله الفكرة، ولم يتهور يوماً ليقرر في لحظة ضعف ان يهبط في تلك البئر. لأنه ببساطة خلق ليسمع صوته الداخلي فحسب وليس اي صوت آخر. بل انه كتب تقريعاً لمؤسسة الزواج في "السوق الداخلي" "كل أصدقائي الذين احبوا وتزوجوا عاشوا في النحس، لقد رأيتهم يبكون مثل أطفالهم في الحانات بعد أن طلقوا". في كتابات شكري اشارات الى انه كان يفكر في الخروج من المغرب الى أوروبا، ثم جاءت زيارته الى باريس للمرة الأولى عام 1980، عندما قدم "الخبز الحافي" في برنامج لابوستروف. ويبدو انه تخلى عن الفكرة بعدما أصبح ينط من سياج طنجة مثل الهر لينشب أظافره بعد سويعات في برشلونة أو روما، لندن أو فرانكفورت. أزعم ان لعاشق طنجة ونورسها الحق في ان يطلب منا أن ننشغل بكتاباته، لا بمثالب ورذائل دبرت ضده أو نسبت اليه. ومن حق شكري، ربما، ان يكون قاسياً على من يتنافسون الآن على صداقته بعد ان تنافسوا على اخراجه من خريطة الكتابة المغربية. وهو، على كل حال، كيان متماسك يزداد صلابة كلما هبت ريح لتزحزحه من مكانه. غزير الثقة بنفسه، ولولا هذه الثقة بالنفس لما استطاع ان يقبل تعلم القراءة والكتابة بعد العشرين، ثم ليبدأ كاتباً في الخامسة والعشرين، لينتهي في الخمسين كاتباً عالمياً. أو ليس القنفذ من أشد الحيوانات عزلة وعزوفاً عن الغير، لكنه من اسرع الحيوانات إطلاقاً لما في جعبته من سهام في حال تعرضه للخطر. هل يصح لي أن افترض ان شكري كان يتألم ويتعلم في بداياته، وهو الآن يهز رأسه شفقة وسخرية، وهو ماض الى استكمال ما بدأ به. وأحسب انه قد وجد المفاتيح الصحيحة ليفتح بها ابواباً كانت قد سُدت، منبهاً الى بشر بملابس قذرة وأرواح أنيقة، الى العيون الزائغة الثاقبة والشعور المنفوشة والوجنات الغائرة فوق عظام ناتئة. لقد أخرج شكري من قعر صندوقه، ذي المسامير اللامعة، حيتانه وعقاربه لتدب وسط حشد من المندهشين بصنيع لم يألفوه قبل اليوم. * كاتب مغربي.