1 تذكرني طنجةببيروت: زرقة البحر، موقع الميناء، الجبال القريبة، السماء الواسعة. بنايات طنجة القديمة هي على طراز العشرينات والثلاثينات التي تتسم بها بنايات بيروت، كورنيش طنجة يذكرني بكورنيش بيروت، كذلك البولفارات الطويلة التي عمّرها الاسبان في طنجة والفرنسيون في بيروت على نسق مماثل. إلا أن بحر طنجة يبدو وديعاً يتوقف عند الشاطئ الاسباني المغلف بالضباب، بينما يبدو بحر بيروت جامحاً يمتد في الافق البعيد. خليج طنجة يختلف عن خليج بيروت على رغم الشبه الغريب بينهما، فهو يضم طنجة ومرتفعاتها في وحدة منسجمة تتمركز قمتها في القصبة، بينما ينشر خليج بيروتالمدينة في ضواح تصل إلى سفوح تلال الشوف والمتن شمالاً وشرقاً. من ناحية أخرى، تشبه طنجةبيروت بنشاطها التجاري وحركة أسواقها الدائم، وبمطاعمها وفنادقها ومقاهيها. أوتيل "المنزه" في وسط المدينة يذكرني بفخامته وأناقته بالسان جورج قبل الحرب الأهلية. شعرت عندما تناولنا الغداء فيه يوم وصولنا إلى طنجة أني في جو أعهده، وان الزبائن الجالسين إلى الموائد حولنا أعرفهم من زمان. الفارق الكبير بين طنجةوبيروت لاحظته في أدب معاملة المرأة والأجنبي في الأماكن العامة. في بعض شوارع بيروت لا تستطيع المرأة أحياناً السير من دون أن تتعرض للتحرش، ولا يقدر الأجنبي على الجلوس في مقهى أو السير في بعض الأسواق من دون أن يلاحقه بائع أو متسول. في طنجة الناس منصرفون إلى أعمالهم، لا يتوقفون عند مرور امرأة ليحدقوا بها بقحة، ولا يلتفتون إلى الغرباء أو الأجانب. التسامح الاجتماعي يبدو واضحاً محسوساً. فالغريب لا يشعر أنه مستهدف ولا تشعر الانثى أنها مهددة، على الأقل، هكذا كان انطباعنا نحن الخمسة: أنا وأنيس بحراوي وحليم بركات ولما دجاني ونهى صادق، في الأيام التي قضيناها في هذه المدينة الجميلة أثناء مهرجان أصيلة. غمرنا شعور بالألفة والطمأنينة ونحن نتجول في الشوارع ونجلس في المقاهي الغاصة بالناس لا نشعر أننا لسنا من أهلها. 2 ثاني يوم وصولنا، في مطلع حزيران يونيو 1994 لحضور مهرجان أصيلة، كنا على موعد مع محمد شكري. اتفقنا أن نلتقي أولاً بحسونة المصباحي ومحمد بنيس الذي جاء بلباسه المغربي، في مقهى "كافيه دو باري" ونذهب سوياً بعد ذلك إلى مكان اللقاء مع محمد شكري. لم أكن أعرف محمد شكري شخصياً، قرأت له "الخبز الحافي" ثم قرأت له في طنجة "زمن الأخطاء" اشتريته على قارعة الطريق من بائع صحف لكونه "ممنوعاً" في المكاتب، واكتشفت ان هناك علاقة عميقة بيني ومحمد شكري تتجاوز مجرد المعرفة الشخصية. بين "الخبز الحافي" و"زمن الأخطاء" من جهة، و"الجمر والرماد" و"صور الماضي" من جهة أخرى، اكتشفت ترابطاً يدعو إلى الدهشة. نصي ونص محمد شكري يسردان سيرة ذاتية لشخصين ولدا في النصف الثاني من القرن العشرين، أحدهما في مشرق العالم العربي والآخر في مغربه. يروي الأول حكاية شاب ترعرع في قرية صغيرة في جبال الريف في عائلة معدمة، وينتقل إلى المدينة أمياً لا يعرف الكتابة أو القراءة ليعيش حياة صراع وعذاب. ويروي الثاني قصة شاب نشأ في المدينة في طبقة ميسورة وعاش حياة راحة وترف، وتثقف في المدارس والجامعات الأجنبية. بدأ محمد شكري يتعلم القراءة والكتابة في سن العشرين في السن الذي التحقت فيه بجامعة شيكاغو لمتابعة دراستي نحو الدكتوراه وحصل على شهادته الابتدائية من المدرسة الحكومية في العرائش بعد بضع سنوات. في "الجمر والرماد" أتحدث عن أساتذتي الذين درست عليهم في قسمي الفلسفة والتاريخ: ريتشارد مكيون في موضوع أرسطو وفلسفة القرون الوسطى، وجان فال في فلسفة هيجل وكيركجارد، وأرنولد برجسترسر في فلسفة نيتشه. في "زمن الأخطاء" يتحدث محمد شكري عن درسه الأول في المدرسة الحكومية: "أجلسني المعلم في الصف الوسط، إلى جانب أصغر تلميذ في القسم... أمامي دفتري، وقلمي، في انتظار كيف أبدأ أول درس". بعد تخرجه أصبح معلماً في طنجة في "مدرسة الحي الجديد للبنين والبنات"، في الوقت الذي عينت فيه بمنصب أستاذ مساعد في جامعة جورجتاون. هو اعتزل التدريس بعد فترة وجيزة، وأنا الآن على وشك التقاعد بعد 45 سنة من التدريس الجامعي. كان العالم الذي عشت فيه عالم المحظوظين، وكان عالمه عالم المسحوقين والمهمشين. كتب عن الفقر والقهر والجوع الجنسي، وكتبت عن الفكر والسياسة واشكالات التغيير الاجتماعي. هو ركّز على الخاص، وأنا ركزت على العام. اكتشفت وأنا أقرأ "زمن الأخطاء" كيف يهمش ما يشغل الوعي "المثقف"، وكيف يثير بالوقت ذاته أهم القضايا التي يكبتها هذا الوعي. عندما تطرقت في "الجمر والرماد" وفي صور الماضي" إلى موضوع الجنس، كنت عاجزاً عن الكتابة الصريحة. أما محمد شكري فيكتب عن الجنس كما نتحدث عنه في جلساتنا الخاصة، بصراحة ودون تورية أو خجل. تختلف لغتي عن لغته لا لأني أعالج القضايا "الكبرى" وهو يعالج القضايا "الصغرى"، بل لأن القضايا التي يعالجها هي بذاتها القضايا الكبرى، القضايا التي كبتها في كتابي، قضايا الجسد والجنس في العيش اليومي. إنه الكاتب العربي الوحيد الذي يتحدث في الممنوع والمحجوب واللامُقال بصدق وصراحة، ويكشف عن ما نحجبه في ما نكتب وما نقول ونعمل. يفعل ذلك بلغة واضحة، شفافة بالغة القوة والجمال. محمد شكري هو جان جينيه العرب. ربما جاء قبل اوانه، فالقارئ العربي يقرأه كما كنا نقرأ مجلة "البدائع" طلاباً مراهقين. قامت شهرة كتابه الأول "الخبز الحافي" على الإثارة الجنسية، بسبب كشفه عن الحياة "الحقيقية"، بلغة تلقائية خالية من التملق والتصنع اللذين تتميز بهما لغتنا الأدبية. عندما أقارن أسلوبه بأسلوبي في "الجمر والرماد" حيث أحاول تناول موضوع الجنس اكتشف معنى شجاعة الكلمة التي لا تساوم. اعترضت أمي عند قراءتها "الجمر والرماد" على مشهدين، مشهد "البي هايف" ومشهد "الستريبتيز" اللذين تناولت فيهما، من بعيد، موضوع الجنس. قالت: "كتابك حلو كثير، بس لو حذفت هالكلام الذي لا ضرورة له". بهذه الكلمات تختزل الرقابة الأبوية التي تنفذ إلى الأعماق عن طريق الأم والتي تحرر منها محمد شكري قبل أن يكتشف أنه قادر على الكتابة. 3 واختلفت لغتي عن لغة محمد شكري بسبب ميلي إلى التحليل والتنظير وتركيزه على الواقع المعاش. لغتي "فكرية" حتى في تناولها شؤون الحياة اليومية. أما لغته فهي لغة الجسد وحضور الأشياء بماديتها المحسوسة. تتساقط جمله القصيرة متقطعة على صفحاته بما يشبه الفوضى. إنه لا يستعمل فعل "كان" إلا عند الضرورة، معتمداً صيغة الحاضر لسرد الماضي بادئاً جمله في معظم الأحيان بالفاعل لا بالفعل على النمط اللاتيني، فيأتي نصه ديناميكي الحركة، متماسك التركيب، يتحدى المحرّم ويسخر من المباح. إنها لغة نحسنها جميعاً ولكننا نخاف استعمالها ونكبتها في خطابنا العام. كلماتنا تضجر القارئ، في حين كلمات محمد شكري تدوي في اذني القارئ مثل رصاصات مسدس تطلق عن قرب، فتوقظه بعنف، وتسقط الأقنعة وتبرز الأشياء على عكس ما تبرزها الثقافة الأبوية المنافقة بلغتها الاخلاقية الكاذبة، هذا هو الابداع الفني، هكذا يُصنع الأدب الرفيع من الكلام المحرّم والممنوع. 4 في طنجة التقيت محمد شكري ثلاث مرات، الأولى في مقهى صغير يغيب عني اسمه لا يبعد كثيراً عن "كافيه دو باري". عندما دخلناه، حليم بركات ومحمد بنيس وحسونة المصباحي وأنا، عانقنا محمد شكري واحداً واحداً وجلسنا نحتسي شاياً مغربياً، وكانت أمامه كأساً من النبيذ الأبيض، جرعه وطلب كأساً أخرى. كان في مسلكه وحديثه يبدو كما هو في كتابته، لا يتصنع ولا يضرب بوزات. وبعد الظهر التقيناه في غرفة اميل حبيبي، الكاتب الفلسطيني، في فندق صغير حيث اقمنا اثناء مشاركتنا في مهرجان أصيلة، يطل على مضيق جبل طارق. كان اميل جالساً إلى مائدة منخفضة ومقابله محمد شكري، يحتسيان الويسكي التي اشتراها اميل حبيبي على متن الطائرة. كانا في نقاش حاد، محمد شكري يصف معاناته في مطلع حياته ويروي كيف كان، من جوعه، ينتشل بقايا الساندويش الملقاة في مياه المرفأ من بين البزار العائم حولها، واميل حبيبي يقاطعه بصوته الجهوري: "لكن قل لي ما الأهم، لقمة الخبز أم أرض الوطن؟". نجلس ويتناول محمد شكري زجاجة الويسكي، ويملأ الأقداح بصمت، ثم يرفع قدحه ويقول: "انتم - الفلسطينيين - تريدون العودة، أتدري ما نريد نحن؟ نحن نريد الهجرة". قبل أن نغادر ذكّرت اميل بجلسة ندوة بعد الظهر في أصيلة، أجاب: "الساعة الخامسة. لم انس". من نافذة السيارة، عند خروجنا من ساحة الفندقب بعد القيلولة، رأيت محمد شكري للمرة الثالثة والأخيرة. كان ينزل درج الفندق وحيداً، يسير بتأني نحو الحافلة المخصصة لنقل المشاركين في المهرجان. أخبرني حسونة في ما بعد أنه وجد محمد شكري يسير هائماً في شوارع أصيلة لا يجد مكاناً يؤوي إليه، يتجاهله الذين يعرفونه لأنه كان سكران. فأخذه إلى بيت أحد معارفه حيث قضى ما تبقى من الليل. والتقيته مرة أخرى صباح مغادرتنا طنجة. كنا متوقفين في السيارة أمام مكتب الخطوط الجوية المغربية والشارع يغص بالمارة. رأيته من بعيد يغيب ويظهر بين المشاة لا يلتفت يميناً أو يساراً يحمل كتباً تحت ابطه. فتحت باب السيارة وأسرعت نحوه، تصافحنا بحرارة، قلت له إننا مغادرون إلى الرباط. سألني متى سأعود إلى طنجة. قلت في وقت قريب، اعدك وعداً قاطعاً. منذ ذلك الحين لم اره وسمعت حديثاً أنه مريض يعاني من تشمّع خطير في الكبد.