من دون أن يتخلى عن "الحديد والنار" في محاربة "الارهاب"، دعا وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد الى البدء ب"حرب أفكار" على "البنية التحتية الفكرية والايديولوجية" ل"الارهاب" و"الارهابيين". وشدد على ضرورة فوز الولاياتالمتحدة في هذه "الحرب". فمن دون هذا الفوز قد تُمنى الحرب العالمية التي تقودها بلاده بفشل حذر من مغبته، وتساءل: "هل نحن سائرون الى النصر أم الى الهزيمة في الحرب على الارهاب؟". ولكن، كيف رأى رامسفيلد، أولاً، مسرح الحرب بالحديد والنار على "الارهاب"؟ "الإرهابيون" يمكن ان يضربوا ضربات تلحق الأذى بمدنيين عزل أبرياء، في كل مكان، وفي أي وقت. فحقل عملهم في غاية الخصوبة ما دام المدنيون هم الهدف الأول والأسهل وما دام امتلاكهم وسائل الضرب من السهولة في مكان. وفي حال كهذه، يتعذر، بل يستحيل، وفق رامسفيلد، بناء حواجز أمنية حول المباني أو حول الأهداف المحتملة للهجمات الارهابية. في هذا الصدد قال وزير الدفاع الأميركي: "ان من غير الممكن الدفاع عن كل هدف محتمل في كل الأوقات وكل الأماكن ومن كل شكل من أشكال الهجمات الارهابية... وليس في وسع الناس العيش دائماً خلف حواجز اسمنتية وأسلاك شائكة". وقتل "البعوض" بعوضة بعوضة ليس "الحل" الذي يكمن، بحسب رأيه، في رفد "الحرب العسكرية" ب"حرب أفكار". وينبغي للولايات المتحدة في نهايتها أن تتمكن من "تجفيف المستنقع"، الذي لا يمكن تجفيفه بالقوة العسكرية وحدها. لأنه "مع قتل كل ارهابي أو اعتقاله أو ردعه أو ثنيه نرى ان ارهابيين آخرين قد شرعوا يتدربون". ورامسفيلد، قبل أن يشعر ويشعر عن الولاياتالمتحدة، بالحاجة الى خوض "حرب الأفكار"، كان مأخوذاً بالجبروت العسكري لبلاده. فتوهم ان القوة العسكرية والاجراءات والتدابير الأمنية و"الحرب الوقائية"، تمكن القضاء قضاء مبرماً على "الإرهاب" و"الارهابيين" في العالم. وإذ اتضح ان هذا "التفوق الأميركي" زاد نار "الارهاب" اشتعالاً بدلاً من أن يطفئها، "اكتشف" وزير الدفاع الأميركي ان لدى بلاده من "التفوق الفكري" ما يسمح لها بخوض حرب أفكار ظافرة على "الارهاب" و"الارهابيين". فيكفي، بحسب أوهامه، أن تدخل الولاياتالمتحدة في "سجال فكري" مع العالم الذي يكرهها حتى تنتفي الحاجة الى جواب سؤال "لماذا يكرهوننا؟". وما دام "الإرهاب" يضرب جذوره عميقاً في "العقول" و"القلوب" فإن هزمه يغدو ممكناً إذا ما قام "ايديولوجيون أميركيون أذكياء" بشرح تعاليم الإسلام على خير وجه للمسلمين، واقناعهم بأن فيه من المبادئ والقيم "السامية" ما يلزمهم تخليص عقولهم وقلوبهم من "الوحشية السياسية والفكرية"، وما يحل لهم تكييف مصالحهم وحقوقهم بما يتفق مع مصالح وأهداف الولاياتالمتحدة في الحروب الامبريالية التي تشنها عليهم. وربما يسند رامسفيلد الى العسكري الأميركي البارز وليام بوكين، الذي سعى في اثبات ان إلهه يتفوق على "إله المسلمين"، مهمة قيادة "حرب الأفكار". ففي "حرب الأفكار"، لن يدخل رامسفيلد في حوار أو سجال فكري مع "الارهابيين" أنفسهم. فهؤلاء يجب الاستمرار في ملاحقتهم "أينما يعيشون وينظمون صفوفهم"، كما يجب المضي قدماً في "معاقبة الدول التي تؤويهم". فالغزو "الفكري الأميركي الجذاب" غايته عقول مئات الملايين من أبناء "الجيل الجديد" في العالمين العربي والإسلامي، حتى يؤسس في عقولهم وقلوبهم "مصدّات فكرية" أي بضائع فكرية أميركية تصدّ "التأثير الايديولوجي" لقادة وشبكات "الارهاب" من أمثال أسامة بن لادن وتنظيم "القاعدة". فالأفكار القائمة، الآن، في رؤوس هؤلاء الشبان تُضعف فيهم "جهاز المناعة الفكري"، فيصابون في سرعة وسهولة ب"مرض الإرهاب". ولكن رامسفيلد جهل أو تجاهل أن "البوابة الى العقل" لا توجد في "الرأس"، وانما في "الواقع"، الذي يعيشه الناس، والذي ينبغي لوزير الدفاع الأميركي أن يشرع، أولاً، في تغييره، في طريقة تجعل أبناء "الجيل الجديد" ترى في الأفكار الأميركية، ما يعود عليهم، أي على قضاياهم ومصالحهم وحقوقهم، بالنفع والفائدة. فأي فكر لن يجد مستقراً له في العقول إن هو وجد صدّاً له في الحاجات والمصالح الواقعية للبشر. بماذا، وكيف، يريد رامسفيلد أن "يبدأ "حرب الأفكار"؟ هل يبدأها بأن يشرح لضحايا "الفكر الارهابي" أو للمرشحين بأن يكونوا ضحايا له، كيف أن "القتال الاسرائيلي" دفاع عن النفس؟ وكيف ان "القتال الفلسطيني" رجس من عمل "شيطان الإرهاب"؟ أم يبدأها بأن يشرح لهؤلاء كيف نجحت، أو شرعت تنجح الولاياتالمتحدة في جعل احتلالها للعراق منطلقاً لنشر الديمقراطية فيه وفي جواره؟ سفير الولاياتالمتحدة في مصر أسرع الى خوض "حرب الأفكار". فصبّ جام غضبه على الصحافة المصرية التي تهاجم بلاده بعبارات عدائية وغير "مهنية"، وقال انها تقوم ب"تزييف الحقائق وتسمية الأشياء بغير أسمائها الحقيقية"، فتسمّي "عملية حيفا" ب"العملية الفدائية" بدلاً من أن تصفها بأنها "عمل ارهابي". هذا السفير الذي يمثل دولة، تسمّي غالبية مواطنيها رئيسهم ب"الكذاب الأكبر"، أخد على الصحافة المصرية لجوءها الى "الكذب" و"تزييف الحقائق"، في وقت تأكد للعالم أجمع ولغالبية المواطنين الأميركيين ان "الكذب" و"تزييف الحقائق" كانا الأساس في مبررات ادارة الرئيس بوش لشن الحرب على العراق، وأن الصحافة الأميركية هي التي تحتاج قبل سواها الى "المهنية" في عباراتها. ان "الفكر الأميركي"، الذي يعتزم وزير الدفاع الأميركي زجّه في "حرب الأفكار" لا ينظر اليه "الواقع"، وكل الناس "الواقعيين"، إلا على أنه خليط من "النفاق" و"الوهم" و"الخداع" و"الكذب". وهذا "الخليط" يقيم بنفسه الدليل على القوة الامبريالية العظمى في العالم قد سقطت فكرياً، ما عادت تملك شيئاً من "فن الاقناع". فاخترعت خطاباً سياسياً وفكرياً لا يفيد إلا في تأكيد عزمها على المضي قدماً في استخدام "فن الاكراه". ففكرها الذي عبر نشرها له أن يؤمن الناس بأشياء مماثلة لما رفض غاليليو الإيمان به، لا يملك من القوة والحيوية ما يجعل حتى رامسفيلد ذاته مؤمناً به. فموت الولاياتالمتحدة، بصفة كونها قوة امبريالية، هو الشرط الأولي لانتصارها في "حرب الأفكار" على "الارهاب" و"الارهابيين". فكم كان جميلاً لو قام الموتى من أمثال رامسفيلد بدفن موتاهم. الأردن - جواد البشيتي كاتب وسياسي فلسطيني