تسجل لوزير الدفاع الاميركي فضيلة الاعتراف ضمناً بأن الحملة العسكرية على الارهاب فعلت أقصى ما تستطيعه، خصوصاً ان بعضها لا يزال مستمراً خصوصاً في افغانستان. اما طموحه لكسب العقول والقلوب، اي للانتصار في "حرب الأفكار"، كما سماها، وكما سماها ايضاً تقرير "لجنة دجيرجيان"، فيبقى الجزء الأهم والأصعب. اذ لا تفيد فيها كل ترسانة الأسلحة الحديثة، ولا تجدي الضغوط على الحكومات، ولا يكفي اختراق الاجهزة الأمنية. والسبب بالغ الوضوح: ليست لدى الولاياتالمتحدة سياسات بديلة تطرح افكاراً بديلة. وبالسياسات العدوانية ذاتها لا يمكن الحصول إلا على النتائج السلبية ذاتها. رغب دونالد رامسفيلد أم لم يرغب، فإن كل الجرائم الاسرائيلية اليومية في فلسطين تدخل في الذاكرة العربية على أنها اعتداءات اميركية ايضاً. هذا وحده يكفي لجعل أي "حرب افكار" فاشلة مسبقاً. أمر آخر ذو دلالة: في العراق حيث يعتبر الاميركيون انهم قدموا خدمة للبلد وللشعب، لم يتوصلوا بعد الى اشاعة حال من "عدم الاعتداء"، ويعزى ذلك ببساطة الى كون الاميركيين نسوا أو تناسوا ان الشعب العراقي اختزن ضدهم من الاحقاد طوال سنين الحصار والعقوبات مما لا يمكن محوه بسهولة. فآثار ذلك الظلم ماثلة في كل بيت وعائلة، ولم تفد حال الاحتلال في تغيير النفوس والعقول لأنها ارتكبت وترتكب من الاساءات ما يفاقم المشاعر والاقتناعات السلبية. هدمت قوات الاحتلال الاسرائيلية امس ثلاثة أبراج ومركزاً للشرطة في مدينة الزهراء في قطاع غزة. وهنأ الضباط المسؤولون عن العملية انفسهم على نجاحها، وأمل أحدهم بأن لا تكون هناك "أضرار جانبية" قد وقعت. كانوا اجبروا نحو ألفي شخص على اخلاء مساكنهم المجاورة للابراج، ولم يتنبه احد هؤلاء الضباط الى ما يعنيه هذا الإخلاء لمئات الاطفال واليافعين الذين اجبروا على مشاهدة عمران يهدم وقد كان مخصصاً لإسكان أفراد الشرطة الفلسطينية وعائلاتهم. لكن الجنرال المجرم غادي يتسامي، مثل الوزير رامسفيلد، يعتقد ان حجته لتدمير الأبنية كافية لتغيير الأفكار، اذ اعتبر الدمار "رسالة" الى السلطة الفلسطينية. اما الحجة فهي ان الفلسطيني الذي شارك في عملية "نتساريم" ضد الجنود الاسرائيليين وتمكن من الفرار لجأ بصورة موقتة الى مركز الشرطة الذي تم تفجيره مع الأبراج الثلاثة. في اليوم الأول من شهر رمضان، كانت "هدية" عصابة مجرمي الحرب في اسرائيل الى أهل فلسطين الصائمين هذا الدمار بدم بارد. السلطة الفلسطينية نددت واستنكرت، لكن لا هذه السلطة ولا قوات الاحتلال يمكن ان تحدد كيف سيترجم الدمار في عقول الشبان وتصرفاتهم. ولا أحد يهتم، فالاسرائيلي لا يبالي طالما انه يملك ترخيصاً اميركياً للقتل والتدمير، والفلسطيني يبدو كأنه بات يحتسب تدمير الأبنية كأنها حدث روتيني متوقع ولا داعي لإحداث ضجيج بشأنه طالما ان "الأهم" فلسطينياً لا يزال قائماً. ما هو "الأهم": السلطة، استمرار الانتفاضة، ابقاء امكانات التسوية متاحة، ابقاء القنوات مفتوحة مع الاميركيين؟... هذا النهج دعوة صريحة لقوة الاحتلال الى استباحة كل شيء. من الواضح ان حرب رامسفيلد من أجل تغيير الأفكار لا تعني حلفاءه ومرشديه الاسرائيليين. وعندما يقول انه مقابل كل "ارهابي" يعتقل أو يقتل هناك آخرون يتدربون، فإنه يبدو معنياً بتغيير عقول هؤلاء "الآخرين". الى أي حد هو جدي أو مخلص في ما يقول؟ المراهنة على رامسفيلد كالمراهنة على شارون، وفي رأي الأخير ان الوسيلة الوحيدة هي القتل والتدمير ولا شيء غيرهما. لا شك ان "حرب الأفكار" يجب ان تبدأ في صفوف الحلفاء أولاً. في الوقت الذي دخل الجنود الاسرائيليون الى مستشفى ل"اعتقال" احد النشطاء الفلسطينيين، وفي الوقت الذي دمروا ثلاثة ابنية، كان "مركز سيمون فيزنتال" يدعو الى مقاطعة ماليزيا لمعاقبتها على تصريحات رئيس وزرائها امام القمة الاسلامية. يفترض ان ما يحرك "مركز فيزنتال" المتخصص في ملاحقة مجرمي الحرب النازيين هو ابقاء "الضمير" الانساني يقظاً حيال المحرقة والمآسي التي حلت باليهود. لكن ما يحدث في اسرائيل من جرائم لا يحرك "ضمير" هذا المركز. هذه على الأقل مفارقة انسانية مذهلة، تكافح الاجرام من جهة وتبيحه أو تسكت عنه من جهة اخرى. لا شك ان حرب الأفكار تبدأ من هنا ايضاً.