لا اعرف اميركياً عربياً او مسلماً واحداً لا يشعر بأنه ينتمي الى معسكر الاعداء، إذ يتيح الوجود في الولاياتالمتحدة في اللحظة الراهنة ان يُلمس على نحو مزعج تماماً الاغتراب والعداء الواسع الانتشار الموجه الى اهداف محددة. فعلى رغم التصريحات الرسمية التي تصدر بين حين وآخر مؤكدة ان الاسلام والمسلمين والعرب ليسوا اعداء الولاياتالمتحدة، يدل كل شيء عدا ذلك الى العكس تماماً. فقد جرى التحقيق مع المئات من الشبان العرب والمسلمين، وفي حالات كثيرة اُحتجزوا من جانب الشرطة او مكتب التحقيقات الفيديرالي "إف بي آي". ويتعين عادةً على كل من يحمل اسماً عربياً او مسلماًَ ان يقف جانباً ويولي اهتماماً خاصاً خلال عمليات التفتيش الأمني في المطارات. واُفيد عن حالات كثيرة من السلوك التمييزي ضد العرب، حتى ان التحدث باللغة العربية او مجرد قراءة وثيقة عربية في العلن يمكن ان يثير ردود فعل سلبية. كما ان وسائل الاعلام قدمت سيلاً من "الخبراء" و "المعلقين" حول الارهاب والاسلام والعرب، ودأب هؤلاء على ترديد موقف تبسيطي بلغ من العداء والتشويه لتاريخنا ومجتمعنا وتراثنا حداً لم تعد معه وسائل الاعلام سوى أحد اسلحة الحرب على الارهاب في افغانستان واماكن اخرى، كما هي الحال الآن حسب ما يبدو بالنسبة الى الهجوم المتوقع ل "إنهاء" العراق. وتنتشر قوات اميركية بالفعل في بلدان عدة يؤلف المسلمون فيها غالبية سكانها، مثل الفيليبين والصومال، فيما يتواصل الحشد العسكري ضد العراق، وتطيل اسرائيل أمد عقابها الجماعي السادي للشعب الفلسطيني، ويرافق هذا كله ما يبدو أنه تأييد كبير من جانب الرأي العام في الولاياتالمتحدة. هذا التصور مضلل تماماً، على رغم انه صحيح في بعض الجوانب. فأميركا هي اكثر من الوصف الذي يقدمه لها بوش ورامسفيلد والآخرون. وينتابني غضب عميق من الفكرة القائلة بأن عليّ ان اقبل صورة اميركا باعتبارها تخوض "حرباً عادلة" ضد شيء يوصم بشكل أحادي من جانب بوش ومستشاريه بأنه ارهاب، حرباً اوكلت ألينا دور شهود صامتين أو مهاجرين في موقف دفاعي ينبغي أن يشعروا بالامتنان للسماح لهم بالاقامة في الولاياتالمتحدة. فالحقائق التاريخية مختلفة: اميركا هي جمهورية مهاجرين، وكانت هكذا دائماً. انها دولة قوانين لم تُقر من جانب الله بل من جانب مواطنيها. وباستثناء الاميركيين الاصليين الذين اُبيدوا بالكامل تقريباً، فإن كل من يعيش هنا في الوقت الحاضر كمواطن اميركي قدم اصلاً الى هذه الشواطىء كمهاجر من مكانٍ ما آخر، ولا يُستثنى من ذلك حتى بوش ورامسفيلد. ولا يسمح الدستور بمستويات متباينة من المواطنية الاميركية، أو بأشكال مقبولة او غير مقبولة من السلوك "الاميركي"، بما في ذلك اشياء اصبحت تسمى تصريحات او مواقف "غير اميركية" او "مناهضة لأميركا". فهذا اختلاق من جانب "الطالبان" الاميركيين الذين يريدون ان يقيدوا الكلام والسلوك بأشكال تذكّر المرء على نحو مخيف بالحكام السابقين لأفغانستان غير المأسوف عليهم. وحتى اذا كان السيد بوش يصرّ على اهمية الدين في اميركا، فإنه غير مخول أن يفرض مثل هذه الآراء على المواطنين أو يتحدث بالإنابة عن الجميع عندما يطلق تصريحات في الصين وأماكن اخرى عن الله واميركا وعن نفسه. فالدستور يفصل بجلاء بين الكنيسة والدولة. هناك ما هو اسوأ. فبتمرير قانون "الوطني" في تشرين الثاني نوفمبر الماضي، قام بوش والكونغرس الخانع بطمس او الغاء او تقييد مقاطع كاملة من "التعديل" الاول والرابع والخامس والثامن في الدستور، وإقرار خطوات اجرائية قانونية ضد الافراد لا تعطيهم أي حق في الحصول على دفاع مناسب او محاكمة عادلة، وتسمح باجراء عمليات تفتيش سرية وتنصت واحتجاز لفترة غير محددة. وتسمح هذه الاجراءات، مع أخذ معاملة الأسرى في قاعدة غوانتانامو في الاعتبار، للسلطة التنفيذية في الولاياتالمتحدة بأن تخطف أسرى وتحتجزهم لأمد غير محدد وتقرر بشكل أحادي ما اذا كانوا أسرى حرب وما اذا كانت مواثيق جنيف تنطبق عليهم، وهو ليس قراراً يتخذ من جانب بلدان منفردة. بالاضافة الى ذلك، كما قال عضو الكونغرس دنيس كوشينيتش ديموقراطي من اوهايو في كلمة رائعة القاها في 17 شباط فبراير، لم يُخول الرئيس ورجاله ان يعلنوا الحرب "عملية الحرية الدائمة" ضد العالم من دون قيد او سبب، ولم يخولوا زيادة الانفاق العسكري الى اكثر من 400 بليون دولار في السنة، ولم يخولوا إبطال "لائحة الحقوق". واضاف، في اول تصريح لمسؤول بارز منتخب، "لم نطلب ان يُثأر لدماء الابرياء، الذين قضوا في 11 ايلول، بسفك دماء القرويين الابرياء في افغانستان". وأوصي بقوة بأن يُنشر النص الكامل لكلمة النائب كوشينيتش، التي استلهمت افضل المبادىء والقيم الاميركية، باللغة العربية كي يمكن للناس في منطقتنا من العالم ان يدركوا ان اميركا ليست كتلة صمّاء واحدة تحت تصرف جورج بوش وديك تشيني، بل تضم في الواقع اصواتاً واتجاهات رأي كثيرة تسعى هذه الحكومة الى إسكاتها او تهميشها. المشكلة التي يواجهها العالم اليوم هي كيف يجري التعامل مع القوة التي لا نظير لها ولم يسبق لها مثيل للولايات المتحدة، التي لم تخف عملياً حقيقة انها لا تحتاج الى التنسيق مع الآخرين او الحصول على موافقتهم في سعيها الى تحقيق ما تعتقد حلقة ضيقة من الرجال والنساء حول بوش انه يمثل مصالحها. وبمقدار ما يتعلق الأمر بالشرق الاوسط يبدو بالفعل انه جرى منذ 11 ايلول فرض توجهات اسرائيل على السياسة الاميركية. واستغل شارون وشركاؤه على نحو مستهتر اخلاقياً الاهتمام المفرط الذي أولاه جورج بوش ل "الارهاب" واستخدموا ذلك كغطاء لسياستهم الفاشلة المستمرة ضد الفلسطينيين. وتكمن المسألة هنا في ان اسرائيل ليست الولاياتالمتحدة، كما ان الولاياتالمتحدة، لحسن الحظ، ليست اسرائيل. لذا، على رغم ان اسرائيل تحظى بتأييد بوش في اللحظة الراهنة، فإنها بلد صغير لا يتوقف استمرار بقائه كدولة قائمة على التفوق العرقي وسط بحر عربي - اسلامي على إتكال نفعي إن لم يكن غير محدود على الولاياتالمتحدة فحسب، بل يتوقف بالأحرى على التكيّف مع بيئته وليس العكس. وهذا ما يفسر، حسب اعتقادي، لماذا تكشّفت سياسة شارون اخيراً لعدد كبير من الاسرائيليين كسياسة انتحارية، ولماذا يتبنى عدد متزايد من الاسرائيليين موقف ضباط الاحتياط المناهض لخدمة الاحتلال العسكري كمثل يحتذى لموقفهم ومقاومتهم. وهذا افضل شيء افرزته الانتفاضة. انه يبرهن على ان شجاعة الفلسطينيين وتحديهم بمقاومة الاحتلال أثمرا اخيراً. لكن ما لم يتغير هو الموقف الاميركي الذي تصاعد في اتجاه فضاء ميتافيزيقي أكثر فأكثر، يتماهى فيه بوش وأعوانه كما يتجلى في اسم الحملة العسكرية ذاته: "عملية الحرية الدائمة" مع الاستقامة والنقاوة والخير والاعتقاد بأن اميركا هي ارض موعودة. ويمكن لكل من تابع الصحافة العالمية في الاسابيع القليلة الماضية ان يتأكد بأن الناس خارج الولاياتالمتحدة يشعرون بالحيرة والذعر على السواء ازاء سياسة الولاياتالمتحدة التي تعطي لنفسها الحق في أن تتخيل وتخلق اعداءً على نطاق عالمي، ثم تشن حروباً ضدهم من دون ايلاء اهتمام يذكر لدقة التعريف او ملموسية الهدف او صواب الغاية أو، وهو الاسوأ اطلاقاً، شرعية مثل هذه الاعمال. ماذا يعني دحر "الارهاب الشرير" في عالم كعالمنا؟ انه لا يمكن ان يعني إستئصال كل من يناهض الولاياتالمتحدة، فهي مهمة غير محدودة وعبثية على نحو غريب، كما لا يمكن ان يعني تغيير خريطة العالم كي تلائم الولاياتالمتحدة، لنُحل اشخاصاً نعتقد انهم "أخيار" محل مخلوقات شريرة مثل صدام حسين. ويبدو التبسيط المفرط لهذا كله جذاباً لبيروقراطيي واشنطن الذين يمتاز مجال نشاطهم بطابع نظري صرف او يميلون، لانهم يجلسون وراء مناضد في البنتاغون، الى رؤية العالم كهدف بعيد لقوة الولاياتالمتحدة الحقيقية تماماً والتي لا تلقى أي مقاومة. فاذا كنت تعيش على مسافة عشرة آلاف ميل عن أي دولة شريرة معروفة ويوجد تحت تصرفك اعداد وافرة من الطائرات و 19 حاملة طائرات وعشرات الغواصات، زائد مليون ونصف مليون شخص تحت السلاح، كلهم مستعدون لأن يخدموا بلادهم بدوافع مثالية سعياً الى تحقيق ما يواصل بوش وكوندوليزا رايس الاشارة اليه باعتباره قوى شريرة، فالأرجح انك ستكون مستعداً لاستخدام كل هذه القوة في وقت ما، في مكان ما، خصوصاً اذا استمرت الادارة تطلب وتحصل على إضافة بلايين الدولارات الى موازنة الدفاع المنتفخة بالفعل. اكثر الاشياء إثارة للاشمئزاز من وجهة نظري هو ان معظم المثقفين والمعلقين في هذا البلد، مع بضعة استثناءات، قبلوا برنامج بوش، بل حاولوا في بعض الحالات الفاضحة ان يتجاوزوه، في اتجاه سفسطة اكثر تعالياً وإطراء اكثر حماساً للذات ومجادلة اكثر خداعاً. وما لن يقبلوا به هو ان العالم الذي نعيش فيه، العالم التاريخي الذي يضم دولاً وشعوباً، يتحرك ويمكن فهمه بواسطة السياسة، وليس بواسطة حقائق مطلقة مثل الخير والشر، حيث تكون اميركا دائماً في جانب الخير، واعداؤها في جانب الشر. عندما يعظ توماس فريدمان العرب بلا كلل بأن عليهم ان يكونوا اكثر نقداً للذات، يخلو أي شيء يقوله من أدنى نبرة من النقد الذاتي. فهو يعتقد، بطريقة ما، ان فظاعات 11 ايلول تعطيه الحق كي يعظ الآخرين، كما لو ان الولاياتالمتحدة هي وحدها التي عانت مثل هذه الخسائر المريعة، وكما لو ان الارواح التي فقدت في اماكن اخرى في العالم لا تستحق القدر نفسه من التفجع او استخلاص استننتاجات اخلاقية ليست اقل شأناً. ويلاحظ المرء التناقضات والجهل ذاته عندما يركز المثقفون الاسرائيليون على مآسيهم ويستبعدون من المعادلة المعاناة الاكبر بكثير لشعب مشرد ومحروم من دولة، او جيش، او سلاح جو، او قيادة مناسبة، أي الفلسطينيون الذين تستمر معاناتهم على أيدي الاسرائيليين كل دقيقة وكل يوم. هذا النوع من العمى الاخلاقي، وهذا العجز عن تقويم الأدلة المقارنة لمرتكب الاثم وضحيته اذا استخدمنا لغة اخلاقية اتحاشاها وامقتها عادةً، هو الوضع السائد تماماً في الوقت الحاضر. ويجب ان تكون مهمة المثقف ذي الفكر الناقد الاّ يقع في الفخ وان ينشط للتحذير من الوقوع فيه. لا يكفي ان يصرح المرء بشكل باهت بأن المعاناة الانسانية كلها متكافئة، ليواصل بعدئذ التفجع بشكل اساسي على تعاساته هو بالذات. فالأهم من ذلك بكثير هو ان يرى ما يفعله الطرف الأقوى، ويجعله موضع مساءلة بدلاً من تبريره. فصوت المثقف هو صوت معارض وناقد للقوة العظمى التي تحتاج دائماً الى ضمير كابح وفاحص ومنظور مقارن، لئلا تلام الضحية، كما هي الحال في اغلب الاحيان، وتُشجّع القوة الفعلية على ان تفرض ارادتها. ذُهلت قبل اسبوع عندما سألني صديق اوروبي عن رأيي بشأن اعلان أصدره 60 مثقفاً اميركياً ونشر في كل الصحف الفرنسية والالمانية والايطالية الرئيسية وغيرها من الصحف في اوروبا، لكنه لم يظهر في الولاياتالمتحدة اطلاقاً، ما عدا شبكة الانترنت حيث لم ينتبه اليه سوى بضعة اشخاص. اتخذ هذا الاعلان صيغة موعظة طنانة حول كون حرب اميركا ضد الشر والارهاب "عادلة" ومنسجمة مع القيم الاميركية، حسب ما يعرّفها هؤلاء الذين نصّبوا انفسهم مفسّرين لبلادنا. وحمل الاعلان، الذي دفعت كلفته ورعته جهة تدعى "معهد القيم الاميركية"، الذي يعتبر ان هدفه الرئيسي والمدعوم مالياً بسخاء هو ترويج افكار لمصلحة العائلة و "الأبوة" و "الأمومة"، تواقيع صموئيل هنتينغتون وفرانسيس فوكوياما ودانييل باتريك مونيهان مع كثيرين غيرهم. لكن كاتبه الاساسي هو الباحثة الاكاديمية المحافظة جين بتكي إلشتين، ويستوحي آراؤه الاساسية حول حرب "عادلة" من البروفسور مايكل والزر، وهو اشتراكي مفترض متحالف مع اللوبي المؤيد لاسرائيل في هذا البلد، ويتمثل دوره في تبرير كل ما تقوم به اسرائيل بالرجوع الى مبادىء يسارية مبهمة. وبالتوقيع على هذا البيان، تخلى والزر عن كل ادعاء باليسارية ووضع نفسه، مثل شارون، الى جانب تصور لأميركا وهو تصور مشكوك فيه كمحارب صالح ضد الارهاب والشر، وذلك للادعاء بأن اسرائيل والولاياتالمتحدة بلدان متماثلان ولديهما اهداف متماثلة. وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة، لأن اسرائيل ليست دولة لمواطنيها بل لكل اليهود، بينما الولاياتالمتحدة هي بالتأكيد ليست سوى دولة مواطنيها. بالاضافة الى ذلك، لم يملك والزر الشجاعة ابداً كي يعلن بجرأة انه بتأييده لاسرائيل انما يؤيد دولة تقوم بنيتها على مبادىء قومية - دينية، وهو ما سيعارضه بنفاق نموذجي في الولاياتالمتحدة لو انها اُعتبرت بيضاء ومسيحية. ولو وضعنا تناقضات والزر ونفاقه جانباً، فان الوثيقة موجهة في الحقيقة الى "اشقائنا المسلمين" الذين يفترض ان يفهموا ان حرب اميركا ليست ضد الاسلام بل ضد اولئك الذين يعارضون كل انواع المبادىء، وهو ما سيكون من الصعب الاختلاف معه. من يمكن ان يعارض المبدأ القائل بان كل البشر متساوون، وان القتل باسم الله هو شيء سيء، وان حرية الضمير شيء ممتاز، وان "الموضوع الاساسي للمجتمع هو الانسان، وان الدور الصحيح للحكومة هو ان تحمي وتساعد على رعاية الظروف للازدهار الانساني"؟ لكن الجزء الذي يلي ذلك من البيان يُظهر اميركا بوصفها الطرف المظلوم. وعلى رغم الاقرار ببعض اخطائها على صعيد السياسة بشكل وجيز للغاية ومن دون ذكر أي شيء محدد بتفصيل، فإنها توصف بكونها ملتزمة مبادىء تنفرد بها الولاياتالمتحدة، مثل امتلاك الجميع لكرامة ومكانة اخلاقية متأصلة، ووجود الحقائق الاخلاقية الشاملة وتوفرها للجميع، او ان الكياسة مهمة حيثما يوجد خلاف، وان حرية الضمير والدين هما انعكاس لكرامة الانسان الاساسية ومعترف بهما على مستوى عالمي. ممتاز. فعلى رغم ان كتّاب هذه الموعظة يقولون ان مبادىء عظيمة كهذه غالباً ما تتعرض الى الانتهاك، لا يُبذل أي جهد للافصاح عن مكان وزمان وقوع هذه الانتهاكات فعلاً فهي تقع على الدوام، او ما اذا كان انتهاكها يفوق الالتزام بها، او أي شيء بهذا القدر من الملموسية. ومع ذلك، يعرض والزر وزملاؤه في هامش طويل لائحة بعدد "جرائم القتل" التي اُرتكبت بحق اميركيين من قبل مسلمين وعرب، من ضمنها افراد البحرية الذين قتلوا في بيروت في 1983، بالاضافة الى مقاتلين عسكريين آخرين. ويبدو ان إعداد مثل هذه اللائحة شيء مهم بالنسبة الى هؤلاء المدافعين بحماس عن اميركا، بينما لا يرون ضرورة لذكر او جدولة اسماء القتلى من العرب والمسلمين - بما فيهم مئات الالاف الذين قتلوا باسلحة اميركية من قبل اسرائيل بدعم من الولاياتالمتحدة، او مئات الآلاف الذين قتلوا نتيجة العقوبات التي تديمها الولاياتالمتحدة ضد سكان العراق المدنيين الابرياء. أي كرامة هذه عندما يُذل الفلسطينيون من قبل اسرائيل، بتواطؤ وحتى تعاون اميركي، واين هو النبل والضمير الاخلاقي عندما لا يقال أي شيء بينما يُقتل الاطفال الفلسطينيون ويحاصر ملايين الاشخاص، ويبقى ملايين آخرون لاجئين محرومين من دولة؟ وماذا بشأن الملايين الذين قتلوا في فيتناموكولومبيا وتركيا واندونيسيا بتأييد اميركا وعلمها؟ اجمالاً، لا يبدو اعلان المبادىء هذا والشكوى الموجهة من مثقفين اميركيين الى اشقائهم المسلمين تعبيراً عن ضمير حقيقي او نقداً صادقاً لمثقفين ضد الاستخدام المتغطرس للسلطة، بل إنه بالأحرى أول طلقة في حرب باردة جديدة تعلنها الولاياتالمتحدة بتعاون كامل مثير للسخرية، كما يبدو، مع اولئك الاسلاميين الذين جادلوا بان حرب "نا" هي مع الغرب ومع اميركا. واذ اتحدث كشخص له حق على اميركا والعرب، فإنني اجد هذا النوع من اللغة المنمقة كريهاً تماماً. فهي اذ تتظاهر بشرح مباديء واعلان قيم، انما تفعل العكس بالضبط، لتمثل تمريناً على التجاهل، وعلى تضليل القراء بلغو وطني يشجع الجهل اذ يتجاهل الحياة السياسية الحقيقية والتاريخ الحقيقي والقضايا الاخلاقية الحقيقية. وعلى رغم متاجرتها المبتذلة ب "مباديء وقيم" عظيمة، فانها لا تفعل شيئاً من ذلك، سوى التلويح بها بطريقة متجبرة مصممة لترويع القراء الاجانب كي يذعنوا. ولدي إحساس بأن هذه الوثيقة لم تُنشر هنا، في الولاياتالمتحدة، لأنها كانت ستُنتقد بحدة من جانب القراء الاميركيين وتصبح موضع ازدراء وسخرية. وأياً كان الامر، فإن نشر اعلان "ما هي القيم الاميركية؟" يؤذن بعصر جديد ومنحط في انتاج الخطاب الثقافي. فعندما يضع مثقفو البلد الأقوى في تاريخ العالم انفسهم على هذا النحو الفظيع الى جانب هذه القوة، ويتبنون موقف هذه القوة بدلاً من الحض على ضبط النفس والتأمل والحوار والفهم بصدق، نعود الى الماضي الرديء للحرب الثقافية ضد الشيوعية، التي نعلم الآن انه ترتب عليها الكثير من المساومات والتواطؤ والتزييف من جانب مثقفين وفنانين كان ينبغي ان يلعبوا دوراً مختلفاً تماماً. فأولئك المثقفين والفنانين الطائشين والمفتقرين كلياً الى قواعد التقد النزيه، الذين لقوا، في الخمسينات والستينات، إسناد الحكومة ودعمها المالي بشكل خاص من وكالة "سي آي إي" التي مضت الى حد اصدار مجلات مثل "إينكاونتر" وتقديم الدعم المالي لابحاث اكاديمية وسفرات وحفلات موسيقية، بالاضافة الى معارض فنية، جلبوا لفكرة النزاهة الفكرية بأكملها بعداً جديداً وكارثياً. فالى جانب هذا الجهد كانت هناك ايضاً الحملة الداخلية لخنق الجدل وترهيب النقاد والتضييق على الفكر. وكانت هذه بالنسبة الى اميركيين كثيرين، مثلي انا، حدثاً مخزياً في تاريخنا، ويجب ان نحذرها ونقاوم عودتها. * استاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا.