سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
المقاومة في "المثلث السني"... ووثائق النظام السابق مختلطة بحياة البغداديين . غرائب بغداد واضطراب نسائها ... وأبناء مسؤولين من لبنان يباشرون أعمالهم فيها 5 من 5
يتساءل الجميع عن الشكل الذي يعيش بموجبه سكان بغداد في ظل الانفلات الأمني والأعمال العسكرية التي تشهدها يومياً العاصمة العراقية. من الواضح لزائر بغداد اليوم ان ثمة خطوات على مستوى الأمن الاجتماعي قد تحققت. عناصر الشرطة العراقية متواجدون بكثافة في الشوارع وعلى التقاطعات، هذا الأمر أحدث انفراجات وساعد سكان بغداد على تكريس أنماط عيش يومي هي غالباً من ذلك النوع الذي يبتكره سكان المناطق التي تشهد حروباً. الحرب جارية في أنحاء من المدينة والسكان وجدوا على ما يبدو أساليب تحايل وبقاء. وفي هذا الوقت يختبر السكان طرق عيش جديد في ظل سقوط الكابوس المتمثل بالنظام السابق. حلقة اليوم هي الأخيرة ضمن سلسلة تحقيقات بغداد وتتناول بعض أوجه العيش العادي في بغداد. أحوال المرأة والجامعة والشارع، وزيارات لبيوت بغدادية ولعائلات استأنفت حياتها بعد سقوط التمثال ولكنها اصطدمت بالوضع الأمني المتردي. تفكر احرار في وقف ارسال ابنتها الى مدرستها في بغداد هذا العام. تقول ان ضياع سنة دراسية ربما كان اقل كلفة من ارسالها كل يوم في هذه الأوضاع الى المدرسة. العائلة البغدادية المؤلفة من أحرار وزوجها وابنيهما، تقيم في منزل مستقل مؤلف من طبقتين في شارع متفرع عن شارع الكرادة، والى جانب منزلهما تماماً تقيم شقيقة احرار وزوجها واولادهما. المنزلان يحاذيان شارعاً مطلاً على جسر الطوابق الثلاث الشهير في بغداد، والمنزلان اذ يحاذيان هذا الشارع ينكفئان قليلاً مفسحين لحديقتين صغيرتين غالباً ما تقدمتا هذا النوع من المنازل في بغداد. والمنزل ايضاً مطل على شبكة الطرق الخاصة المحيطة بالجسر والمفضية الى منزل قصي صدام حسين، والتي لم يكن مسموحاً سلوكها لغير اهل البيت وحراسهم وخدمهم. ومن خلف الطرق هذه يعبر نهر دجلة في واحدة من التفافاته الكثيرة. احرار وعلي قليلاً ما يخرجان مساء من منزلهما هذه الأيام. انها حال معظم العراقيين، وهما اكتفيا بقدر قليل من الحياة في مساءاتهما. احياناً يستقبلان ضيوفاً معظمهم من الأصدقاء الذين كانوا غادروا بغداد ثم عادوا اليها بعد سقوط النظام، وهؤلاء لم تستقر حياتهم في العاصمة العراقية بعد، في شكل يتيح لهم العودة الى المنازل في وقت مبكر. أزقة الكرادة المفضية الى منزل الزوجين تعبث فيها في المساء عصابات كلاب الشوارع. قليل من السكان في هذا الوقت يعبرون الأرصفة دالفين الى المنازل، وقد يكون مغرياً للعابر ان يصغي الى الأصوات المنبعثة من هذه المنازل، فهي لحظة انتظام نادر للحياة في المدينة التي انقلبت اوضاعها في اشهر قليلة. الأضواء الداخلية خافتة وسكان هذه المنازل لا يخرجون اصواتاً كثيرة. الصور التي يمكن استحضارها لما يجري في داخلها تقتصر على مشاهد العودة المبكرة الى المنزل وما يصاحب هذه العودة من جلبة الاستعداد لليل ما. ليل غير آمن ربما، ولكن في هذه الأحياء تكفي العودة الى المنزل حتى يشعر العائد بأنه في منأى عن احداث الليل الغامضة. فأصوات الانفجارات البعيدة التي يشرع السكان بمحاولة تفسيرها، غالباً ما تكون بعيدة. انها تستهدف منطقة ال"غرين زون"، اي المنطقة التي اختارتها الادارة المدنية الأميركية مقراً لها قرب فندق الرشيد وفي محيطه. هكذا يُبعِد العراقيون مخاطر هذه الانفجارات الليلية اليومية، اي عبر اعتقادهم انها بعيدة وانها تستهدف الأميركيين. لكن الصباح لا يحمل اليهم اخباراً اخرى. فالأميركيون لا يفصحون عن هذه الأصوات التي سمعها السكان. ربما كان عدم افصاحهم مفيداً، فالناس على استعداد لنسيان هذه الأصوات اذا ما بقيت اصواتاً معزولة عما خلفته. الاقتراب من العراقيين في هذه اللحظات البطيئة مختلف، فهم الآن في المنازل يعيشون اوقاتاً عادية. ويمكن القول انه الى جانب الاضطراب الأمني والقلق ثمة اوقات واضحة يوزعون عليها نشاطاتهم. انه امر ممكن من دون شك، والا استحالت الحياة. قول احرار انها ستوقف ارسال ابنتها الى المدرسة يترافق مع انفراجات صغيرة اخرى تعيشها العائلة المتوسطة الحال. فعلي الذي عثر على عمل، واحرار التي تفكر في عروض عمل جزئي جاءتها، والشقيق المغترب الذي صار امكان الاتصال به وارداً، والأصدقاء العائدون من غربة قصرية، انها بداية حياة جديدة، وهما حين يتكلمان عما كانا يعيشانه، يشرعان بمقارنته بما صارا عليه بعد انقلاب الأوضاع. فعلي مهندس عمل لفترة قصيرة في اواخر الثمانينات في احد المفاعل النووية العراقية، وهو ما ادى الى اعتباره مالكاً لأسرار يجب عدم خروجها من العراق، وهو كحال آلاف من الذين عملوا في المفاعلات، صودر جواز سفره، اما زوجته فتمكنت من السفر اكثر من مرة، ساعدها في ذلك اصدقاء عملوا في مناصب امنية واعلامية رسمية خلال حكم البعث، وهؤلاء الأصدقاء اذ يتصلون اليوم بعلي واحرار، يبدي الزوجان مودة قطعها كثير من العراقيين مع امثال هؤلاء الأصدقاء، اذ تشعر في بغداد ان ثمة ميلاً الى القطع الكامل مع الحياة السابقة، الى نفيها اذا امكن. تصويرها على انها جحيم متواصل، وان شخصياتها معنوية لا بشرية. في حين ترى احرار انه صحيح ان العيش كان في حده الأدنى وان المنازل كانت معبأة بالرعب، ولكن ذلك افرز اشكالاً من التعايش مع هذه الأوضاع. "فلكي نسافر مثلاً علينا الاتصال بأشخاص محددين، وكثرة الاحتكاك بهؤلاء تكشف جوانب يمكن التواطؤ معهم فيها. فهم بشر على كل حال. وهم ضباط مدنيون ولديهم عائلات واطفال، وليسوا الشر المجرد من اي ملامح اخرى". وتضيف: "عندما كنت اعود من السفر كان بعض هؤلاء يحاول استدراجي الى الحديث عما رأيت، ويسألني عن اسماء معارضين يحتمل انني التقيتهم، ومع الوقت تفهمت دوافعهم. انه عملهم وكانوا يؤدونه معي بأقل الخسائر الممكنة". البيوت في بغداد مزدحمة هذه الأيام بتفاوت الحكايات. ام حسن التي راحت تتحدث عن زمنها وعن زمن اولادها، وكيف تشعر انها متقدمة عليهم بفعل ازدهار حياتها في ستينات القرن الفائت وانسداد حياتهم في التسعينات. قالت انها تشعر اولادها قُصَر "لا يعرفون من الحياة الا ما كنا نحيطهم به، وهو التحذيرات من الانزلاق بحديث، والامتثال الكامل لتعليمات ادارة الجامعة، وتنبيهات تتعلق بعدم ذكر ان عمهم لاجئ في الخارج امام احد و... وهم الآن شباب فكيف لهم ان يواجهوا هذا الزمن الجديد". اما ابنتها الشابة فتحدثت عن سبب اقدامها على ارتداء الحجاب، اذ انتبهت وقبل سنوات قليلة انها الوحيدة في الجامعة لا ترتديه، لم يطلب منها احد ارتداءه، لكنها احست ان بقاءها من دونه خطأ. وهي على كل حال لا تشعر بأنها اقدمت حين تحجبت على شيء مخالف لقناعتها. فهي لا تعرف لماذا لم تكن ترتديه، ولهذا لم تسأل نفسها كثيراً لماذا ارتدته. ولكن جواً عاماً كان يدفع الناس الى اتجاه او اتجاهات لا يبدو ان احداً كان يخطط لها. وحكايات الفتيات مع هذه الاتجاهات ربما كانت اكثر تظهيراً لغموضه ولتواطؤ انخرط فيه الجميع. فزينب التي تعمل اليوم سكرتيرة في احدى الشركات التي فتحت فرعاً في بغداد بعد سقوط النظام، تأخرت يوماً عن موعد عودتها الى منزلها في حي العدل في العاصمة العراقية. استغرقت في العمل نحو ساعتين اضافيتين وصارت السادسة مساء. ومسرعة حملت حقيبة يدها وكيساً صغيراً تحمله معها كل يوم الى العمل. وتأخر الفتاة عن موعد العودة الى المنزل في بغداد، اضيفت اليه تعقيدات جديدة بفعل الأوضاع الأمنية المتردية وما يحكى عن عمليات خطف تعرضت لها شابات في العراق. وزينب في لحظة خروجها من المكتب كانت ترتجف كلها، والسائق الذي يعمل في الشركة لم ينجح في محاولة تهدئتها، اذ راحت تردد امامه ان خوفها ليس من الطريق ومخاطره فحسب وانما من الحال التي تعتقد ان اهلها يعيشونه في ظل تأخرها في العودة. وبعد انطلاق السيارة التي اقلت زملاء آخرين الى منازلهم ايضاً، حملت زينب الكيس الذي كانت تحمله وأخرجت منه ثوباً رقيقاً وراحت ترتديه فوق ثيابها. انه ثوب شرعي، ليس من ذلك النوع الأسود ولكنه يغطي جسمها كله، ثم اخرجت من الكيس نقاباً ابيض وغطت فيه شعرها. حصل هذا اثناء تقدم السيارة في اتجاه حي العدل، وبدت زينب خجلة من فعلتها هذه امام زملائها الذين رافقوها في السيارة، في حين تفعل هي ذلك كل يوم كما قال هؤلاء الزملاء لاحقاً، انما ليس في سيارة الشركة بل في حافلة النقل العام التي تعبر كل يوم من امام مكتب الشركة في الساعة الثالثة بعد الظهر. الشابات العراقيات يعشن فعلاً هذه الأيام بأقنعة كثيرة. ويسبب هذا للكثيرات منهن مواقف مؤلمة. فبغداد مدينة أدخلت المرأة الى مجالات التعليم والعمل الى حدٍ ما، ولكن تقلب الأوضاع الأمنية التي سبقها انقلاب في المزاج البعثي في اتجاه مزيد من المحافظة على قيم قديمة، عادا وزجرا المرأة واحكما رقابة مضاعفة عليها. ستشعر وانت في بغداد اي حيرة تعيشها النساء في هذه المدينة. فالمسموح في المنزل قد يكون ممنوعاً في الشارع، وما هو مطلوب في العمل من الصعب اشهاره امام العائلة. ستلاحظ شابات كثيرات يعبرن الشوارع غير منقبات ولكنهن يحملن في ايديهن اثواباً سود لتدارك اي امر طارئ. وستلاحظ العكس ايضاً شابات منقبات في الشوارع وفي منازلهن غير منقبات. القناعات لا تترجم افعالاً، فثقل التقاليد اقوى في داخل الشخص نفسه من اي قناعة او ميل. السائق الذي اقل زينب الى منزلها حمل عليها فور خروجها من السيارة، وقال ان تأخرها اشارة غير مطمئنة حتى لو استدعى العمل ذلك. ثم عاد ونفى ما قالته من انها ارتدت الحجاب لعبور الشارع وانها في المنزل غير ملزمة فيه. واكد انه شاهدها ذات يوم تخرج من سيارة والدها الى المكتب وكانت منقبة. في بغداد اليوم ثمة ما يلح على المرأة بضرورة الخروج من المنزل الى العمل. الوضع الاقتصادي الضاغط اولاً، ثم الأجواء السياسية الجديدة الداعية الى حضور المرأة في مختلف المجالات. القوى والأحزاب التي تخوض غمار الحياة السياسية الجديدة تشعر ان في مناداتها لخروج المرأة الى العمل محاكاة لمزاج عالمي واشهاراً لحسن النيات تجاه قيم العالم الجديد التي تلهث وراء الانتماء اليه. هذه الحوافز تقابلها حقائق اخرى وتصطدم بها، فيولد الاصطدام مآسي في احيان كثيرة، كما يولد حياة ظلٍ وعيش بأقنعة كثيرة. النساء اللواتي تلتقيهن في الأماكن العامة والعمل يشعرنك بتنازع يعشنه بين ما هو مطلوب منهن وما يستطعن فعله. كل يوم تعيشه في بغداد ستتعثر بحكاية من هذا النوع. مجتمع محافظ ويعيش ظروفاً أمنية سيئة، لكنه لم ينتصر على رغبات ابنائه في الانتقال الى اوضاع اخرى. امام الجامعات في بغداد ستجد آباءً كثراً منتظرين خروج بناتهم من الكليات. وروايات كثيرة عما تعرضت له الفتيات المنتظرات في الشوارع عبور حافلات النقل العام. الشكاوى تتعدى مجرمي الشارع ومنحرفيه، فشابات بغداد بدأن بالشكوى من انتشار الأحزاب الدينية في الجامعات، وتشديد القبضة على اساليب التصرف واللباس. فحتى الآن لم يمثل سقوط النظام في العراق بالنسبة للمرأة انفراجاً. قبل السقوط لم يكن وضعها نموذجياً طبعاً. كانت اماً ثكلى وشابة مصابة بالحملة الايمانية التي بدأها النظام، وكانت ضحية محتملة في حملات الاعتقال والابادة. لكنها اليوم ايضاً الخاصرة الضعيفة لهذا المجتمع الذي يعيش مرحلة انتقال شديدة الاضطراب. العشائريون وهم غالبية سكان العراق ضاعفوا من رقابتهم، وهم في اثناء رفعهم الشكوى والمظلمة من جراء احتكاكهم بالأميركيين، كانت المرأة اول ما رفعوا الصوت لحمايتها كقيمة معنوية. انهم يخافون على النساء من التفتيش وفي الوقت الذي يعلنون فيه ان المرأة في مجتمعاتنا قيمة يجب حمايتها، يمعنون في الحماية الى حد الاختناق كما قالت صحافية عراقية. فنادق بغداد المكتظة بالنزلاء الذين وصلوا من كل انحاء الأرض لغايات كثيرة، يمكن منها الاستماع الى بعض ما يجري في المدينة. الشركات الأميركية وصلت بدورها عبر التعاقد مع سلطة الائتلاف والتزمت عدداً من مشاريع اعادة المرافق العامة. لكن هذه الشركات الكبرى تتصدى لمشكلات صغرى تبدو اليوم اكثر الحاحاً. الكهرباء مثلاً لزمت لشركة "بكتل" الأميركية، لكن العراقيين لن ينتظروا انجاز العمل في المحطات والشبكات الكبرى. وصل اللبنانيون في هذا الوقت ونقلوا الى العراقيين تقنية بديلة كانوا اختبروها ايام حربهم، وهي المولدات الكهربائية التي تعمل على المازوت والتي يقوم اصحابها بتوزيع الاشتراكات الى المنازل في الأحياء. اصوات هذه المولدات ستلازمك طوال اقامتك في بغداد، ولكن بعض اللبنانيين وصلوا أخيراً وبدأوا يفاوضون على بيع كواتم صوت لهذه المولدات. ورجال الأعمال اللبنانيون في بغداد اكثر من نوع ومن مستوى. اذ وصل الى العاصمة العراقية عدد من ابناء الجيل الجديد من رجال الأعمال اللبنانيين، انهم عدد من ابناء المسؤولين والوزراء في الحكومة اللبنانية. حلوا ضيوفاً على اعضاء في مجلس الحكم الموقت وباشروا درس السوق الذي كان اهلهم سبقوهم اليه في ايام النظام السابق. الغريب ان هؤلاء هم ابناء وزراء ومسؤولين في حكومة لم تعترف بمجلس الحكم. والد واحد من هؤلاء مشهود لعلاقته بالنظام السابق، وخطبه في مديح رموزه ليست قديمة، ولكن يبدو ان عالم المال والأعمال ارحب من عالم السياسة، وبغداد تشهد مفارقات اشد غرابة. شارع المتنبي واحد من غرائب بغداد فعلاً، فمواظبة هؤلاء الرجال على القدوم اليه في هذه الأوضاع ليست بالفعل امراً بديهياً. بالأمس شهد الشارع انفجاراً كبيراً قتل فيه رجل وجرح العشرات، لكن القراء العراقيين زحفوا منذ الصباح اليه. انهم قراء من النوع الذي لم نعد نشاهده في المدن العربية الأخرى. رجال خمسينيون في معظمهم، ارتدوا لشارع مكتبات الرصيف في بغداد تلك الثياب التي تعيدك الى اناقة الستينات والسبعينات، ذلك الزمن الذي كان فيه العراق غنياً، وشرعوا يتجولون بين بسطات الكتب المستنسخة والمخفوضة الأسعار. من هذا الشارع يمكنك شراء مكتبات كاملة بأسعار لا تصدق. المكننة ساعدت على هذا الأمر، اذ يمكنك شراء قرص مدمج يحوي على موسوعات دينية مثلاً تضم مئات الكتب بأقل من دولار اميركي. ويبدو ان من بين رواد الشارع كثراً من قراء كتب المراجع الدينية ومن طلاب الجامعات والحوزات الدينية. يمكن التحقق من ذلك من نوعية الكتب المعروضة، ومن الوجوه واللحى. ولكن ايضاً يمكن رصد وجوه وكتب علمانية. الكتب الورقية التي وصلت هاربة من الرقابة السابقة او بعد سقوط النظام سريعاً ما استنسخت، وتم توضيبها بأغلفة صفراء كتبت عليها بخط اليد اسماؤها واسماء كتابها وعرضت بأسعار مغرية ايضاً. اما الكتب المرتفعة الثمن فهي تلك الأصلية والقديمة التي احضرها اصحاب المكتبات الخاصة بعدما تدهورت اوضاعهم وقرروا بيع مكتباتهم. الباعة معظمهم جامعيون ويعرفون قيمة الكتب. ويبدو ان الزبائن صاروا معروفين ايضاً. تبادل التحية بينهم وبين الباعة يوحي بذلك وتوجههم مباشرة الى البسطة التي تعرض كتباً جديدة يوحي بأنهم سبق ان عاينوا كل الكتب الأخرى. الشارع اتسع لمقاه يتجمع فيها عدد من الباعة والزبائن، حمل روادها صحفاً راحت تتكاثر في بغداد يوماً بعد يوم حتى بلغ عددها 163 صحيفة بعضها اسبوعي وبعضها نصف او ثلث اسبوعي، وقليل منها يومي. فالعراقيون يرغبون في الكلام بعد فترة طويلة من الصمت القسري، ومن لا يمتلك القدرة على فتح جريدة ابتكر اساليب اخرى. في شارع المتنبي رجال لا يبيعون ولا يشترون، فقط يجلسون الى جانب لوحات اعلانية كتبوا عليها آراء من ينشرها لهم، واقام هؤلاء حواراً مباشراً مع قرائهم العابرين، هي اقرب الى تبادل متشنج للعبارات التي ضمنوها مقالاتهم، وهي غالباً ما تميل الى قذف التهم، ومادتها الأساسية هذه الأيام موضوع الدستور وحقوق الأكراد والمجموعات الطائفية والقومية الأخرى. غرائب كثيرة في العراق والبلد في مرحلة تغير من الصعب رصد اتجاهاتها.