محافظ صبيا يؤدي صلاة الإستسقاء بجامع الراجحي    27 سفيرا يعززون شراكات دولهم مع الشورى    المملكة تشارك في الدورة ال 29 لمؤتمر حظر الأسلحة الكيميائية في لاهاي    مصير غزة بعد هدنة لبنان    في «الوسط والقاع».. جولة «روشن» ال12 تنطلق ب3 مواجهات مثيرة    الداود يبدأ مع الأخضر من «خليجي 26»    1500 طائرة تزيّن سماء الرياض بلوحات مضيئة    «الدرعية لفنون المستقبل» أول مركز للوسائط الجديدة في الشرق الأوسط وأفريقيا    السعودية ترأس اجتماع المجلس التنفيذي ل«الأرابوساي»    وزير الصحة الصومالي: جلسات مؤتمر التوائم مبهرة    السياحة تساهم ب %10 من الاقتصاد.. و%52 من الناتج المحلي «غير نفطي»    سلوكياتنا.. مرآة مسؤوليتنا!    «الكوري» ظلم الهلال    شخصنة المواقف    أمير تبوك يستقبل رئيس واعضاء اللجنة الوطنية لرعاية السجناء والمفرج عنهم    أمانة القصيم تنجح في التعامل مع الحالة المطرية التي مرت المنطقة    النوم المبكر مواجهة للأمراض    نيمار يقترب ومالكوم يعود    الآسيوي يحقق في أداء حكام لقاء الهلال والسد    الملك يضيف لؤلؤة في عقد العاصمة    أنا ووسائل التواصل الاجتماعي    التركي: الأصل في الأمور الإباحة ولا جريمة ولا عقوبة إلاّ بنص    النضج الفكري بوابة التطوير    برعاية أمير مكة.. انعقاد اللقاء ال 17 للمؤسسين بمركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة    الذكاء الاصطناعي والإسلام المعتدل    وفاة المعمر الأكبر في العالم عن 112 عامًا    الموارد البشرية توقّع مذكرة لتأهيل الكوادر الوطنية    قيصرية الكتاب تستضيف رائد تحقيق الشعر العربي    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    الشائعات ضد المملكة    الأسرة والأم الحنون    سعادة بطعم الرحمة    تميز المشاركات الوطنية بمؤتمر الابتكار في استدامة المياه    وزير الرياضة: دعم القيادة نقل الرياضة إلى مصاف العالمية    بحث مستجدات التنفس الصناعي للكبار    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالريان يُعيد البسمة لأربعينية بالإنجاب بعد تعرضها ل«15» إجهاضاً متكرراً للحمل    في الجولة الخامسة من يوروبا ليغ.. أموريم يريد كسب جماهير مان يونايتد في مواجهة نرويجية    خادم الحرمين الشريفين يتلقى رسالة من أمير الكويت    دشن الصيدلية الافتراضية وتسلم شهادة "غينيس".. محافظ جدة يطلق أعمال المؤتمر الصحي الدولي للجودة    "الأدب" تحتفي بمسيرة 50 عاماً من إبداع اليوسف    المملكة ضيف شرف في معرض "أرتيجانو" الإيطالي    تواصل الشعوب    ورحل بهجة المجالس    إعلاميون يطمئنون على صحة العباسي    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    تقليص انبعاثات غاز الميثان الناتج عن الأبقار    الزميل العويضي يحتفل بزواج إبنه مبارك    احتفال السيف والشريف بزواج «المهند»    يوسف العجلاتي يزف إبنيه مصعب وأحمد على أنغام «المزمار»    «واتساب» تختبر ميزة لحظر الرسائل المزعجة    اكتشاف الحمض المرتبط بأمراض الشيخوخة    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هؤلاء هم المرجفون    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المقاومة في "المثلث السني"... ووثائق النظام السابق مختلطة بحياة البغداديين . أصوات "المقاومة" ورفض الاحتلال في بغداد ... وقناع الوحدة على الرأس المهشم 3 من 5
نشر في الحياة يوم 12 - 11 - 2003

حلقة الأمس تناولت الضلع الثاني في المثلث السني وهو مدينة الرمادي. أما بغداد فتشهد حركة سياسية في وسطها العروبي والبعثي السابق على صدام. كذلك يشعر عدد من سكان المدينة انه خارج الحركة السياسية الجديدة التي يعيشها العراق اليوم. وتحقيق اليوم يتعرض لقضية هذه الشريحة من السكان ولقوى سياسية وشخصيات خرجت لتعلن ان في العراق من يرفض الأوضاع الراهنة وهو في الوقت نفسه من غير مؤيدي النظام السابق.
الاشارة التي سبق التطرق اليها لجهة الفراغ الذي احدثه سقوط النظام في العراق، لها في بغداد حكاية مختلفة. الأحزاب والمنظمات الأمنية والطائفية التي اتيح لها الدخول مع القوات الأميركية، او تلك التيارات الداخلية التي افسح لها سقوط النظام، غالبيتها ضعيفة الصلة بالوسط العربي السني، هذا الوسط الذي طالما خرجت منه النخب الحاكمة في العراق طوال العقد الفائت على الأقل. وهو الوسط الأقل تضرراً وتهشماً جراء انقضاء اكثر من 30 سنة من حكم البعث. لكن لهذه الحكاية وجهاً آخر، فاضطهاد الشيعة والأكراد افرز قوى طائفية وقومية تسعى الآن الى ملء الساحتين في الشمال والجنوب. لكن النظام البعثي وأثناء سعيه الى احتكار الحياة العامة وبعد انجازه القضاء على القوى الأخرى السنية القومية منها تحديداً، سعى الى استيعاب بقاياها في آلته البيروقراطية والادارية. هذا الأمر مضافاً اليه غياب المأساة الكبرى التي ألمت بالجماعات الأخرى حالا دون تبلور اطراف سياسية يمكن ان تملأ الفراغ الذي ملأته في الحال الشيعية قوى المأساة الشيعية في العراق وفي الشمال القوى الكردية التي كانت منطقة الملاذ الآمن مختبراً كبيراً.
ربما كانت مقاومة الوجود الأميركي المظهر السياسي الأبرز الذي انتجه المسلمون السنة في العراق في مرحلة ما بعد صدام. ولكن حركة المقاومة هذه تضاعف من مأزق اهل السنة بدل ان تكون مخرجهم الى الحياة العامة، خصوصاً اذا اعتبرنا ان وظيفة السياسة هي تدبير حياة الجماعات والدول. فطرفا المقاومة العراقية الوحيدان الى الآن هما حزب البعث المنحل والمنتحر، وتنظيم "القاعدة" المحظور على نحو غير مسبوق في العالم كله. وهذان الطرفان لا يمكنهما ان يقدما برنامجاً تهتدي بموجبه جماعة او دولة. برنامج البعث الوحيد الانتقام الحرفي من كل العراق، وبرنامج القاعدة أُخروي وليس دنيوياً. انه مأزق عراقي عام على قدر ما هو مأزق سني. وفي بغداد تمكن ملاحظة هذا المأزق كل يوم، اذ يعترف كثيرون من اعضاء مجلس الحكم بضعف التمثيل السني فيه، لكنهم في الوقت عينه يتحدثون عن غياب القوى التي يمكن ان تمثل السنة في مجلس الحكم. "القوميون الأكراد ممثلون في مجلس الحكم في حين لا اثر للقوميين العرب". يردد هذه العبارة كثيرون في بغداد اليوم. ويبدو ان القوميين العرب الذين ما عاد لهم صوت في الكثير من الدول والمدن العربية، ما زالت بغداد تحتفظ ببعضهم وهم اليوم يحاولون بوسائل كثيرة ايجاد صيغ مختلفة لتجمعهم واطلاقهم اصواتاً وسط بحر الأصوات الذي تتلاطم أمواجه في بغداد. انهم البعثيون السابقون غير الصداميين، وهم بقايا الأحزاب الناصرية والقومية ووجوه بغدادية سبق ان لعبت ادواراً سياسية واقتصادية في مراحل متفاوتة في التاريخ العراقي الحديث. كثيرون ينادون بأن يضم مجلس الحكم ممثلاً لهذه الاتجاهات على رغم رفض هؤلاء لكل الوضع الناشئ عن سقوط النظام والاحتلال الأميركي.
محمود عثمان العضو الكردي في مجلس الحكم قال ل"الحياة" ان من الحكمة توسيع مجلس الحكم حتى يضم فئات سنية عربية جديدة من بينهم القوميون العرب واطراف اسلامية كتجمع العلماء المسلمين. ويمكنك ان تسمع دعوات من هذا النوع من الحلقة القريبة من الدكتور عدنان الباجه جي ايضاً، ومرد هذا طبعاً الى حقيقة يختبرها هؤلاء كل يوم وتتمثل في شعور النخب السنية البغدادية خصوصاً والعراقية عموماً بضعف العلاقة مع مجلس الحكم ومع الحكومة المنبثقة منه.
في بغداد اليوم اكثر من محاولة لتنظيم صفوف اصوات خارج مجلس الحكم. قانون الاستثمار الأجنبي الذي كان الانقسام حوله مناسبة لفرز الأصوات، ولتحديد اصطفافات جديدة. ففي ردها على هذا القانون اصدرت مجموعة من السياسيين وأساتذة الجامعة والشخصيات الحزبية والاقتصادية والثقافية والعسكرية بياناً كان بمثابة "مانيفستو" سياسي حددت بموجبه مواقف هذه النخبة من مجمل الوضع في العراق. موقعو البيان يتشابهون لجهة خروج معظمهم من بيئة مدينية وقومية، ويرفضون التحديد الأخير الذي اطلقه عليهم مراقبون عراقيون وهو ان معظمهم مسلمون سنة. ولعل اختيار قانون الاستثمار الأجنبي كمناسبة لاطلاق حركة سياسية تنخرط فيها هذه النخبة، يشي بموقع هذه المجموعة من التركيبة العراقية. فالرفض المطلق لهذا القانون واعتباره امتداداً "لموجات النهب والسلب التي رافقت سقوط بغداد ومدخلاً لنفوذ الشركات العابرة القومية"، صادر عن بيئة اقتصادية مدينية محافظة. انها تلك المقاومة التقليدية للمتغيرات الاقتصادية العالمية، التي طالما صدرت عن اوساط مشابهة في الكثير من الدول.
اثناء بحثك في شوارع بغداد عن منازل بعض الموقعين على بيان رفض قانون الاستثمار ستلاحظ فروقاً بين الشوارع والمنازل هذه وبين شوارع ومنازل اخرى درج الصحافيون على التنقل فيها والتوجه اليها قاصدين منازل المسؤولين العراقيين الجدد. شارع حيفا مثلاً حيث يقيم الدكتور حبيب الراوي وهو بعثي سابق وأستاذ مادة الرياضيات في جامعة بغداد، من الشوارع القليلة في العاصمة العراقية التي تشعر اذا ما عبرت فيه بأنك حيال مدينة طبيعية وغير خربة، اصطفاف هادئ للأبنية وخراب قليل. ثمة ملامح لطبقة وسطى. ربما كان ديكوراً لحياة طبيعية يخلّف في العابر ارتياحاً غامضاً. المباني التي اقيمت متباعدة، والطريق المتسع الذي لا يشهد اكتظاظاً، والأرصفة النادرة في بغداد، ولكن الأهم من هذا كله الحياة العادية، حيث الناس يخرجون من منازلهم الى الدكان القريب، وحيث للمباني نواطير لا حراس مسلحين، وشرطي السير الواقف عند التقاطع الأخير للشارع مختلف ربما عن عناصر الشرطة المنتشرين في الشوارع الأخرى على نحو مختلف.
ان تدلف من الرصيف الى المبنى الذي يقيم فيه الراوي، سيفاجئك ما حل بهذه الفئات في العراق، فالأرجح ان المبنى لا يتجاوز عمره الخمسة عشر عاماً، ويقيم فيه اناس منتظمو العيش، لكن الخراب الداخلي للمبنى محير فعلاً. فالتفاوت كبير. السلم الداخلي غير منجز والمصاعد معطلة، ويظهر كأن حريقاً داخلياً جعل الجدران سوداً. لكن هذا لا يبدد احساسك أنك بصدد زيارة اناس من ابناء المدينة، الذين عاشوا فيها العقود الأخيرة، وان منازلهم تختزن روائح تلك الحياة الغامضة، في ظل النظام المنهار. الدكتور حبيب سياسي سابق كان مسؤولاً في البعث قبل ان يكون صدام مسؤولاً فيه، لكنه ترك الحزب منذ اكثر من ثلاثة عقود. ثمة انفراج على وجه الرجل على رغم عدم انخراطه في الوضع الجديد الا من خلال توقيعه بيان رفض قانون الاستثمار. كان بعثياً عندما كانت للبعث قاعدة اجتماعية ما في العراق. وبعدما تحول الحزب الى منظمة امنية، انقطع الرجل في وحشة ذلك المجتمع المحاصر بعيون الأمن والاستخبارات. صار مواطناً عراقياً من اولئك الذين لا تتاح لنا رؤيتهم نحن الذين نعيش خارج العراق. ربما كان هذا سر الانفراج في وجه الرجل الذي كانت بعثيته في البداية باباً على العالم الخارجي، فتنقل في مهمات حزبية بين بيروت ودمشق وتعرف على اناس فيهما، وذلك قبل يحول البعث العراق الى سجن كبير.
يعتذر الراوي عن عدم تمكنه من الوصول الى مكتب صديقه الذي اعتاد على زيارته كل اربعاء وكان من المفترض ان نلتقي فيه هناك، فقد تعطلت سيارته والهاتف معطل عنده منذ قصف الأميركيون في بداية الحرب بدالة شارع حيفا. من الواضح ان استاذ الرياضيات في جامعة بغداد يعيش اليوم حياة عادية، ويبدو ان رغبته في الاستماع الى قادم غريب تفوق رغبته في التحدث عن اوضاع العراق اليوم. يقول الراوي: "الأميركيون دمروا البلد والدولة بين ليلة وضحاها. انفلات امني غير مسبوق. لا جيش ولا شرطة، والقوات الأميركية شجعت على هذا الانفلات عبر فتح باب المؤسسات للسراق. يرافق هذا كله غياب كامل لمؤسسات المجتمع المدني، فقد نظف النظام السابق العراق من كل شيء. ففي هذه الظروف كان من الممكن ان تشكل مؤسسات من هذا النوع حماية او ضمانة". ويضيف: "الأحزاب العراقية القادمة من الخارج لا قواعد لها في الداخل ولهذا عجزت عن حماية اي شيء. دخلت جهات اسرائيلية ثقافية وغير ثقافية على الساحة العراقية بحجة ان العراق اليوم حر وأبوابه مفتوحة للجميع".
لكن الراوي يفترق عن كثير من موقعي البيان في نقطة مطالبته بتوسيع مجلس الحكم، اذ ثمة من بين الشخصيات البغدادية من يرفض اصلاً صيغة وجود المجلس ويعتبره مجلساً اميركياً، فلا بأس بالنسبة الى الدكتور حبيب ان يتحول المجلس الى نوع من قناة ضغط على الأميركيين. أما بالنسبة الى المجموعة التي وقع معها البيان، فهو يعتقد بضرورة "ان نبني انفسنا سياسياً وأن نباشر نضالات مدنية. فالسياسة هي التي يجب ان تقود اي عمل".
تفصل "الناشطين السياسيين البغداديين من خارج الهيئات الجديدة" منطقة غامضة عن المقاومة بمعناها الأمني والعسكري. فمن الصعب ادراج هؤلاء في آلة النظام السابق، وهم ايضاً ليسوا جزءاً من الأجواء الاسلامية الصاعدة، ولهذا لا تبدو الأعمال العسكرية صدى او تعبيراً آخر لحركتهم، ولكنها في الوقت عينه منسجمة مع حركة اعتراضهم على الوجود الأميركي في العراق، وبرأي بعضهم "لا بأس من استثمارها في حركة الضغط على الأميركيين". انه مأزق آخر يقع فيه هؤلاء البعيدون عن اداة الضغط الفعلية التي تدفع في اتجاه اهدافهم، وهو ما يصعب مسألة حسم تمثيلهم. ف"للمقاومة" في العراق رموزها والتعاطي مع ردائف او اشباه يُفقد المفاوض اوراقاً. الانخراط في حركة المطالبة والضغط لا يمكن ان يترافق مع خروج عن المعادلة. المقاومة العسكرية من الصعب ان تتحول الى جزء من اللعبة الداخلية، خصوصاً ان اهدافها ليسوا الأميركيين وحدهم. ثمة احزاب عراقية مستهدفة ايضاً، وعناصر الشرطة، وثمة طوائف وقوميات خارجها.
منزل فيصل فهمي سعيد وهو اقتصادي وموقع آخر على بيان رفض قانون الاستثمار ونجل احد الضباط القوميين الأربعة الذين حاولوا في الأربعينات الانقلاب على الملكية وأعدموا بسبب ذلك، يقع خلف مستشفى اليرموك القريب من شارع المنصور. وفيصل سعيد قومي عربي كما يعرِّف نفسه، وهو تجاوز السبعين من العمر. صورة والده الضابط في صدر غرفة الاستقبال لم تنتزع يوماً. يقدم شاياً معطراً خاصاً انتقى مذاقاته من بين عدد من العطور، وفيما تتولى زوجته بمساعة الأحفاد إعداده، يحكم هو جر الباب الذي يفصل غرفة الاستقبال عن بقية المنزل فتنحبس رائحة زمن آخر. انت دائماً متنازع في منازل هؤلاء الرجال، فالذين تميل الى الاعتقاد بأنهم اهل بغداد الحقيقيون يتكلمون بلغة اخرى. ليسوا سكان القصور الحاكمة، ولا هم اهل الضواحي الثائرون، ولكنهم قديمون، ويبدو ان انقطاعهم عن الاتصال بالعالم الخارجي خلال سنوات البعث ابقاهم في زمن لا يصلح للانبعاث من جديد. انهم قوميون من النوع الذي ينفي عن العراقيين كل شيء الا عروبتهم وإسلامهم، وهم بالتالي يرون ان اي تعاط مع الوضع في العراق على انه وضع مركب من تفاوتات وانقسامات مصدره المحتل الغريب الذي بدأ يخطط لحملته على العراق منذ العام 1920. ويقول سعيد "صدام حسين كان حاكماً استبدادياً، والقول إنه قومي عربي كذبة كبرى. اما المقاومة الراهنة فليست سوى ردود فعل. يجب علينا ان ننظم انفسنا ونبدأ بتحرير العراق من الاحتلال العسكري والاقتصادي، وذلك عبر التنظيم السياسي الحقيقي لصفوفنا نحن العراقيين الرافضين للاحتلال وللنهب الاقتصادي الذي نتعرض له من الأميركيين. نحن موجودون على شكل تجمعات، ونحاول الآن تأسيس تنظيم يؤمن بالعراق الحر وبالأمة العربية الموحدة والأخوة العربية والاسلامية".
لكن لخطاب هذه المجموعة او لخطاباتها وجهاً اهلياً داخلياً وليس المحتل هدفها الدائم. فالقوميون في سياق نفيهم شقاق الأمة ووحدتها يقعون في فخ استئثار الاختلافات، فلا بد من ان تقع في كلام هؤلاء على رفض لحقوق الأقليات القومية كالأكراد مثلاً، او على نفي الخصوصية الشيعية. لا بل ربما وقعت في كلام بعضهم على اعجاب مضمر بقوة صدام حسين او قوة العراق في عهده، على رغم ان كثيرين منهم كانوا من ضحايا هذه القوة. عندما يتحدث هؤلاء مثلاً عن خطأ صدام حسين في الكويت، يتحدثون عن خطأ التوقيت وعن الأغراض الشخصية، لكن بعضهم لا يفوته الحديث عن الكيانات الصغيرة المصطنعة، او عن الأطماع الايرانية التاريخية في ارض العراق وثرواته. وربما كان النقاش المتعلق بالدستور وبكتابته لحظة اخرى يقف عندها هؤلاء في مواجهة الدعوات التي تطلقها القوى الجديدة في العراق، خصوصاً تلك المتعلقة بالنظام الفيديرالي، اذ يعتبر هؤلاء ان الدعوات ليست سوى دعوات لتقسيم العراق وتحويله الى دويلات ضعيفة يقف خلفها الأميركيون وعملاؤهم.
في بغداد ووسط ضجيج الأوضاع الأمنية المتردية، والأسواق المزدحمة، والناس المسرعين الى اعمالهم او منازلهم، تشعر ان هناك احياء ومناطق صامتة. الناس فيها غير مندمجين في الحياة الجديدة. حتى الخوف من سيارة مفخخة او من حادث امني من ذلك النوع الذي تشهده المدينة كل يوم، لا يحدث في هذه الأحياء ذلك الهلع الذي يحرك المشهد. شارع الأعظمية مثلاً واحد من هذه المناطق، والأحياء المحيطة بمسجد ابي حنيفة. الأزقة هذه وخلافاً لأزقة المدن لا تشهد اكتظاظاً، فالناس وكما قال احد العابرين معظمهم في المساجد او في منازلهم في يوم الجمعة الأول من رمضان. في المسجد الصغير في الأعظمية لم ينزعوا صورة الرئيس الفار، وانما غطوها بملاءة بيضاء راح الفتية يرفعونها وفي الأرض ثمة اوراق ومنشورات مختلفة. احد هذه المنشورات كان الدعوة التي اطلقها حزب البعث الى اعتبار نهار السبت الأول من رمضان يوم انطلاق المقاومة وهدد فيه السكان الذين لا يلتزمون إقفال محالهم، في حين تضمن منشور آخر اعلاناً عن قيام عدد من الأحزاب الناصرية في الاتحاد تحت اسم الحزب القومي الناصري الموحد. وفي هذا الوقت كان الشيخ عبدالسلام الكبيسي يباشر خطبته من مسجد الإمام ابي حنيفة الكبير المجاور لأحياء الأعظمية، وكان رجال وشباب كثر بدأوا بالخروج من منازلهم مرتدين اثواباً عربية ترتفع قليلاً عن كواحلهم، متوجهين الى المساجد. على مدخل مسجد الإمام أبي حنيفة يتجمع عدد من سدنة المسجد والكلية الإسلامية المجاورة. وعلى رغم تحول المسجد الى واحد من المواقع السياسية والرمزية لسكان المنطقة، فلا يبدو ان الإجراءات الأمنية حوله مشابهة للإجراءات المتخذة حول مواقع دينية موازية. خطب الشيخ الكبيسي تلامس الدعوة الصريحة الى الجهاد العسكري ضد الأميركيين. ويؤكد الشيخ ان المقاومة هي الى الآن مقاومة اهل السنة والجماعة، وينفي ان تكون المقاومة هي من قام بالتفجيرات الأخيرة لمراكز الشرطة والصليب الأحمر. لكن اختبار هذا الكلام في بغداد مختلف عنه في مدن المثلث السني، فهو في العاصمة على احتكاك يومي مع كلام مختلف تطلقه مساجد اخرى، وهو يطلق وسط اتهامات متبادلة بالوقوف وراء التصفيات التي تشهدها بغداد يومياً والتي تأتي على مسؤولين صغار في حزب البعث وعلى ابرياء كثر، وفي ظل غياب اي وسيلة لقياس المسؤولية وتحديدها.
الخلاصة التي يمكن ان ينتهي اليها من يستمع الى الكلام العراقي اليوم، تتمثل في ان هذا البلد كان يعيش وعلى مدى العقود الثلاثة الفائتة حرباً اهلية فعلية، وما يجري الآن هو امتداد لهذه الحرب وصور مختلفة لها. المقاومة الآن هي احد هذه الصور، وكذلك الدعوة الى اجتثاث حزب البعث التي يطلقها ضحايا واطراف في هذه الحرب، خصوصاً انها تستهدف استئصال شرائح ومجموعات. لكن الأقنعة كثيرة والعراق ومنذ عقود كثيرة وهو يضع قناع الوحدة على رأس مهشم.
* غداً حلقة رابعة، حول أرشيف النظام السابق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.