من يحدد بداية ونهاية للحرب اللبنانية، بتاريخين اثنين، يجنح إلى عدم تكليف نفسه عناء السؤال: هل بدأت فعلاً في 13 نيسان أبريل 1975، وانتهت في 13 تشرين الأوَّل أكتوبر 1990... وكفى!؟ لتاريخ البداية، إذا شطح الخيال مع شاعر، يقال "نحن خلقنا بيتنا الخطر"... وعليه فالحرب في صحن الدار، مذ كانت هذه الأرض. وإذا رُكن إلى التاريخ الحديث للبنان الكيان والدولة، يقال إن شرارة الحرب بدأت مع "ثورة 1958" التي بقي جمرها تحت الرماد، واستعر ليتحول كرة نار راحت تكبر بدءاً من العام 1969، مروراً بمحطات عدة أبرزها عام 1973، وصولاً إلى الانفجار الكبير عام 1975. ولتاريخ النهاية، ثمة أسئلة: هل الحرب فقط بالمدفع، حتى إذا ما توقف، تكون انتهت؟ أوليست هي أحياناً، وتهكماً، حرباً بالنظارات، وتالياً بالمناظير القريبة والبعيدة، بما يؤكد مقولة "حرب الآخرين على أرضنا"؟ أوليست مستمرة في نظر من فقدوا قريباً، إما مات وإما لما يعد" أو في نظر من أصيبوا بإعاقة، أو اقتلعوا من أرضهم، فصارت أرضهم، على قربها منهم جغرافياً، بعيدة بُعدَ بحر الظلمات" أو في نظر من هاجروا وبات حلم عودتهم شبه مستحيل، ليس فقط لأن غيرهم "حل محلهم" في امتلاك الهوية، بل ولأن حياة ومستقبلاً آخرين باتا ينتظرانهم وينتظران أولادهم وأحفادهم حيث هم؟... وأخيراً، وليس آخراً، ماذا عن جنوبلبنان وبقاعه الغربي؟ علامات الاستفهام هذه طرحتها "الحياة"، حين اختارتها بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في بيروت، لمشاركة فريق صحافي أجنبي تحقيقاً ميدانياً، في أيار مايو 1999، في المناطق اللبنانية التي ما زالت تعيش الحرب، والوقوف على أحوال أشخاص ما زالت أجسادهم ونفوسهم شاهداً على الحرب. ونشرت نتائج التحقيق مع نتائج تحقيقات مماثلة في دول أخرى شهدت حروباً وأزمات، في إطار مشروع "الناس والحرب، أصوات ضحايا الحرب... حتى الحرب لها حدود"، وتوجت بمؤتمر "قوة الإنسانية" الذي عقد في جنيف في تشرين الثاني نوفمبر الماضي. ولكن ثمة ملاحظات يجب أخذها في الاعتبار قبل قراءة القصص الإثنتي عشرة التي جمعتها "الحياة" من نحو ثلاثين ضحية حرب: أن أسلوبها محايد، على ما يقتضي العمل مع المنظمة الدولية الانسانية، وأن بعضها تجاوزه الزمن، بفعل التطورات، وأن بعضها الآخر ما زال في واجهة الأحداث، وإن مصوغاً منذ أكثر من سنة... وعلى رغم ذلك، تبقى هذه القصص عينة من مئات، يضج بها المجتمع اللبناني، وإن بصمت، وتصلح مثلاً صارخاً على أن الحرب لم تنته بعد، ربما لأن الشعب ولاسيما منه من هم مادة هذا الموضوع لم يشعر أنه انتصر. - 1- شتلة التبغ ... والبيت يجمع بين زينب ناصر توبة وزهر نمور ورد أنهما أبعدتا عن قريتيهما، من دون أن يكون لهما ذنب مباشر. لتتحول الأولى معيلة لعائلتها بعد اعتقال زوجها وابنها، وتهتم الثانية بزوجها المريض الذي أبعد معها. كانت الخامسة والنصف صباحاً، وأفراد عائلة توبة نيام، حين أفاقت زينب على حركة خارج منزلها في قرية أرنون، لتدخله بعد قليل قوة من ميليشيا لبنانية تتعاون مع اسرائيل، وتطلب زوجها مصطفى. فاقتادته بعدما ضربته وعصبت عينيه. عندها تقول زينب "بكيت ثم صرخت، وسألتهم ماذا فعل لتأخذوه؟ أجابوني هو يعرف، وذهبوا. ضربناهم بالحجارة، أطلقوا فوق رؤوسنا النار، فهرعت أنا والأولاد الى داخل المنزل". سيق مصطفى الى سجن الخيام. وبعد أيام لحق به نجله علي 12 عاماً وزينب نفسها التي خرجت من المعتقل بعد نحو شهر، فيما زوجها وابنها ما زالا فيه منذ سنة ونصف السنة أطلقا قبل نحو شهر. اضطرت زينب، بعد خروجها من السجن، وبعدما باتت مسؤولة عن إعالة أولادها، الى هجر قريتها وأرضها حيث تعمل العائلة في زراعة التبغ. وانتقلت لتستريح من الضغوط، الى قرية يحمر المجاورة حيث والداها وأقارب لها. ضمنت قطعة أرض كبيرة تعمل على زراعتها تبغاً، بموجب ترخيص رسمي بذلك، تبيع بموجبه المحصول لشركة حصر التبغ والتنباك اللبنانية. "الوضع صعب عليّ كثيراً. أعمل وأهتم بأولادي ويساعدنا مجلس الجنوب، وكثر من أقاربي يهتمون بي. لكن رؤية زوجي وولدي المعتقلين تساوي الكون كله". وتصر على العمل، ولو وحيدة، في زراعة التبغ، "مهنتها" وزوجها الذي خلف لها جراراً زراعياً لا تستعمله ولا تدع أحداً يشغله، لكنها تديره بين حين وآخر "علّ مصطفى يعود ويكون سليماً ليعاود استخدامه". وتشبه بتشبثها بأرضها أغنية لبنانية عن المواطن الجنوبي الذي من فرط تعلقه بترابه وغرامه بها "يراقص شتلات التبغ". زارت زوجها وابنها منذ اعتقالهما ثلاث مرات بمعية الصليب الأحمر الدولي الذي يؤمن لذوي المعتقلين في سجن الخيام هذه الفرصة مرة كل ثلاثة أشهر، دورياً. لكنها تزورهما يومياً وتحادثهما كلما عادت من الحقل الى المنزل المزدانة جدرانه بصورهما. غضبها على المعتقلين لا يوصف "حتى إني إذا رأيت أحدهم، ولو جريحاً ينزف، أشرب من دمه". يهدأ الغضب، فتطالب بأن تحترم القوانين التي تحمي المدنيين خلال الحرب. وعلى رغم همها اليومي، تعتز بنفسها. "فأنا أسير في الشارع ورأسي مرفوع، لأن زوجي وابني يواجهان العدو ويجاهدان من أجل وطنهما". لكن قصة زهر تختلف في تفاصيلها عن قصة زينب، وإن تشابهتا في الجوهر. فنجلها كان يعمل مع القوات الإسرائيلية في حاصبيا قريته المحتلة منها، منذ سنين. فترك المنطقة وسلّم نفسه الى الجيش اللبناني متعاوناً معه على كشف شبكات تتعامل مع الإسرائيليين، ما سهّل له اعتقال عدد كبير من أفرادها. بعد أسابيع على الحادث، تقول السيدة زهر السبعينية، "طلبت مجموعة من الميليشيا المتعاونة مع إسرائيل مني أنا وزوجي محمود 80 عاماً أن نذهب الى خارج المنطقة لموافاة ابننا. رفضت ترك المنزل وقلت لأفراد المجموعة: ما لنا ولابننا هو في حر في ما فعل. فأجابوني أن أمر ملاقاته قرار من الأممالمتحدة تقصد ربما قوات الطوارئ الدولية المنتشرة في المنطقة، ولا خيار لديكما غيره. اضطرنا الى الذهاب، وتركنا كل شيء في المنزل على حاله، حتى طعام الغداء الذي أعددته. خفت واعتقدت أنهم عاودوا اعتقال ابني وسيقتلونه أمام عيني، فصاح بي زوجي: منذ شهرين وأنت تبكين غيابه عنا، فلنذهب لرؤيته". وعندما سارت بهما السيارة الى خارج المنطقة ومن ثم الى نقطة للجيش اللبناني أدركت زهر أنها أبعدت وزوجها. فتدبر لهما نجلهما منزلاً في بلدة بعقلين الشوفية، حيث أقارب لها، وهما يعيشان فيه منذ ثمانية أشهر. وتبكي زهر وتغص مرات، وهي تروي القصة خصوصاً أن زوجها على كبر سنّه يرسو في الفراش بعدما كسر وركه، ولا تقدر على خدمته كما يجب لأنها أيضاً مريضة، لا تقوى حتى على رفع صينية قهوة لتقدمها الى زوارها. تعرف، في حالها هذه، أنها مشتاقة الى منزلها وإلى أولادها وأحفادها الذين ما زالوا في حاصبيا، وإلى أولادها المهاجرين في فنزويلا، وتمضي بعض وقتها في النهار في مشاهدة صورهم وتقبيلها. وتعرف أيضاً أنها مظلومة، ولا يهمها من القوانين والأعراف الدولية سوى أن يترك الإنسان، وخصوصاً العجوز في سلام في منزله. وتظهر تسامحاً ونبلاً، عندما تُسأل هل تساعد جندياً عدواً جريحاً صادفته، وقد يكون مسبباً لمأساتها، إذ تقول "حتى من ظلمني، لا أتمنى له إلا الخير. لا أريد الشر لأحد وكل ما أطلبه ألا يضطر إنسان الى الإبتعاد عن منزله، لأن البيت والعائلة أعز ما في الدنيا، جيراننا هنا حيث نحن، مثل أولادنا، يساعدوننا دائماً ولا يدعوننا نحس أن ثمة ما ينقصنا، والصليب الأحمر الدولي أحضر لنا مؤونة وكساء. وعلى رغم العاطفة المحاطة بها هنا، أحس بضيق لأنني بعيدة عن منزلي". وتتضرع الى الله "أن يكون في قلوب الناس رحمة وشفقة على المسن والعجوز والطفل والبريء، فلا يؤذونهم". وتقول "نريد العودة الى منزلنا حيث نكتفي بلقمة خبز حاف هي لنا أغلى من مال الدنيا كله. نجلنا الذي بسببه نحن هنا، حين اختار طريقه هذه لم يسألنا رأينا. لم يبق لنا، أنا وزوجي، إلا سنوات قليلة، فأرجوكم أعيدونا الى منزلنا لنمضيها فيه ونموت هناك". - 2- اعتداء على كرامة الإنسان قلة هنّ النساء اللواتي عايشن مآسي الحرب وانعكاسها على المجتمع، وبقين على تماس يومي معها، وما زلن يعملن على درء مخاطرها عن أيام السلم. ومن هؤلاء الدكتورة مي هزاز، مديرة المدرسة اللبنانية للتدريب الإجتماعي التابعة لجامعة القديس يوسف في بيروت، والمرشدة الإجتماعية. بدأت الحرب في منطقة عين الرمانة حيث كانت تقطن هزاز مع والديها. وحوصرت هناك نحو ثلاثة أشهر، وعانت مع سكان حيها الكثير، في وقت بدأت تقل المؤن وتُفقد متطلبات الحياة اليومية، خصوصاً المأكل والمشرب والمحروقات. وتقول "حيال ذلك، قصدني شبان من الحي، لم يريدوا الإنخراط في الحرب، مقاتلين، لكنهم أعلنوا عدم رغبتهم في أن يبقوا مكتوفين أمامها. فشكلنا نواة مجموعة، راحت تتسع، وجلنا على العائلات نقف على متطلباتها، وبالتالي على ما بقي لديها من مخزون غذائي. بدأنا بالطحين، وجمعنا منه كمية، وأقمنا فرناً شارك كثر في تشغيله، حتى استطعنا تأمين مناقيش وفطائر يومياً للجميع". وترى في هذا العمل "وجهاً من التضامن بين الناس خلال الحرب، على ما شهدته من آلام وانتهاكات لحقوق الإنسان". هذا إيجاباً. أما سلباً فتنظر هزاز الى مرحلة ما بعد الحرب، وهي التي تظهر خلالها آثارها. وتقول "على رغم مظاهر العمران وورشة العمل القائمة في بيروت وغيرها، يعاني الشعب فقراً مدقعاً، خصوصاً في مناطق مثل برج حمود والفنار والضاحية الجنوبية. وهنا يتركز عملنا، إذ ثمة عائلات لا يمكنها أن تؤمن لأبنائها سوى الشاي والخبز الحاف". وتلفت الى تأثير الحرب في العلاقات الأسْرية، "ما يؤدي أحياناً الى طلاق بين الزوجين، او انشطار العائلة". وهزاز، التي جعلتها الحرب تتهجر ومركزَ عملها ومسكَنها أكثر من عشر مرات وتتعرف بالتالي الى شرائح لبنانية عدة وأنماط عيش في مناطق كثيرة، تلاحظ اليوم تصرفات عنف وممارسات عدائية ونزعة الى قلة التسامح بين طلاب المدارس الصغار. وتأسف لأن الشبان والشابات أضاعوا المقاييس والمثل وبدأوا يفقدون القيم، وأهمها العائلة والتسامح والتضامن. وكونها امرأة تعتبر هزاز أن تجربة النساء في الحرب مختلفة عن تجربة الرجال، "فالرجل عموماً كان همّه السلطة، وكان يسر بمشاهد الدمار والعنف والقتل. أما المرأة فكانت تعمل على إعطاء الحياة والمساعدة في مجالات عدة". ثم أن النساء، في رأي هزاز، "اكتسبن خلال الحرب ثقة بالنفس أكبر وغيَّرن نظرة المجتمع إليهن، خصوصاً عندما كن وحيدات من دون أزواجهن أو أبنائهن الشبان، واضطررن الى اتخاذ قرارات خطيرة، كإخلاء المنازل والنزول الى الملاجئ أو حتى الإنتقال من منطقة إلى أخرى، ولو تهجيراً، فقط من أجل حماية أطفالهن وأنفسهن". وعلى رغم انعكاسات الحرب السلبية على المجتمع في حال السلم، تظن هزاز أن الشفاء منها ممكن. "فعندما أفكر في نفسي وفي ما فعلته مع مرشدات اجتماعيات كثيرات لعائلات عدة، وما تعرضنا له من مخاطر أمنية، أرى أنني طبيعية جداً، وقادرة على التأقلم، خوفاً أو قلقاً أو سلماً". وتنوّه بالمجتمع اللبناني الذي يملك طاقة وقدرة على تجاوز المعاناة واسترجاع الثقة بالنفس للعيش من جديد طبيعياً. وتصف هزاز اتفاقات جنيف بأنها جيدة، "ولكن، ويا للأسف، لا تطبق، ولا أحد يملك وسيلة لتطبيقها بحرفيتها. والأكثر مدعاة الى الأسف، أن ثمة من يطلب من الشعب تطبيقها، في حين يخرقها مسؤولون وحكومات في العالم كله". وتشير الى أن حقوق الطفل في الحرب لم تكن محترمة، وأمثلتها على ذلك كثيرة منها: سقوط قذائف على مدارس، استهداف القناصين باصات مدرسية، زرع سيارات مفخخة في أحياء آهلة بالسكان... أما كيف تحترم حقوق الأطفال، خلال الحرب؟ فصعب الجواب على هزاز، لكنها تطالب "بألا تكون هناك حروب. فالحرب عبثية. وعلى الجميع أن يدركوا أن الأطفال أبرياء، ولا ذنب لهم في حروب الكبار". وتطالب "بشرعة دولية جديدة لحقوق الطفل". وتوجه هزاز رسالة الى العالم "أن المدنيين هم ضحايا الحرب وهم الذي يدفعون ثمنها الأكبر، أياً تكن هذه الحرب، لا المسؤولون أو المقاتلون. الحرب اعتداء على كرامة الإنسان، فأوقفوها". - 3- وعد... ومريم لم تكن وعد بزيع تدري أن مشوارها لزيارة قريبتها، سيكون الأخير لها سيراً. ولم تدرك مريم البستاني أن لعبة الأطفال قد تكون قنبلة تفقدها نصف كفّها اليمنى. وعد 19 عاماً ومريم 13 عاماً كانتا طفلتين عندما أصيبتا، وهما نموذجان لما خلّفته الحرب من مآسٍ في حق الأطفال في لبنان. "قريتي زبقين تتعرض دائماً للقصف لأنها في مكان قريب من ثلاثة مواقع اسرائيلية في جنوبلبنان" تقول وعد. وهي تروي ما حصل لها قبل سبع سنوات. "اشتد القصف، وكانت الطبقة الأرضية لمنزلنا القريب من مركز للوحدة الفيدجية العاملة في قوات الطوارئ، تؤوي نحو 50 شخصاً من أبناء القرية. هدأ الوضع قليلاً، فاستأذنت أمي للذهاب الى بيت خالتي، في طرف القرية، لتفقدها. ذهبت أنا وأخي، ولم نمكث طويلاً، على رغم أنها طلبت مني أن أساعدها في غسل الثياب. شعرت بخوف، فطلبت مني الرحيل. عدنا الى المنزل وناشدت أخي، تحسباً، أن يسلك درباً غير التي سأسلكها ففعل. وعندما بلغت الطريق العام، لم أجد نفسي إلا ملقاة أرضاً ورجلاي مقطوعتان من فوق الركبتين، والدم يغلي في جسمي. صرخت. التفت عن يميني، فإذا بثلاثة شبان مطروحين أرضاً مثلي، عرفت لاحقاً وأنا في المستشفى أنهم قضوا بالقذيفة نفسها". تروي وعد وتتذكر تلك اللحظة، ويداها على رجليها، وقد ركب لها طرفان اصطناعيان بمساعدة من قوات الطوارئ الدولية والصليب الأحمر الدولي، وهي تسير عليهما بمساندة عكاز، وتقضي يومها في ترتيب المنزل ومساعدة ذويها في شك التبغ وتجفيفه، بعدما رفضت العودة الى المدرسة. تحس دائماً بأوجاع، وثمة شظايا ما زالت في رأسها تسبب لها صرعاً من وقت الى آخر، ولم يقدر طبيب على معالجتها، فضلاً عن أن نظر إحدى عينيها خفيف. تتقبل وضعها الحالي، وتتأقلم معه الى درجة باتت تعتبره طبيعياً "ولكن عندما أقع أنزعج، وألعن الساعة التي أصبت فيها". تصمت قليلاً. ولا تتابع. كانت تسمع أصوات قذائف بعيدة، وهي تحدثنا، فيدب الخوف فيها. ولكن، بابتسامة لا تفارقها، وبخجل يميز شخصيتها، تعود الى الكلام "كلما سمعت صوت انفجار أتذكر ما حصل لي". وكما وعد بزيع، مريم البستاني، وهي من قرية البياض القريبة من زبقين. كانت في حقل قرب منزل ذويها تجمع الصعتر البري مع أخيها. "وجدنا لعبة وضعناها في كيس الصعتر وعدنا بها الى المنزل. كانت تشبه السيارة، فتزاحمت أنا وأخي لمن تكون. انتزعتها من يده فانفجرت بيدي، وأصبت بشظايا، في رجلي وبطني". هرع جار لآل البستاني إليها ونقلها الى المستشفى، فلم يستطع الطبيب إنقاذ الخنصر والبنصر اللذين قطعا، بينما تعطل الإبهام. حدث ذلك قبل عامين. وصارت مريم عاجزة عن استخدام يدها في الكتابة، فتركت المدرسة لأنها لم تقوَ على الكتابة باليسرى. لكنها في المقابل تساعد أمها في بعض الأعمال المنزلية والزراعية. وتشكو أحياناً ما حصل لها. تشكو بصمت، لأنها من الخجل بمكان أنها تهمس وهي تتكلم، وقليلاً ما تقع عيناها على من يحدثها. وهمسها هذا وليد خوف، لأن ثمة طائرات حربية أو طائرات استكشاف تعبر دائماً أجواء قريتها. فتذكر أن اللعبة التي انفجرت بيدها، ألقتها إحدى هذه الطائرات. وبسؤالهما هل تساعدان جندياً عدواً مصاباً، وإن علمتا أنه مسؤول عن إصابتيهما؟ تجيب وعد "على رغم ما فعله بي، أساعده، ولكن أسأله: هل ترضى بأن تكون أختك مثلي؟ سامحك الله على ما فعلته بي". أما مريم فتجيب "أتركه أرضاً ولا أساعده". وفي حين تتمنى وعد التي تجاوزت تأثير الإصابة النفسي فيها، أن تصبح مصممة أزياء، لا تعرف مريم ماذا ستكون عليه مستقبلاً. وتغص وعد قائلة "لولا الحرب لما تركت المدرسة". أما التحذير الذي وجه الى المواطنين بعدم لمس أي جسم غريب، قد تكون ألقته طائرات معادية، فقد وصل متأخراً بالنسبة الى مريم التي ستفتقدها حقلة الصعتر من الآن فصاعداً، لأنها لم تعد تقصدها قط. يتبع