السياحة تساهم ب %10 من الاقتصاد.. و%52 من الناتج المحلي «غير نفطي»    سلوكياتنا.. مرآة مسؤوليتنا!    هل ينهض طائر الفينيق    التعاون يتغلّب على الخالدية البحريني بثنائية في دوري أبطال آسيا 2    «الكوري» ظلم الهلال    «فار مكسور»    أمير تبوك يستقبل رئيس واعضاء اللجنة الوطنية لرعاية السجناء والمفرج عنهم    أمانة القصيم تنجح في التعامل مع الحالة المطرية التي مرت المنطقة    شخصنة المواقف    النوم المبكر مواجهة للأمراض    الملك يضيف لؤلؤة في عقد العاصمة    الموارد البشرية توقّع مذكرة لتأهيل الكوادر الوطنية    الفيحاء يواجه العروبة.. والأخدود يستقبل الخلود.. والرياض يحل ضيفاً على الفتح    وزير الرياضة: دعم القيادة نقل الرياضة إلى مصاف العالمية    نيمار يقترب ومالكوم يعود    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أنا ووسائل التواصل الاجتماعي    التركي: الأصل في الأمور الإباحة ولا جريمة ولا عقوبة إلاّ بنص    النضج الفكري بوابة التطوير    برعاية أمير مكة.. انعقاد اللقاء ال 17 للمؤسسين بمركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة    الذكاء الاصطناعي والإسلام المعتدل    نور الرياض يضيء سماء العاصمة    قيصرية الكتاب تستضيف رائد تحقيق الشعر العربي    الشائعات ضد المملكة    الأسرة والأم الحنون    سعادة بطعم الرحمة    تميز المشاركات الوطنية بمؤتمر الابتكار في استدامة المياه    بحث مستجدات التنفس الصناعي للكبار    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالريان يُعيد البسمة لأربعينية بالإنجاب بعد تعرضها ل«15» إجهاضاً متكرراً للحمل    تقليص انبعاثات غاز الميثان الناتج عن الأبقار    التويجري: السعودية تُنفّذ إصلاحات نوعية عززت مبادئها الراسخة في إقامة العدل والمساواة    إعلاميون يطمئنون على صحة العباسي    الزميل العويضي يحتفل بزواج إبنه مبارك    احتفال السيف والشريف بزواج «المهند»    يوسف العجلاتي يزف إبنيه مصعب وأحمد على أنغام «المزمار»    «مساعد وزير الاستثمار» : إصلاحات غير مسبوقة لجذب الاستثمارات العالمية    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    "الأدب" تحتفي بمسيرة 50 عاماً من إبداع اليوسف    60 صورة من 20 دولة للفوتوغرافي السعودي محتسب في دبي    المملكة ضيف شرف في معرض "أرتيجانو" الإيطالي    تواصل الشعوب    ورحل بهجة المجالس    دشن الصيدلية الافتراضية وتسلم شهادة "غينيس".. محافظ جدة يطلق أعمال المؤتمر الصحي الدولي للجودة    باحثة روسية تحذر الغرب.. «بوتين سيطبق تهديداته»    في الجولة الخامسة من يوروبا ليغ.. أموريم يريد كسب جماهير مان يونايتد في مواجهة نرويجية    خادم الحرمين الشريفين يتلقى رسالة من أمير الكويت    إشادة أوروبية بالتطور الكبير للمملكة ورؤيتها 2030    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    اكتشاف الحمض المرتبط بأمراض الشيخوخة    مشروعات طبية وتعليمية في اليمن والصومال.. تقدير كبير لجهود مركز الملك سلمان وأهدافه النبيلة    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هؤلاء هم المرجفون    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طه حسين روائياً وقاصاً وكاتب سيرة في ذكرى غيابه الثلاثين
نشر في الحياة يوم 28 - 10 - 2003

طه حسين الروائي والقاص وكاتب السيرة الذاتية، كيف نقرأه اليوم؟ هل صحيح ان أدبه السردي بات جزءاً من تراث القرن العشرين؟
كُتب الكثير عن طه حسين الناقد والمثقف والمؤرخ ودار الكثير من السجال حول كتابه "في الشعر الجاهلي"، أما طه حسين صاحب "الأيام" و"دعاء الكروان" وسواهما من الأعمال السردية فظلّ شبه منسي وربما شبه محذوف من المعترك الروائي المعاصر!
كيف نستعيد اليوم في الذكرى الثلاثين لغياب طه حسين 14 تشرين الثاني /نوفمبر 1889 - 28 تشرين الأول /اكتوبر 1973 صورته قاصاً وروائياً وكاتب سيرة؟
في تقديم "جنة الشوك" 1945، كتب طه حسين: "والذين يقرأون ما أذعتُه في الناس من الكتب منذ أكثر من ربع قرن يستطيعون ان يتبينوا في وضوح وجلاء أني أستجيب حين أكتب - وحين أكتب في الأدب خاصة - لشيئين اثنين: احدهما ما أرى أو أجد من عاطفة وشعور، والآخر قدرة اللغة العربية على أن تقبل فنوناً من الأدب لم يطرقها القدماء"، واذا اخذنا بما يقول به بعض دارسيه عبد المحسن بدر وعبد الحميد يونس خصوصاً لنا أن نعتبر الجزء الأول من "الأيام" - الذي صدر في 1929، قد نُشر في فصول قبل ذلك - استجابة طه حسين الفنية والنفسية لتلك الحملة الظالمة والمروعة التي تعرض لها بعد كتابه "في الشعر الجاهلي" 1926. لقد هزته هذه الحملة هزاً عنيفاً، وأحيت في نفسه الحساسة كل آلام الماضي ومراراته، فراح يُملي هذه الفصول، يشفي بها جراح نفسه، ويكيد لمن كادوا له، ويبدي رأيه - من وراء ستار شفيف - في طبيعة تلك القوى التي ناوأته جدياً، وتكاد الآن - في رجولته - ان تحرمه كل شيء.
وقارئ "الأيام" بأجزائها الثلاثة صدر الجزء الثاني في 1939، وصدر الثالث بعنوان "مذكرات طه حسين" في بيروت في 1967، ثم أعيد طبعه في القاهرة بعنوان الجزء الثالث من "الأيام" في 1972، لا يملك ان يدفع عن نفسه الاحساس بأنه يقرأ عملاً تمتزج فيه عناصر من الرواية، بشروطها الفنية، بعناصر من السيرة الذاتية، بما فيها بعض الصفحات التي تحمل طابع الاعترافات الخالص، بهدف واعٍ يسعى اليه الكاتب، يتخذ في الجزء الأول صورة كشف أبنية الثقافة الغيبية التي تسود القرى ومدن الريف آخر القرن قبل الماضي واوائل القرن الماضي. وفي الثاني تقديم نماذج لتلك الشخصيات من أبناء الريف التي كانت تفد الى القاهرة لتدرس الدين والعلم في الأزهر، فتصيب من العلم والدين ما تستطيع، ولكنها تصيب معهما ألواناً من علل الأجسام و"الأخلاق والعقول"، وتتخذ في الجزء الثالث كشف مختلف المشكلات العلمية والعملية التي يواجهها الطلاب المصريون ذوو التعليم المضطرب والثقافة التقليدية حينما يواجهون المناهج والدراسات الحديثة في جامعات الغرب، وللنواة الصلبة التي تصدر عنها عناصر "الأيام" جميعاً يمكن ان نجدها في تلك الرغبة الطاغية في العلم والتعليم، يبذل في سبيلها طه حسين - صبياً وشاباً ورجلاً - ما يستطيع وما لا يستطيع، يتمثل أولاً في تلقي ألوان الثقافة التقليدية التي تضطرب فيها القرية والمدينة القريبة، ثم الصراع بين هذه الثقافة والدراسات الحديثة في الجزء الثاني، وأخيراً الانحياز لهذه الجديدة في الجزء الثالث. وصاحب "الأيام" راضٍ عن نفسه و"عما اصاب من نجاح يُرضي أناساً ويُسخط آخرين"، وهو يسترضي ذاته القلقة بإذاعة قصة نجاحه بين الناس، ويقول في نهاية صفحاتها قولة الراضي عن نفسه، الذي يرى نفسه مصيباً في كل ما أخذ من الأمر وما ترك، لو استؤنف الأمر من حيث ابتدأ لاستأنف مسيرته التي سارها، لم يغير منها شيئاً، ولم ينكر منها قليلاً ولا كثيراً. وتلك مرحلة من مراحل الرضا عن النفس لا يبلغها إلا من خاض نضالاً مثل الذي خاضه طه حسين: صبي ضرير فقير في قرية بعيدة، يصبح - قبل أن يبلغ الثلاثين - استاذاً ومعلماً وكاتباً ملء السمع والبصر.
"الأيام" إذاً، مزيج من السيرة الذاتية والرواية، يبدو الجانب الروائي بمعنى تتابع الفصول بحسب منطق فني، لا يلتزم سرد الأحداث في تتابعها الزماني او المكاني، بل بحسب تتابعها كما يرد في وعي "الفتى". يبدو هذا الجانب واضحاً في الجزء الأول، ومن ورائه تبدو حركة الجماعة راكدة ساكنة، في الجزء الثاني يزيد نصيب صفحات السيرة، وتخضع لنوع من التتابع في الزمان، ويتضح هذا أكثر وأكثر في الجزء الثالث حيث تعنف الحركة ويتسارع الايقاع، ولا يعود الفتى - وقد أصبح شاباً - يخلو الى نفسه كثيراً، إذ عليه ان يلاحق مشكلات حياته هذه الجديدة، من الأزهر الى الجامعة، ومن مصر الى فرنسا المرة بعد المرة، فعليه ان يحقق الآن ان ما كان امتيازاً ممنوحاً له بحكم عاهته يجب ان يتحول الى امتياز حقيقي وتفوق.
وفي "الأيام" - بعد ذلك - تصوير صادق لتلك الفترة التي عاشها طه حسين آخر القرن التاسع عشر حتى عشرينات القرن العشرين. كان الطابع العام لتلك الفترة هو اختمار عناصر الثورة التي تفجرت في 1919، والنمو التدريجي للطبقة الوسطى وتقدمها، حتى اصبحت ذات قاعدة قوية عريضة قريبة للجماهير. وتحكي "الايام" قصة صعود طه حسين، ابن الشريحة الدنيا من هذه الطبقة - ليكون - فعلاً وقولاً - واحداً من الصفوة في العاصمة. وفيها ايضاً تلك الصور التي استخلصها صاحبها من قبضة العدم: الحياة في تلك القرية النائية من قرى الصعيد آخر القرن التاسع عشر واوائل العشرين، وصورة الازهر وما يحيط به ويضطرب فيه من طلاب وشيوخ وعلوم ومناهج، وصورة بعض احياء القاهرة آنذاك، وبعض نماذج المثقفين فيها، وما يحيط بذلك كله من صور الحياة في مصر قبل 1919 وبعدها بقليل.
وستبقى "الايام" دائماً وثيقة تكوّن طه حسين: عقلاً وقلباً ومسلكاً. وصورة للحياة المصرية المتهيئة للثورة آنذاك.
بين أعمال طه حسين الإبداعية تتميز "أديب" 1935 بصلتها الوثيقة بسيرته الذاتية، حتى يفضل بعض الدارسين اعتبارها جزءاً من"رباعية الايام" يقع مكانها بين الجزأين الثاني والثالث من حيث أنها تحكي فترة اختلاف طه حسين الى "الجامعة الأهلية" قبل سفره الى فرنسا. هذا التشابه الخارجي يعمقه ويؤكده تشابه آخر: إن طه حسين يختلق كثيراً من المبررات كي يتسلل من وراء صاحبه، ويحكي عن ذكريات له هي ذكريات الكاتب نفسه... "والغريب أنه كان يتحدث فيثير في نفسي مثل ما يثير في نفسه من الذكرى، ثم يتحدث عني وعما احب فكأنما انا اتحدث عن نفسي، ويعمق التقارب بين الصديقين حين يتفقان على السفر الى فرنسا لاستكمال دراستيهما. والشيء الذي لا شك فيه ان لشخصيته "أديب" اصلاً في حياة طه حسين، وأنه لم يخلقه من عند نفسه خلقاً، ونحن نقرأ عنه شيئاً في "الأيام" واذا نحن تجاوزنا تلك الصفحات الطوال التي يمكن ردها الى "الايام"، ونظرنا الى صوغ شخصية "الأديب" نفسه فإننا نرى رجلاً قبيح الوجه غليظ الصوت يفرض وجوده على طه حسين، وهو آنذاك يختلف بين الازهر والجامعة - حتى يصادقه ويتخذ لنفسه عليه حقوقاً، ثم هو يسبقه الى فرنسا للدراسة، وهناك تتوزع حياته بين الجد واللهو، فهو لعبة تتقاذفها معاهد العلم وبيوت اللهو، يمضي احياناً في الدرس حتى ينجح في ما يخفق فيه كثيرون، ثم يعود لينسى كل شيء بين أحضان امرأة أو زجاجة خمر، يرى الجنون مقبلاً عليه لكنه لا يملك أن يدفعه بنفسه، فيستسلم له أخيراً، تاركاً وراءه، ادباً رائعاً حزينا صريحاً، لا عهد للغتنا بمثله في ما يكتبه ادباؤنا المحدثون".
لكن هذا لا يكفي كي يبلغ طه حسين بأديبه أن يكون شخصية فنية مقنعة من جانب، ورمزاً يتجاوز وجوده الواقعي من الجانب الآخر، لهذا خلق في نفس بطله هذا الصراع بين زوجته "حميدة" التي أرغم نفسه على طلاقها من أجل أن يسافر الى فرنسا، وبين "فرنند" أول فتاة يقدر له أن يراها ويحادثها في فرنسا، ثم، "ألين" التي عرفها بعد ذلك فكان بين ذراعيها نعيمه ودماره ونحن لا نعرف أياً من هاته النسوة، نعرفهن من خارج، ومن حيث دلالة كلٍ منهن في هذا الصراع، فالمهم ان يدفع طه حسين بطله لأن يرتكب إثماً هو طلاقه لامرأته، وأن يتعذب من أجله في هذا التمزق الرهيب بين دور العلم ومجالس اللهو ثم ان يكفر عنه ويتطهر منه بالجنون الذي انتهى إليه.
كتب طه حسين "أديب" بعد أزمة إخراجه من الجامعة 1932 وهو يعترف في صراحة في سطورها الأخيرة أنه كتبها بعد أن أتاح ل"الظالمون" شيئاً من الفراغ، وهو ينحي باللوم على الجامعة في أكثر من مكان منها، ولعل هذا يجعل منها استجابته الفنية والنفسية لتلك الأزمة الحادثة من أزمات حياته، ثم ليقول فيها رأيه في موقف "المراهق" الشرقي من حضارة اوروبا الناضجة. قال مستتراً ليقول، بعد ذلك، صراحة في عمل لا ينتمي الى الفن بل الى فلسفة الحضارة والتربية هو "مستقبل الثقافة في مصر" بعد ثلاث سنوات فقط من صدور "أديب".
عملان روائيان
كانت "أديب" عملاً روائياً وثيق الصلة بسيرة الكاتب الذاتية، لكنه قدم لنا كذلك عملين روائيين خالصين: "دعاء الكروان" 1934، و"شجرة البؤس" 1944.
والصفحات الاولى من "دعاء الكروان" تلخص - على الفور - كل وجوه نجاح الرواية وفشلها، كل ميزاتها وعيوبها، ففي هذه الصفحات نلتقي بموقف "إثاري" يشير الى الطابع الميلودرامي للحادثة الرئيسة في الرواية، وبجملة تشير الى هدفها التعليمي والاخلاقي، وبالصوغ الشعرية الخطابية التي ستحدد اسلوبها الفني وتناولها لموضوعها، وبالرحلة التي قطعتها البطلة محددة دلالتها الاجتماعية الشاملة.
على أن المشكلة الحقيقية في هذه الرواية ان بها صدعاً رئيساً يمتد ليشمل موضوعها وطريقة تعبيرها عن هذا الموضوع معاً، أما الموضوع فرقيق أنيق مترف: كيف يمكن التطهر بالحب، وكيف يكون الصراع بين الحب والكبرياء، يدور في نفس قروية بدوية لا تزال في آخر الصبا وأول الشباب، لم تر من الحياة شيئاً غير مضارب قبيلتها على أطراف الريف، وذلك البيت من المدينة الصغيرة التي عملت بها زمناً، لكنها تدير هذا الصراع باقتدار حتى تنجح فيه وتنتصر، وهي تعي ذاتها وتفكر في نفسها "وتذكر ما مضى على علم به وتقدير له، وتستقبل ما سيأتي في رويّة وبصيرة واستعداد للاحتمال. هذا الصدع في شخصية "آمنة" يحاول طه حسين اصلاحه بأن يجعل لآمنة حظاً من التعليم، فهي تختلف مع سيدتها الصغيرة الى الكتاب، وتتلقى معها درس المعلم، بل يصر عاشق اللغة الفرنسية على أن يجعل بآمنة حظاً منها، فهي تتعلمها مع سيدتها، وتقرأ بها كذلك! وحسب طه حسين ان آمنة اصبحت فتاة فرنسية حقاً فاستقدم لها عقدة فرنسية خالصة كي تدور روايتها حولها، فلا شك في أن الموضوع - على هذا النحو - غريب كل الغرابة عن الواقع المصري، آنذاك، في تلك المدينة البعيدة من مدن الاقاليم، وتلك الصفحات الطويلة التي يرسم فيها المؤلف شخصيات واقعية، ويصف الاحداث بتفاصيل واقعية إنما تتناقض وهذا الاسلوب الشعري المغرق في الصيغة المعنية بموسيقى العبارة وباختيار اللفظ، الذي يميز مونولوجات آمنة الطويلة وتحليلها لمشاعرها حتى ادق خلجاتها.
ذلك أن المؤلف منح البطلة وعيه هو، ولم يخلق لها وعيها الخاص الذي نتلقى منه روايتها، فوعي المؤلف هو ما نلتقي به حتى تدبر آمنة انتقامها الاخلاقي بيدين تجتهد في أن تبقيا نظيفتين، لكنها تكتشف ضرورة وجود قدر من الشر المحسوب، يسارع الكاتب الى تبريره، ووعي المؤلف هو ما يلتقي به في ذلك التحليل الاجتماعي لحياة اثرياء الريف، وكبار موظفي الحكومة في عقود القرن العشرين الاولى، وهو ما نلتقي به في تلك الاهمية الكبيرة التي تضفيها البطلة على الكتب، من حيث انها تتيح لمن يفيد منها امكان الحركة الاجتماعية من مرتبة الخدم الى مرتبة السادة، وهو ما نلتقي به في هذا التصوير الرائع لبنات الليل واشباحه وينبوع الدم المتفجر حول آمنة بعد أن شهدت مصرع اختها، والادوار محددة تحديداً صارماً في هذا الحدث الميلودرامي: آمنة هي البطل الذي يحقق انتصاره بالمعرفة والارادة والمهارة في ادارة الصراع العاطفي، والمهندس هو رمز الغواية الذي يحترق بلهيب الحب فيُخلق خلقاً جديداً، و"هنادي" هي الضحية البريئة، من مصرعها تنبثق صحوة البطلة، والخال القاتل هو تجسيد الشر، ثم تأتي النهاية السعيدة - بعد مشاهد القتل والفرار والشقاء في الحب لتمسح الدموع وتؤكد معنى الحدث.
إذا كنتَ من المولعين بأسلوب طه حسين: بنسيجه العربي الخالص، وموسيقيته في تشكيل الفقرات والعبرات، وجرْس اللفظة المنتقاة بحرص وعناية، فإنك سوف تجد في "دعاء الكروان" منه شيئاً كثيراً، في تلك الصفحات التي تصف بنات الليل واشباحه او طريق العودة الى أطراف الصحراء، وما تراه العين من مشاهد الريف، لكنني لا اكتمك ايضاً انك ستجد تكلفاً واضحاً في صوغ جمل وعبارات قد يُرضي ائمة البلاغة القديمة، لكنه اليوم لا يرضينا. اراد طه حسين ان يكتب رواية مصرية، فجاء بموضوع فرنسي خالص واسقطه على الواقع المصري فضاق به، وتعثرت "دعاء الكروان" بين صيغتها العربية الشعرية وموضوعها الغريب، لهذا لم تلعب اي دور في تطوير الرواية المصرية والعربية، ولم تبق منها سوى صفحات من اجمل النثر المكتوب في العصر الحديث.
وبعد عشر سنوات قدم طه حسين روايته التالية، والاخيرة، "شجرة البؤس" 1944، وشجرة البؤس هي تلك التي غُرست حين امر "شيخ الطريق" بتزويج خالد من نفيسة، على قبحها، وكان حتماً أن تثمر هذه الشجرة ثمرات مرة يتابعها الكاتب جيلاً بعد جيل، والرواية هي - في التحليل الاخير - حركة هذه الاجيال المتعاقبة وتطورها الاجتماعي، وهي بين روايات طه حسين، اكثرها تقدماً نحو تصوير حركة المجتمع الذي عفرته مدن الاقليم، والقاهرة، آخر القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين، يتابع الكاتب هذه الحركة خلال عرضه لنماذج عن اجيال ثلاثة: جيل الاباء: يعملون بالتجارة ويراكمون الثروات ويتكلمون بالقرآن، ويخضعون في تدبير امورهم كلها لبناء متماسك من القيم الدينية والتقليدية، في هذا البناء يلعب "شيخ الطريق" الدور الرئيس، فهو يعرف كل شيء في اتباعه ومريديه، اليه يفزعون إن أحزنهم أمر، وهو يقضي في شؤونهم بكلمات قليلة غامضة يذهبون في تأويلها شتى المذاهب، يحط مصائرهم ويتحكم بها من دون ان يجرؤ واحد منهم على الاعتراض فهو عندهم صوت الله ورسوله. على هذا النحو يأمر الشيخ بغرس شجرة البؤس فتُغرس، ويلقى جيل الابناء منها عذاباً موصولاً.
ولا يكاد جيل الابناء يختلف عن آبائه كثيراً، لقد اصاب قدراً من التعليم المنتظم او غير المنتظم، وحين تكسد تجارة الاباء يتجه الابناء الى العمل في الوظائف الحكومية المتاحة، لم تعد تجارة الاباء رائجة لان اولئك الشياطين القادمين من القاهرة ومن وراء البحار يقيمون هذه المتاجر الجديدة ثم يملأونها بضائع وعروضاً، ويحيطونها بألوان من الزينة والبهجة تدعو الناس اليها وتغريهم بها، وعجز الفكر التقليدي وانماط الثقافة التقليدية عن مواجهة هذا الذي حدث، لم يستطيعوا ان يفهموا معنى هذه الرأسمالية الناشئة على الطراز الغربي، واكتفوا بأن يستعينوا بالله من شر هذه الشياطين التي تقوض اسس حياتهم، وسعوا الى شيخهم وتحدثوا اليه في ذلك فإذا هو يرى مثل ما يرون ويجد مثل ما يجدون ويقول مثل ما كانوا يقولون.
ولا يجدي هذا كله شيئاً: استمر تقوض البناء التقليدي، ومن قلبه بدأ تكوُّن الطبقة الوسطى الجديدة التي راحت تشق طريقها بسرعة الى مراكز الصدارة في المجتمع. وهنا يؤكد طه حسين حكمته المفضلة، ودرس حياته: إن التعليم هو السلاح الذي يمكن ابناء هذه الطبقة من التقدم واتمام الصعود الاجتماعي، ويتمثل هذا في الاختلاف بين ابناء الاخويْن "خالد" و"سليم".
حكاية خرافية؟
إن تقوض ابنية الحياة التقليدية، وتكوُّن الطبقة الوسطى الجديدة ونموها السريع هو الاطار الواسع الذي تدور داخله احداث "شجرة البؤس" وهو الذي يحميها من ان تتحول الى حكاية خرافية من حكايات الجدّات يلعب الادوار الرئيسة فيها شيخ الطريق وعفاريت الجن، وما البشر سوى ادوات بين ايديهم، وحينما تقدم طه حسين نحو ارض الواقع الاجتماعي ليجعله اطار روايته، اختار لون الواقع الذي عرفه وعاشه ووعاه، وليس مدهشاً ان نعرف عن جيل الاباء تفاصيل حياتهم اليومية في زواجهم وطلاقهم، في جدهم ولهوهم، أكثر مما نعرف عن الابناء والاحفاد، فإنما هذا الجيل هو الذي عايشه طه حسين وتفتح وعيه عليه، وإنما هي "ضرورة للحياة في اقليم من اقاليم مصر آخر القرن الماضي وأول هذا القرن"، استخلصها طه حسين من قبضة العدم، وقدمها إلينا بأسلوبه المألوف وطريقته في القص، التي كان يضيق فيها اشد الضيق بتعاليم النقاد، وقيودهم في بناء الرواية، فهو يتحدث الى قرائه مباشرة في الصفحات الاولى "وأظنك في حاجة قبل ان يتقدم هذا الحديث الى أن تعرف شيئاً من امر هذين الرجلين اللذين كانا يتناجيان...الخ"، ثم يتوجه إليهم بمحاضرة طويلة في فلسفة التاريخ، وانتقاء الحوادث ذات الدلالة حتى يفرغ من روايته. إن محاولة احصاء الايام والليالي عبث، ومحاولة احصاء ما يقع فيها من الحوادث سخف، فالخير ان نطوي من ذلك كله ما يجب أن يُطوى، وألا نقف من ذلك كله إلا عندما يستحق ان نقف عنده ونفكر فيه، ثم هو ينسى في بداية صفحات روايته انه حدثنا عن الاب ابي خالد حتى انتهت حياته، فيبعثه لنا بعد ذلك ويروح يتابع زواجه، وطلاقه وبوار تجارته. لا عجب بعد ذلك، إن رأينا في "شجرة البؤس" ترهلاً في بنائها الفني يبعد بها عن الاحكام، وسيبقى اثمن ما فيها تلك الصفحات التي تصور شيخ الطريق وطقوسه، وتصور الحياة اليومية لجيل الاجداد، آخر القرن التاسع عشر، وأول القرن العشرين.
كان طه حسين رائداً. حاول ألواناً شتى من الكتابة. وحاول الرواية ايضاً. ولئن كانت اعمال طه حسين الروائية لن تبقى طويلاً، ولم تؤثر في تطوير الرواية العربية تأثيراً كبيراً، فحسبه أنه كان رائداً في هذا المجال ايضاً، الى جانب مجالات اخرى من العمل الادبي والنقدي.
* ناقد مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.